أ.د. سيّار الجميل
أطياف العراقيين في طور الانقراض
أسئلة مشروعة: لماذا يفرغ العراق من أطيافه الاجتماعية القديمة الجميلة والنادرة؟ لماذا اختلفت الأسباب والموت واحد لأبناء مجتمع يغيب تنوّعه وفسيفساء ألوانه يوماً بعد آخر؟ لماذا يتمّ التركيز على عراقيين معينين لقتلهم، أو سحقهم دون آخرين؟ لماذا اختفى كلّ الصابئة المندائيين، وهرب أغلب اليزيدية العدويين، وذاب كلّ الكاكئيين والبهائيين؟ لماذا يطاول القتل كلّ الكلدان والسريان وألآثوريين ، ويلاحق الأرمن والسبتيين؟ وقد شبع قتلاً وتفجيراً وتعاسة غيرهم من العرب والتركمان المسلمين؟ إلى متى يبقى ملايين النازحين والمهاجرين واللاجئين خارج مدنهم ودياهم مبعدين؟ يبدو للدارس والمؤرخ أن مشروعاً لقتل العراقيين، أو خطفهم، من أجل تهجيرهم، قائم على قدم وساق في بلادٍ ضاعت فيها المقادير، وتاه عنها الأمن والنظام، وافتقد منها القانون، وانغمست في الفوضى والعبثية .. واستمر مشروع الاستئصال يتفاقم سنة بعد أخرى، منتقلاً من مكان إلى آخر في العراق.
شريعة الغاب تسيطر على مجتمع العراق، بدءاً من بغداد، وانتقالاً باتجاهات شتى.. وثمّة عمليات ممنهجة لشريعة الغاب، والحكومة (وما سبقها من حكومات) ساكتة عنها، ولا تعرف إلّا الإدانة، وكيل الوعود وترديد المواساة، وتشكبل اللجان من دون أيّة نتائج إيجابية على الأرض منذ سنوات طوال، فأوصلت البلاد إلى أتعس الأحوال، فالدولة فاشلة بامتياز، وغدت عبئاً على المجتمع، إذ تزدحم بالمشكلات والمفاسد، وليس لرئيس الوزراء أيّ فعل إجرائي يضبط من خلاله البلاد باستثناء الإدانات والتسويف وإلقاء الكلمات السريعة، علماً أنّ المجتمع غدا يأكل بعضه بعضاً من دون أيّ علاج حقيقي، ولن تأتي الانتخابات المقبلة بأي جديد.
كثر اليوم قتل العراقيين المسيحيين بأبشع الأساليب، من دون القبض على الجناة والمجرمين، فما الذي يبقي هذا الطيف مستمراً في العراق، إن كان وجوده مهدّداً بالاستئصال؟ ويجمع مراقبون ودارسون عديدون على أن استمرار هذا الحال لسنوات مقبلة سيجعل العراق يخلو من كلّ الأطياف، فثمّة خطط قذرة للتغيير الديمغرافي.. والأمثلة والشواهد فضحت هذه السياسات المستمرة منذ سنوات مضت، والتي اتبعت خططها المرسومة بحذاقة متناهية، بحيث خلت الموصل من مسيحييها القدماء، وقامت عصابات بتهجير المسيحيين من البصرة، ولم يبق إلا القليل منهم في بغداد، والتي ستخلو منهم بعد سلسلة العمليات الهجومية عليهم.. ويعاني المسيحيون في قراهم في سهل نينوى كثيراً من سياسات غاشمة. وسينقرض طيف الصابئة المندائيين، بعد تشريدهم والنيل منهم، فضلا عن اليزيدية الذين انقسموا في ولائهم بين حكومتين، مركزية وإقليمية، وبعد جرائم "داعش" ضدّهم، فقد هاجر آلاف منهم إلى ألمانيا.
إن خططاً خفيّة تطبقّها قوى مجرمة وعصابات إرهابية دينية وطائفية، لإبادة العراقيين المتنوعين، وتشويه المجتمع العراقي تشويهاً غريباً، فهي تؤمن بالأحادية، ولا تسمع للآخرين، كونها تكرههم كراهية عمياء، فهي تظلم الناس ظلماً جائراً.. وأتحدّى الحكومات العراقية منذ العام 2005 قاطبة أن تكون قد اقتصت من أيّ مجرم قاتل، أو مسؤول فاسد، فهي فاقدة مسؤولياتها في حفظ الأمن وتطبيق العدالة. وليست المشكلة منحصرة بحكومات فاشلة، بل منحصرة أساساً في نظام حكم سياسي محاصصي فاسد، يعد مسؤولاً عن وجود طبقة سياسيّة جائرة، أباحت لقوى شريرة من أحزاب وعصابات ومليشيات وجماعات إجرامية وإرهابية لها حركتها وتسلحها وعبثها وفسادها في كلّ العراق.. وليس لأركان النظام إلا الإدانة والخنوع، علماّ أن ما يحصل هو نتاج سياساتهم الخاطئة. وعليهم الاعتراف بالفشل الذريع في حكم العراق، وهم مستمرون على غيّهم ونهجهم الذي يبيح للطبقة السياسية الحاكمة احتكار الدولة، والسيطرة على أموال الناس وحلالهم وممتلكاتهم.. نظام حكم افتقد شرعيته التي خدعوا العالم به، كونه نتاج ديمقراطية وصناديق انتخابات كانت مزيفة، وكما حدث من تزويرات في السابق، فستحدث في الانتخابات المقبلة تزويرات فاضحة، بحيث تبقى الطبقة السياسية المعتوهة في سدة الحكم، لتكمل مهمتها في سرقة موارد البلاد، وسحق الناس وتدمير المجتمع، وهذا ما نشهده منذ 15 سنة مرت، حيث تفكك المجتمع ونهبت أمواله وسادت فيه شريعة الغاب. ولم يجد الناس من رئيس الحكومة الا الوعود والادانات من دون محاسبة المسؤولين والفاسدين .
قتل العراقيين وسحقهم مع مدنهم ودفنهم أحياء تحت أنقاض بيوتهم، وبقاء جثثهم حتى اليوم، وتبرير الفساد وبغاء الفاسدين، جريمة تاريخية كبرى، لا يمكن السكوت عليها أبداً. السكوت على المجرمين، والتغاضي عن عبث العصابات والاكتفاء بالإدانات وإطلاق الوعود الكاذبة من كبار المسؤولين يعدّ شراكة في الجريمة والفساد، وشراكة في عمليات الاستئصال المنظّم للعراقيين المتنوعين، وطردهم من مدنهم أولاً، ومن ثم تهجيرهم خارج وطنهم، والسيطرة على أموالهم وممتلكاتهم وبيوتهم. اضطهاد الأطياف العراقية المتنوّعة وحرمانها من حقوقها الوطنية لم يحدث أبداً في تاريخ العراق الطويل، مقارنة بما يحصل اليوم.. ولما لم ينفع الكلام، ولا التظاهر، ولا المعارضة من أجل الإصلاح، فإن الطريق الوحيد أمام العراقيين هو خطة طريق جديدة من أجل تغيير نظام الحكم الحالي الذي تفاقمت جرائمه، وتعاظم فساده، وتواصل فشله.. وينبغي محاسبة كلّ الصامتين على ما يحدث، ومعروفة هي تبريراتهم الواهية من أجل إبقاء هذا النظام المتهرئ.
ليعلم كلّ العالم أن إفراغ العراق من أهله الأصلاء بوسائل وحشية وإجرامية، والحكومة لا تحرّك ساكناً.. كنت أتمنى أن تستنفر كلّ مؤسساتها، كي تقبض على المجرمين وتحاكمهم، وتنزل أشدّ العقوبات بهم.. هي خطة مستمرة لإفناء كلّ أطياف المجتمع المتنوعة، في حين تحتكر السلطة شرذمة بائسة جاهلة فاسدة، غدت طبقة مسيطرة، ولها استبدادها وطغيانها، وأنها باقية بقوّة من يؤيّد وجودها، ويسكت على فسادها، ويدافع عن سياساتها.
خمسة عشر عاما من تطبيق هذه السياسات، وعلى أيدي الأحزاب والكتل والتيارات الدينية والطائفية التي تمثل هذه الطبقة الجائرة وذيولها من الشراذم والأتباع، جعلت العراق بؤرة للإرهاب والقتل وإشاعة الطائفية المقيتة والفساد والفاسدين.. إنها سنوات عجاف، لا يمكنها أن تستمر أبداً في حكم العراق، خصوصا إذا كان الجلاد يعدّ نفسه ضحية للفساد، من دون أية خطوات للقضاء عليه.
لا بد أن يأتي اليوم ليثور الشعب العراقي على نظام حكم سياسي مهترئ، بسبب الظلم والتمييز والفساد المستشري في كلّ المفاصل، ولا بدّ من تصحيح العمليّة السياسية الكسيحة التي أدّت بحياة العراق وسمعته إلى أسفل سافلين. ما فقده العراق من رجاله ونسوته وأطفاله، ومن مختلف الأطياف العراقية، يعدّ معضلة تاريخية، لا مجرّد جرائم تمرّ مرور الكرام، والنظام السياسي الحاكم هو المسؤول الأول والأخير عن هذه المعضلة التي لا علاج حقيقيا لها إلا بتغيير النظام، واستئصال الطبقة الحاكمة، ومحاسبتها حساباً عسيراً، مهما كانت الأثمان. ومن دون ذلك، سيبقى العراق تحكمه شريعة الغاب، وهو ينتقل من سيئ إلى أسوأ. على كلّ أحرار العراق مناشدة العالم أجمع بأنّ مصير بلادهم بات مهدّداً جرّاء سياسات هذا النظام، بحكوماته الفاسدة وأحزابه المقيتة، وطبقته الحاكمة المسؤولة عن كلّ ما يحصل أمام الله والناس والتاريخ.
1001 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع