د.منار الشوربجي
من صفحات الكفاح ضد الفصل العنصري
عن عمر يناهز 76 عاماً، رحلت ليندا براون التي سجل التاريخ الأميركي اسمها ضمن أشهر قضايا المحكمة العليا الأميركية في القرن العشرين. فاسمها كان عنواناً لإنجاز تحقق عبر كفاح استمر لأكثر من خمسين عاماً.
ففي الخمسينات من القرن العشرين، كانت الطفلة السوداء ذات الأعوام السبعة، ليندا براون، تعيش في مدينة توبيكا بولاية كنزاس الأميركية. وكان على الطفلة الصغيرة أن تخاطر بحياتها يومياً حتي تتلقى تعليمها الأساسي.
فهي كانت تسير مسافة طويلة تعبر خلالها طريقاً مزدحماً بالسيارات وتعبر خطاً للسكك الحديدية، ثم تستقل المواصلات حتي تصل لمدرستها، رغم أن مدرسة أخرى كانت قريبة للغاية لمنزلها. لكن المدرسة القريبة كانت مخصصة للبيض فقط في أوج مرحلة الفصل العنصري.
وقد حاول أوليفر براون، والد ليندا، أن يسجل ابنته في تلك المدرسة القريبة دون جدوى. ففي ذلك الوقت، وبعد أن ألغيت العبودية بتعديل دستوري أعطي السود حقوقاً متساوية، تفننت حكومات الولايات في إيجاد وسائل للنكوص على تلك الحقوق، فكان منها إصدار قواعد وقوانين مختلفة تحرم السود من حقوق التصويت، وتنشئ فصلاً عنصرياً في كل شئ بما فيه التعليم.
وقد ظل ذلك الفصل العنصري قائماً بموجب قوانين الولايات إلى أن أضفت المحكمة العليا الأميركية عليه طابعاً دستورياً في السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر. ففي عام 1892، رفض الأسود هومر بليسي الذي كان يستقل القطار في ولاية لويزيانا أن ينتقل للعربة المخصصة للسود، وأصر على البقاء في عربة البيض.
وقد حكمت ضده المحكمة الجنائية بالولاية ولكن تم استئناف الحكم حتى وصلت القضية للمحكمة العليا الفيدرالية التي أصدرت حكماً شهيراً عام 1896 اعتبرت فيه الفصل العنصري دستورياً. فالمحكمة استخدمت في ذلك الحكم خطاباً قدم تأصيلاً لافتاً للعنصرية.
فهي رفضت الدفع الذي قدمه هومر بليسي بأن الفصل العنصري يمثل حطاً من شأن السود مؤكدة على أنه طالما أن العربات «متساوية» من حيث مستواها، يصبح الفصل العنصري دستورياً، فأرست بذلك المبدأ الشهير الذي صار يعرف باسم «منفصلون ولكن متساوين»، وهو المبدأ الذي كافح ضده السود لأكثر من خمسين عاماً انتهت بصدور الحكم الشهير الذي حمل اسم ليندا براون.
ففي بدايات القرن العشرين، نشأت «الجمعية العامة للنهوض بالشعوب الملونة» التي صارت ولا تزال كبرى منظمات سود أميركا وأكثرها احتراماً. وقد أخذ الذراع القانوني لتلك المنظمة على عاتقه منذ البداية اللجوء للقضاء سعياً لإلغاء الفصل العنصري الذي صار دستورياً بموجب حكم المحكمة في قضية هومر بليسي.
وقد ارتأت المنظمة أن تتخذ منهجا تدريجياً في مثل ذلك التقاضي، فترفع له، أول الأمر، قضايا تكون فيها مؤسسات السود والبيض ليست متساوية «بشكل واضح»، ثم تنتقل خطوة أخرى للمؤسسات غير المتساوية بشكل ضمني إلى أن تصل في الخطوة الأخيرة للدفع بأن الفصل في حد ذاته يستحيل أن يكون متساوياً لا قانونياً ولا أخلاقياً وبالتالي تستحيل دستوريته.
وقد نجحت المنظمة فعلاً في خطوتيها الأولى والثانية، إلى أن وقع فرعها في مدينة توبيكا على قضية أوليفر براون بخصوص ابنته ليندا، فتم ضم القضية لقضايا مماثلة من ولايات ديلاوير وفيرجينيا وساوث كارولينا وغيرها. لكن القضية ظلت تعرف حتى اليوم باسم ليندا براون. وفي عام 1954، أصدرت المحكمة العليا حكماً تاريخياً اعتبرت فيه أن «الفصل العنصري في المؤسسات التعليمية غير متساو بالضرورة».
بل استخدمت العلوم الاجتماعية لدعم حكمها فقالت إن مثل ذلك الفصل العنصري يترك في نفوس الأطفال «جراحاً» يصعب أن تندمل ودعت المحكمة لإنهاء الفصل العنصري «بكل السرعة». وبصدور الحكم، انتهى الفصل العنصري بالمدارس العامة من الناحية القانونية. لكن القانون شئ والواقع المعاش شئ آخر، خصوصاً أن المحكمة لم تذكر في حكمها مدة زمنية لإلغاء الفصل العنصري.
وقد واجه تنفيذ الحكم بالفعل عقبات هائلة خصوصاً بولايات الجنوب، وصلت في الكثير من الأحيان لمواجهات دامية واستدعت تدخل القوات الفيدرالية لمصاحبة التلاميذ السود إلى فصولهم في المدارس التي كانت قبلا مخصصة للبيض فقط. وحين وصلت حركة الحقوق المدنية لأوجها في الستينات، كانت لا تزال الكثير من المدارس تعاني الفصل العنصري.
وكان من أهم إنجازات حركة الحقوق المدنية أن صدرت القوانين الفيدرالية لإلغاء الفصل العنصري ليس فقط بالمؤسسات التعليمية وإنما في كافة المؤسسات الأخرى.
لكن مرة أخرى، يظل الواقع المعاش مغايراً. ففي عام 2016، صدر تقرير من الحكومة الفيدرالية الأميركية أشار إلى أن الكثير من المدارس، بما في ذلك، بالمناسبة، المدرسة الابتدائية التي درست فيها ليندا براون، لا تزال تعاني الفصل العنصري بحكم الواقع لا بحكم القانون.
لكن ليندا براون ظلت طوال حياتها تساعد الأطفال السود وتقدم ما في وسعها لتعليمهم فكانت بذلك أيضا أحد تجليات كفاح السود المستمر حتى اليوم ضد العنصرية ومن أجل العدل والمساواة.
848 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع