أصول عربية في خرائط جغرافية أوربية

                                              

                        يعقوب أفرام منصور

أصول عربية في خرائط جغرافية أوربية بين القرنين الميلاديين 13 و 18

يفيد الأستاذ فؤاد سزكين Fuad Sezgin في مقاله المنشور في مجلة (قكر وفن) الألمانية الموسوعية بعددها 85/ 2007 إنه حين شرع في عام 1991 في تأليف القسم الجغرافي من كتابه الموسوم ( تاريخ التراث العربي)، لم يحتج إلى بحث مسهب كي يطّلع على نتائج دراسات المتمشرقين، ألتي تفيد بأنّ الجغرافيا البشرية قد وصلت إلى مستوى لا يصادف قبل القرن 19 الميلادي في أوربا. لكنه كان يعلم آنئذٍ أنّ جملةً من المتمشرقين والجغرافيين العرب والمسلمين قد اهتمّوا طوال قرون باستخراج درجات خطوط الطول والعرض للقسم المعمور من الأرض، وطوّروا ما ورثوه من الأمم السابقة في هذا المجال، حتى إنهم إستطاعوا جمعَ معلومات وافية مكّنتهم من وضع خرائط جغراقيّة قائمة على أسس رياضية وفلكية. فهل استُعمِلت هذه المعلومات في رسم الخرائط في الأقطار العربيةـ الإسلامية، أو وصلت إلى أوربا، واستُخدمت في إخراج الخرائط الجديدة المصحّحة التي صارت تنتشر منذ أواخر القرن الثالث عشر االميلادي وخلال القرن الرابع عشر؟

يرجّح الكاتب فؤاد أن المعنيين بالموضوع لم يبادروا إلى طرحهم هذا التساؤل لأنهم آنذاك لم يعرفوا بوجود أيّ خريطة صُنعت في الأقطار العربيةـ الإسلامية على أساس درجات خطوط الطول والعرض. فالخريطة الوحيدة التي جلبت أنظارهم بدقّتها حينئذٍ كانت خريطة العالِم الإدريسي الذي أنجز صنعها في عام 549 هجري في جزيرة صقلية، تلبيةً لرغبة العاهل النورماندي روجر الثاني ( Roger 2 )، لكنها كانت بدون خطوط الطول والعرص. كما يستحيل صنعها من قِبل شخص مقيم في جزيرة من دون الإستفادة من عمل الذين سبقوه في هذا المجال. ومن الطبيعي أن يفكّروا بأن العمل السابق المقصود هو خريطة العالَم لبطليموس، ومن دون اعتبارهم أن خريطة بطليموس هذه تختلف كثيرًا عن خريطة الإدريسي. ففي خريطة بطليموس يوجد المحيط الأطلسي الشمالي والمحيط الهندي بشكل بحرَين مُغلقين، بخلاف وضعهما في خريطة الإدريسي بشكل بحرين طليقَين، ويشكّلان قسمًا من المحيط المائي الكبير لكوكب الأرض.
إضافةً إلى ذلك، ثمة تأثير آخر على تصوّر المتخصصين في طبيعة الخرائط العربية ـ الإسلامية، وهو أن نوعًا من رسم البلدان بخطوط غليظة وصل إليهم ضمن كتب الجغرافيا العربية والفارسية منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) بلا مراعاة خطوط الطول والعرض. وفي بداية عمله كان الكاتب يتساءل عن سبب عدم تطرّق الجغرافيين العرب والمسلمين إلى وضعهم الخرائط على غرار الخرائط الموضوعة من قِبل الأوربيين، مع أنهم قد حددوا درجات خطوط الطول والعرض، وأنتجوا الكثير في هذا المجال، فضلاً عن غناهم في علوم الرياضة والفلك والجغرافيا البحرية؟! بيد أن سعيه الحثيث للتوصّل إلى جواب مُقنع عن تساؤله، أوصله أخيرًا إلى اكتشافه خريطة العالم وبعض الخرائط الجزئية من جغرافية الخليفة العبّاسي (المأمون)، التي صاغها عدد كبير من الجغرافيين والفلكيين بفضل عملهم وجولاتهم طولاً وعرضًا في أطراف الشطر المسكون من الكرة الأرضية. فخريطة العالَم (المأمونية) التي وصلت إليهم كانت تلك الموضوعة بين دفّفتَي (موسوعة مسالك الأبصار) لإبن فضل الله العُمري، من نسخة عام 740 هجري، التي لم تخلُ من تحريف وتصحيف بسبب كونها حصيلة استنساخات متوالية إبان أكثر من 500 سنة. واستنادًا إليها تُعدّ ـ بلا ريب ـ من أهم الوثائق الكرتوغرافيّة في مجال تاريخ الجغرافيا.
فنوع " الإسقاط المِجسامي" فيها، وشكل القارّة الأفريقية فيها المماثل لشبه جزيرة، وإحاطة البحر المحيط بالقارّات، وعرض البحر الأبيض المتوسّط الذي يقارب الصحة، وغير ذلك من مزايا يفاجئ مُؤرّخ الجغرافيا ويُحيّره في السعي إلى التوفيق بينه وبين التصوّر المأثور عن نشأة الخرائط الجغرافيّة . فلم يستغرب حين وجد أن أحد العلماء قد كتب في عام 1990 بحثًا خاصًا عن إسهام العرب والمسلمين في كتاب "تاريخ الكرتوغرافيا" ( History of Cartography ) حيث زعم أن نسخة كتاب إبن فضل الله العُمري لا يُمكن أن تكون أقدم من القرن السادس عشر الميلادي، وأنها مُستنسخة بناءً على طلب بعض الخلفاء العثمانيين، وأن " الإسقاط المِجسامي" قد وُضع عليها تقليدًا لِما وصل إليهم من أوربا. مع ذلك، تحاشى الكاتب فؤاد الخوض في صحة الخرائط، وقضية " الإسقاط المِجسامي" فيها، واكتفى بالقول إن جداول درجات خطوط الطول والعرض للخرائط قد وصلت إليهم (إلى علماء العرب والمسلمين) بشكل مستقل وتُمَكّن من رسم الخريطة كاملةً، وتُؤكّد أصالة الخارطة، وتُمَكّن أيضًا من رؤية التغييرات التي حصلت فيها بفعل الإستنساخات المتوالية فيها خلال عقود.
فبفضل هذه الخريطة "المأمونية" والخرائط الجزئية معها التي بدأها العرب ـ المسلمون، ليس من نقطة الصفر بل بعد انطلاقهم من أعمال بيئات ثقافية سابقة، ومنها خصوصًا خريطة العالَم لِ (مارينوس) Marinos``` من أحياء النصف الأول للقرن الميلادي الثاني، ثم من جغرافية بطليموس الذي جمع ورتّب وفسّر المواد الكارتوغرافية لسَلَفِه مارينوس ( الصوري الإغريقي ومن أوائل مؤسّسي الجغرافيا الرياضية) . وبعد نصف قرن من عمل جغرافيي (المأمون)، بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الجغرافبا والكارتوغرافيا، وإبان ثمانية قرون لاحقة كانت تتطوّر، ومن بواعث تطوّرها أولاً : كون القسم الأكبر من الربع المسكون من سطح الأرض كان تحت السيادة العربيةـ الإسلامية الممتدّة من إسبانيا (ألأندلس) إلى الهند، وثانيًا : كون عامل انتقال معرفة كروية الأرض من الإغريق إلى العرب المسلمين في القرن الهجري الثاني بلا ريب. كما أن تطوّرهم في علم الفلك بالتقابس مع بعض العلماء في القرنين الرابع والخامس الهجريين أفضى إلى قولهم بدوران الأرض حول نفسها. ولهذا لم يستغرب العلماء الغربيون كون بعض الفلكيين العرب ـ المسلمين صنعوا آلاتهم الفلكية على أساس دوران الكوكب الأرضي. وثمة خطوة مهمّة لحصول التطوّر المذكور آنفًا، وهو طلب الخليفة (المأمون) إلى بعض الفلكيين قياس درجة طول ، فبمقاييسهم المعتَمَدة والمتنوّعة وصلوا إلى النتيجة أن الطول المذكور يبلغ 56 ميلاً وثلثي الميل، وبالتالي حسبوا طول خط الإستواء بكونه 20400 ميل، وهذا يختلف قليلاً عن القياس الحالي 40 ألف كيلو متر.
وجدير بالذكر في هذا الصدد، أن العمل المستمر بعد الخليفة المأمون في استخراج تلك القياسات في النصف الأول من القرن الخامس الهجري ، أفضى إلى تصحيح جذري في طول البحر الأبيض المتوسّط ، فقد خُفّض إلى درحة 44 أو 45 ـ أي أقل من رقم بطليموس بمسافة 9 درجات. وعندما توصل الفلكيون والجغرافيون في القسم الغربي من الكرة الأرصية، أي بين المحيط الأطلسي وبغداد، قام العالم (البيروني) بعمل جبّار وفريد في القسم الشرقي من كوكب الأرض اليابس بقياس المسافة بين (غزنة) وبغداد بوحدة قياس (الذراع)، كما إستخرج درجات العرض لأمكنة معيّنة ليتمكّن من حساب درجات الطول باستعمال المثلثات الكروية، فكانت صحة الأطوال التي استخرجها ل (60) مكانًا لتدهش حقًا، لأن الإختلاف بين نتائجه ونتائج القياس الحديثة لا تتجاوز 6 إلى 4 دقاق فقط.
بعدئذٍ توصّل (البيروني)، كما تُثبت كتبه العديدة، إلى تأسيس الجغرافيا الرياضية كعلم مستقل، وهو عالِم خوارزمي فارسي( 973 ـ 1048)، مؤلفاته عربية، كان موسوعيًا في مجالاته: مؤرّخًا، لغويًا، أديبًا، عالمًا في الرياضيات والطبيعيات والفلك والطب والفلسفة والتصوًف والأديان. بيدَ أن المؤسف هو كون التطوّر الذي تحقق لعلم ( الجغرافيا الرياضية) قبل البيروني وبعده في الأقطار العربيةـ الإسلامية لبث مجهولاً لدى مؤلّفي الجغرافيا والكرتولوجيا إلى حد بعيد. وبالتالي لم يُكتب تاريخ الجغرافيا الرياضية إطلاقًا. لذا حاول الكاتب (فؤاد سزكين)، وبخطوة أولى في كتابه المنشور مؤخرًا تحت عنوان ( ألجغرافيا الرياضية والكرتوغرافيا عند العرب والمسلمين واستمرارها في الغرب).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

834 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع