الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
باحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي
الموصل / العراق
الوقاية من الأمراض النفسية عند العلماء والأطباء العرب والمسلمين
للأطباء والعلماء العرب والمسلمين مساهمات جادة في ميدان الطب النفسي الوقائي والعلاجي ، ولكن لسوء الحظ لم يصل إلينا إلا القليل من مؤلفاتهم ، فيقال أن أول من عالج موضوع الصحة البدنية – النفسية من العلماء العرب والمسلمين هو أبو زيد أحمد بن سهل البلخي (ت 322 هـ = 922 م ) في كتابه (( مصالح الأبدان والأنفس )) وكتب إسحاق بن عمران مقالة حسنة عن المالينخوليا .
وكتب ابن الهيثم عن تأثير الموسيقى في الإنسان والحيوان ، والف هبة الله ابن جميع كتاباً دعاه بالإرشاد لمصالح الأنفس والأجساد ، ولإبن ميمون رسالة كتبها خصيصاً للسلطان الأفضل سماها تدبير الصحة تشمل بحثاً في علاج الحالة النفسية التي كان السلطان مريضاً بها ، وقد سماها ابن ميمون الهبوط النفسي .ونجد في الحاوي للرازي وصفاً دقيقاً لبعض الأمراض العقلية كالمالينخوليا والمرقية والشراسفية حيث يميز بينها بجلاء وكذلك يفرق بين فساد الحس مع صواب الحكم وصواب الحس مع فساد الحكم .
ونجيب الدين أبو حامد السمرقندي من معاصري الرازي كان من ألمع الأسماء في تاريخ الطب النفسي العربي الإسلامي ، إليه يعود الفضل في وصف الكثير من الاضطرابات العقلية وصفاً دقيقاً مفصلاً ومن ذلك أنه وصف حالة هتر حسي مصحوب بسلوك شاذ ، وحالات قلق اجتراري مصحوب بشك واضطراب وسواسي قهري ونوعاً من المرض العقلي الاضطهادي ، وطائفة من اضطراب الحكم تتضمن سلوكاً سايكوباثياً ، وحالات اكتئاب مصحوبة بقلق عميق وغير ذلك .
وقد تضمن تصنيف نجيب الدين تسعة أصناف من المرض العقلي تشمل ثلاثين حالة مرضية .
والأطباء والعلماء العرب والمسلمون في تناولهم للأمراض العقلية والنفسية وعلاجها لجأوا إلى طرق فيها الكثير من الابتكار والمهارة كما استندت تلك الطرق على فهم وإدراك الطبيب لحالة المريض وكسب ثقته ومحاولة التأثير فيه نفسياً الأمر الذي دفعهم للإبداع في ميدان العلاج النفسي
( Psychotherapy ) وتحقيق الكثير في وقت كانت الاضطرابات النفسية قد انفصلت عن الطب ودخلت في نطاق الشعوذة والدجل والسحر .نستعرض فيما يلي بعضاَ من مساهماتهم في هذا الحقل ضمن حقلين رئيسيين :
الحقل الأول : الجانب الوقائي من الأمراض النفسية
إن ما يؤكده علماء وأطباء النفس اليوم من أن وسائل الوقاية من الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية لا تقل أهمية عن وسائل العلاج ، أكده العلماء والأطباء العرب والمسلمون وبينوا بأن ذلك يتجلى في جوانب إيجابية عديدة في مسار الفرد في هذه الحياة يمكن إيجازها بما يلي :
أولاً : أثر الإيمان في الوقاية من الأمراض النفسية :
يؤكد المفهوم الإسلامي للكون والحياة والإنسان على الارتباط العضوي بين التوحيد الإلهي والإيمان بأوامره كلها سبحانه وبين الاستقرار النفسي للإنسان . فعندما يربي الإسلام أتباعه ( أفراداً عاديين ومربين وأطباء ) على الإيمان ، ويطبع في نفوسهم الارتياح إلى الله والتوجه إليه في كل معضلة . يعقد بين العبد والرب صلة وثيقة من الحب والرجاء تنتفي معها الأزمات الروحية التي تثور في نفوس المتشككين .
أ – الاعتقاد بأن الدنيا دار خلافة وجهاد :
(( من قواعد الإيمان اليقيني أن لله حكمة في كل شيء ، وفي كل ما يقع من أحداث وقد اختار الإنسان ليحتل مكاناً رفيعاً متميزاً بين الموجودات وأسند إليه ( الخلافة ) في الأرض ليعمرها بالحق والعدل )) .
(( وعرف الإنسان أن رسالته شاقة بقدر ما هي سامية ، وفيها ( جهاد ) ( ومجاهدة ) ( ومكابدة ) وهذا كله يبدأ في داخل الذات الإنسانية ، ثم يتجلى منها في السلوك الظاهر والباطن ، وعرّف الإنسان أيضاً أنه معرض للامتحان والابتلاء ، وللسراء والضراء … وذلك لكي يعرف طبيعة حياته ويستعد لأحوالها ، فيرتفع فوق الأسى والفرح يقول الله سبحانه وتعالى : (( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختال فخور )) سورة الحديد : آية 23 .
في توازن ذاتي … ويستطيع أن يوطن نفسه على احتمال عناء رسالته في ثقة بالعناية والتأييد من الله وبالفوز والنصر والجزاء والعوض عن كل ما يصيبه ، فهو إن أصابه خير شكر وإن أصابته نائبة حزن لأنه بشر ، لكنه يصبر ابتغاء وجه ربه ، وإيماناً بحكمته وانتظاراً لثوابه
(( بغير حساب )) (( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار )) سورة الرعد : آية 22 .
(( قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربكم ، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة ، إنما يتوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) سورة الزمر : آية 10 .
وكل ذلك يجعل الآلام محتملة ويغرس في قلب المؤمن خلق الرضا بمجاري القدر )) .
ب – تقـبـل فكرة الموت والقضاء والقـدر :
إن من يعمر قلبه بالإيمان (( لا تؤدي فكرة الموت إلى بث الشعور بالخوف في نفسه ، بينما تؤدي هذه الفكرة في نفس الشخص الملحد إلى هاجس الموت أو وسواس الموت . فالمؤمن يتقبل فكرة الموت على أنها حقيقة واقعية ، وأن لكل إنسان أجلاً محدداً … وفكرة الموت من شأنها أن تبعد التكالب على متاع الدنيا ومنافعها لأن الإنسان يشعر أنه في رحلة قصيرة ، وأنه سوف لن يأخذ شيئاً معه في القبر ، ويعقب الموت عملية الحساب والعقاب . ومن شأن هذه أن تمنع الإنسان من الجنوح والانحراف والتمسك بالسلوك القويم والقيم والفضائل الخلقية )) .
وانشراح نفس المؤمن بفكرة القضاء والقدر تساعده على تحمل ما يصيبه من مصائب
الدهر ، وتقيه مشاعر الحسرة واليأس والقنوط وبتفويضه الأمر لله تعالى يتخلص سريعاً من محنة الحزن وتتضائل أمامه الهموم وتصفو نفسه فيعيش أيامه سعيداً معافى .
ج – العــلاقـات الاجتمـاعيـة :
(( من المعروف في التراث السيكولوجي الحديث أن الإنسان لديه حاجة قوية للانتماء
The need fore Belongings وهي عبارة عن الرغبة في التعاون مع الآخرين والعمل على إسعادهم والاشتراك معهم )) .
والقرآن الكريم زاخر بالآيات الكريمة التي تحث المؤمنين على الوحدة والتآخي والمحبة والتعاون والتراحم بينهم والإيثار … الخ . (( إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )) سورة الحجرات : آية 10 . (( واللذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) سورة الحشر : آية 9 .
(( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ))
سورة الماعون : الآيات 4 ، 7 .
فإيمان المسلم بما جاءت به تلك الآيات المنزلة من رب العزة من أعظم القيم الروحية والإنسانية التي تؤثر تأثيراً في حياته وفي سلوكه وفي شخصيته . كما ينعكس أثر الإيمان على العلاقات السائدة بين أفراد المجتمع بحيث تصبح علاقاته أكثر إيجابية وأشد ألفة ، بذلك يشبع حاجته الأزلية للانتماء .
د – الوقـاية من آثار الصراع الداخلي ومشاعر الإثم والذنب :
(( والإنسان يشعر باحتقار ذاته عندما يرتكب المعاصي والذنوب … )) (( وحتى إذا حاول ، شعورياً أو لا شعورياً ، نسيان ذنوبه ، فإنها لا تموت وإنما تكبت في اللاشعور Repressed … حية تتصارع مع غيرها من الأفكار والقيم حتى تؤدي بالإنسان إلى الشعور بالقلق والتوتر ومن ثم إصابته بالأمراض النفسية أو العقلية )) .
وهنا تتجلى الآثار القيمة للدين الإسلامي الحنيف بإبعاد مشاعر الإثم والذنب Feeling of guilt وتأنيب الضمير بفتح باب التوبة مشرعة أمامه عندما يقع في خطأ فما عليه حينها إلاّ أن يستغفر ربه ويطلب التوبة (( ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً )) سورة النساء : آية 110 . (( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ))
سورة طه : آية 82 . (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفار الرحيم )) سورة الزمر : آية 53 .
هـ – تهذيب الأخـلاق والطـبــاع :
المعروف في التراث السيكولوجي الحديث أيضاً أن بعض الطبائع غير السوية تدفع صاحبها إلى الإصابة بالمرض العقلي ، على سبيل المثال أن الغرور قد يدفع صاحبه إلى جنون العظمة Grandeur وأن الطمع وعدم القناعة يؤدي إلى القلق والتوتر والتأزم ومشاعر الثأر والانتقام إذا استبدت لدى الشخص فإنها تدمر صحته النفسية .
أما إسلامنا الحنيف فإنه (( يعترف أولاً بالواقع البشري كما هو في حقيقته ولا يقسره على ما تأباه طباعه ، ثم يضع له الحدود التي تمنع عنه الضرر فرداً مستقلاً في ذاته ، وفرداً مشتركاً مع غيره في المجتمع ويقيم في داخل نفسه إرادة واعية يكل إليها ضبط الشهوات وتنظيم متصرفاتها وينشئ مع هذه الإرادة ضميراً حياً ينفذ حكم الأخلاق ويرتفع بالنفس عن مهاوي الشر ، ومهابط
الحيوان ، إلى آفاق مشرقة رحيبة )) .
ثانياً : آراء أبو زيد البلخي في رياضة الأنفس :
نذكر رأي البلخي كنموذج لأقوال الأطباء العرب والمسلمين حول كيفية الوقاية من الأمراض النفسية ، يتحدث البلخي عن طريقة حفظ الصحة للنفس بأنها تكون بصيانتها عن المؤثرات الخارجية التي يسمعها الإنسان أو يبصرها فتقلقه وتضجره وتحرك فيه أعراض الخوف أو الغضب وعن المؤثرات الداخلة فيه مثل التفكير فيما يؤدي إلى تلك الأعراض التي تشغل قلبه وتشتت فكره . ويذكر البلخي للتخلص من ذلك طريقين :
1 - على الإنسان (( أن يشعر قلبه وقت سلامة نفسه … ما أسست عليه وجهلت عليه أحوال الدنيا في أن أحداً لا يصل فيها إلى تحصيل إرادته ونيل شهواته على سبيل ما يتمناه ويهواه من غير أن يشوب كلاً من ذلك شائبة تنغص وتكدر … ويعود نفسه على أن لا يضجر لكل صغير من الأمور وعلى احتمال ذلك ليستطيع احتمال ما هو أعظم )) .
2 - على الإنسان (( أن يعرف بنية نفسه ومبلغ ما عندها من الاحتمال للأمور الملحة
الواردة عليه ، فإن لكل إنسان مقداراً من قوة القلب أو ضعفه وسعة الصدر أو ضيقه )) .
(( والإنسان إذا دبر أموره بحسب ما يطيق فانه يصل إلى سلامة النفس وراحة القلب ، وإن فاته الكثير من الآمال والرغائب التي يركب البعض لأجلها المخاطر ويغرر بنفسه وينتهي إلى ضيق الصدر وقلق النفوس والضرر في البدن )) .
المصـــادر :
- مفتاح ، د. رمزي : إحياء التذكرة ، الطبعة الأولى 1953 ، ص 47 .
- جرجس ، د. صبري : من الفراعنة إلى عصر الذرة ص 27 .
- القرآن الكريم : ( سورة 57 / آية 23 ) .
- القرآن الكريم ( سورة 13 / آية 33 ) ، ( سورة 39 / آية 10 ) .
- أبو ريدة ، الدكتور محمد عبد الهادي : الصحة البدنية والنفسية في الإسلام – أبحاث المؤتمر العالمي الرابع عن الطب الإسلامي ، كراتشي – الباكستان 1986 ، ص 165 .
- العيسوي ، الدكتور عبد الرحمن : الإسلام والعلاج النفسي الحديث - دار النهضة العلمية للطباعة
والنشر ، بيروت ، بدون تاريخ ، ص 180 – 181 .
- العيسوي : الإسلام والعلاج النفسي ( مصدر سابق ) ص 185 .
- القرآن الكريم : الآيات ( سورة 49 / آية 10 ) ، ( سورة 59 / آية 9 ) ، ( سورة 107 / آية 4 ، 5 ) .
- العيسوي : المصدر السابق ، ص 184 .
- القرآن الكريم : الآيات ( سورة 4 / آية 110 ) ، ( سورة 20 / آية 82 ) ، ( سورة 39 / آية 53 ) .
- قطب ، محمد : الإنسان بين المادية والإسلام – دار إحياء الكتب العربية ، الطبعة الثانية ، 1957 ،
ص 122.
- البلخي ، أبي زيد أحمد بن سهل : مصالح الأبدان والأنفس ، تحقيق د. محمود مصري ، إصدار معهد المخطوطات العربية – القاهرة 2005 ، ص 512 – 513 .
837 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع