د. زكي الجابر
في توظيف الثقافة الشعبية
إعداد د. حياة جاسم محمد
قد تكون مَعْنِيّاً بالسياسة غارقاً في لُجَّتِها حتى الأُذُنِ، وقد لا تكون كذلك بل تراها بهلوانيةً وتَحايُلاً وضَحِكاً على الذُقون، ونَصْباً للشِراك والأَحابيل، ولكن في كلا الحالين أنتَ مُواطن، وهذا ما ينبغي أن تكون، ومسؤوليتُك بهذه الصفة تُحَتِّمُ عليك فَهمَ روح الشعب، هؤلاء الذين نتعايشُ معهم صباحَ مساء. فإذا ما كنتَ في مَنْأىً عن العمل السياسي فإن ذلك الفَهمَ يجعلك على هُدىً من أسباب نُفرَتِك وانصرافِك إلى أي شأنٍ تُريده، غيرِ السياسة، من شؤون الدنيا، وما أكثرَها! أما إذا كنتَ سياسياً، وهنا بيتُ القصيد، فإن فَهمَك لتلك الروح يجعلك على بَصيرة في كيفيَّة تَسيير فِعلِكَ السياسيِّ وتَرويضِه إذا اعتَرَكتَ السياسة على أنها ’’فَنُّ المُمكِن‘‘. أما إذا شئتَ أن تذهبَ إلى أن السياسةَ هي’’فَنُّ الحُكمِ‘‘ أو ’’التَوَجُّهُ إلى الحكومة‘‘ فمن المعقول جداً أن تَعرفَ من هم هؤلاء المحكومون، ومن هم الحاكمون، وصولاً إلى كيفية التَعامُل معهم!
وهنا يبدو واضحاً في الذهن الاختلاطُ القائمُ بين ما هو سياسيٌّ وما هو غيرُ سياسيٍّ، ويبدو واضحاً كذلك أن السياسيَّ الفاشِلَ هو ذلك الذي لا يعرف رُوحَ شَعبِه، تلك الروحُ التي تختلط فيها الفوارقُ السياسيةُ وغيرُ السياسيةِ. وهنا لا أريدُ أن أُلقيَ عليك دروساً في ’’السيكولوجيا‘‘ و ’’السوسيولوجيا‘‘ و ’’الإنثروپولوجيا‘‘ و ’’الپولوتيكا‘‘، فليس ذلك من شأن العمل الصَحَفيِّ اليوميِّ، بل أَجِدُني مُلزَماً إلى أن أذهب بك إلى ما هو أيسرُ وأقربُ إلى الفهم. ’’الفولكلور‘‘ عندي إحدى الوسائلِ التي يمكن أن تُوَظَّفَ من أجل هذا الفهم، إنه حكمةُ الشعب كما هي مُتجسِّدة في ’’الثقافة الشِفاهيَّة‘‘ أو ’’الثقافة التقليدية‘‘ أو ’’الثقافة غير الرسمية‘‘ تَجاوُزَاً لِحَصْرِها في حدود ’’العَتيق‘‘ الشعبي. إنها الثقافةُ التي يتمثَّلُها الشعبُ وتتمثَّلُ به في الحاضِرة والريف، في المراكز الصناعية والزراعية، بين الفلاحين والعمال الصناعيين، بين المتعلمين والأمِّيين، في أفق شُمولِيٍّ يتَّسِعُ للحِرَفِ اليدوية وصناعات المكائن، والمُتَنَاقَلِ شِفاهاً وعِبر وسائل الإعلام، الحديثِ والقديمِ، العقلانيِّ وما هو ليس كذلك، العِلميِّ والسِحريِّ، المركزيِّ والهامِشيِّ.
وإذا ما كان ’’الفولكلور‘‘ نقيضاً لما هو رسميٌّ وانعكاساً لما عليه حياةُ الشعوب من اشتراطٍ فإنه يمكن أن يُوظَّفَ سياسياً، فيغدو، كما يرى (گرامشي)، امتداداً للثقافة المُسَيطِرَة، ويتحولُ إلى أَداةٍ تصنع من الدَجّالين أبطالاً، ومن الخُرافة حقيقة، ومن الشَعْوَذَةِ عِلماً، ومن الخيانة بُطولة! كما يمكن أن يُستَثْمَر من أجل ترسيخِ قِيَمِ التضحية والشهادة والصراع من أجل انتصار الصالح العام.
ولكي أجعلَ الأمر يسيراً أروي لكَ كيف وظَّفَ حاكم العراق، الحجاج بن يوسف الثقفي، القول المُتداول: ’’أُنْجُ سَعدُ فقد هلك سُعَيد‘‘. لقد صعد المنبرَ واستقرَّ عليه صامتاً، حتى إذا تَملمَلَ القومُ وضاقت صدورهم بهذا الحاكم الأبكَمِ فرَمَوْه بالحجارة انفجَرَ في خطبته الشائعة الصِيتِ، خطبةِ التهديدِ والوعيدِ، والتي رأى من خِلالِها الرؤوسَ قد أينعتْ وحان قِطافُها، وأبصر الدماءَ تسيل بين العمائمِ واللِحَى، وحين ارتجفتِ الأصابعُ وانفلتتِ الحجارةُ عن رُعبٍ من بين الأصابعِ أخبرهم بما سيفعلُ فيهم من هَوْلٍ حتى يقولَ القائلُ: ’’أُنْجُ سَعدُ فقد هلك سُعَيد‘‘ مُستعيداً بذلك أَجواء الرعبِ التي سادت مع انتشارِ حكاية مقتل سعد.(1)
وإذا تجاوزْنا ذلك الحاكمَ السياسيَّ فَأَيٌّ منا ينسَى ذلك التوظيفَ الجميلَ الذي تفتَّحتْ عنه موهبة الشاعر حين وصف إِخلافَ الوعدِ بـ ’’مواعيد عُرقوب‘‘،(2) تلك المواعيدُ الأباطيلُ التي اتخذت منها الحبيبة مثلاً!
ولم أسمعْ مَقُولةً تَصفُ جَدوَى الكُتُبِ والمكتباتِ أبلغَ من تلك التي سأل فيها أَعرابيٌّ أُمِّيٌّ عن جَدوَى هذه الرفوف المُتَراصَّة من الكتب تحتويها مكتبةٌ من المكتبات، وحين استمع مَلِيّاً إلى وصف ما تضُمُّه طيّاتُها من علومٍ ومعارف علَّق قائلاً: ’’كُلْها تگولْ يا ابِنْ آدمْ كُونْ (كُنْ) خوشْ آدَمِي (آدَمِيّاً جيداً)‘‘!
وعودةٌ إلى التوظيف السياسي، فإذا ما كان الحَجَّاجُ قد تمكَّن من إثارة الرعب عن طريق توظيف ذلك المَأثُورِ الشعبيِّ فإنَّ بِوُسْعِ السياسيِّ التَعَرُّف على هموم الناس من خلال تَعَرُّفِه على كيفية البقاء مع الفَقر والقَهر والفِكر (تدبير العيش)، وكيف يتعايشون مع الأمنيات المستحيلة: ’’أكْلْ البَلَحْ حِلْو بسّ النخلِ في العالي‘‘، كيف يَدِبُّ اليأس فينثني الإنسان حسيراً حزيناً لا حَوْلَ له ولا طَوْلَ: ’’إنْ كان كِدَه قِسْمِتَكْ بَخْتَكْ أَگيبُه مِنْين‘‘!
إن أهمَّ جانب من هذه الثقافة التقليديةِ أَنها إِبداع جَماعيٌّ أَنجبَ المَثَلَ والأُسطورة كما أنجبَ تَجَدُّدَ الأملِ مع استمراريةِ شهرزاد تروي أقاصيصها الليلةَ تِلْوَ الليلة، وتَجَدُّدَ فِعلِ البطولةِ مع انتصاراتِ أبي زَيدٍ الهِلالي.
مِمَّا قرأتُ تعلَّمتُ أَنَّ على الدبلوماسيِّ أن يفهمَ الثقافةَ الشِفاهِيَّةَ للبلد الذي يعمل فيه، فإذا ما كان في الولايات المتحدة الأمريكية عليه أن يُدركَ أَنَّ مَقُولة ’’يُمكنُ أن تزورَني في أيِّ وقتٍ‘‘، التي كثيراً ما تتردَّدُ على الألسِنةِ هناكَ، لا تعني أكثرَ من كَونِها مُجامَلة، وأن عليه إِن أراد أن يزورَ أحداً أن يُتَلفِنَ وأن يتفِّقا على موعد، أما أن يَطرُقَ الباب بلا موعد فهو سلوكٌ يخلو من الذوق وحُسن التصرُّف.
ومن كلِّ ذلك انتهي إلى الهمس الرقيق، وليس النُصح، في إُذُنِ أيِّ دبلوماسيٍّ وأَيِّ سياسيٍّ في أيّةِ بقعةٍ داخل الوطن العربي أو خارِجَه ’’إذا كُنتَ في روما كُنْ رومانيّاً‘‘! إِنك لا تفهم وَسَطَكَ إذا لم تُحِطْ بثقافته غير الرسمية، تلك الثقافة التقليدية التي تعكس روح الشعب، وتنعكس فيها طُموحاتُه وخَيباتُه، تَطَلُّعاتُه وانتِكاساتُه. إن الفشل في تحقيق ذلك قد ينعكس سَلباً على الأَداء، بل قد يؤدّي إلى ما يَسوءُ حاضِراً وعُقْبَى.
إن السياسي العراقي نوري السعيد لم يجد في إحدى خُطَبه قولاً يُطَمْئِنُ به العراقيين على سلامة الداخل وقوة السُلطة ومكانتها أقربَ مَنالاً إلى النفسية السائدة من المثل الشعبي القائل: ’’دار السيد مَأْمونة‘‘!
إن المُعاناة الحقيقية لأبناء أي شعب من شعوب الأرض لا تنعكس في الثقافة الرسمية ولا في الثقافة العالِمة العالَميّةَ بل فيما يتناقلُه المُستَضعَفون والمقهورون والفقراء والبُسَطاء وعابِرو السبيل من مَثَلٍ لن يَعرفَه الخطاب الكلاسيكي الرسمي، ومن غناء لن تجودَ به ميكروفونات الإذاعة ولا تعكسُه شاشات التلفزة. أيُّ تعبيرٍ يُمكنُ أن يستفيد منه السياسيُّ في فَهم حالة اليأس والمرارة أعمق، في بُعده السيكولوجي، من القول الشعبي: ’’رِضَينا بالمُوتْ والمُوتْ ما رِضا (لم يَرضَ) بينا (بِنا)‘‘. وأيُّ مَقولةٍ تهزُّ الروح لأولئك الذين يَنشُدون اهتزازَ الروح وجَماليَّةَ الإبداع أَبدَعَ من بيت الشعر الشعبي الذي يقول:
’’هَزْني الهَوَه (الهوى) بْكُلْ حيلَهْ (قوَّتِه)
لَنْ (وإذا به) شاعرْ مْسَوِّيني‘‘
ولعل في ذلك خيرَ ختام لحديث أردتُ أن أجمع فيه ما بين المرارة والحلاوة!
_________
(1) عُرقوب رجل من العماليق، أتاه أخٌ له يطلب منه عوناً، فقال له عُرقوب: ’’إذا أَطْلَعَتْ هذه النخلة فلك طَلْعُها‘‘، فلمّا أَطْلعَتْ أتاه أخوه فقال: ’’دَعْها حتى تصير بَلَحاً‘‘. فلمّا أبْلَحتْ جاءه أخوه فقال: ’’دَعْها حتى تصير رُطَباً‘‘، فلمّا أرطَبَتْ قال: ’’دَعْها حتى تصير تمراً‘‘، فلما أتْمَرتْ عمد إليها عُرقوب في الليل فقطعها ولم يُعطِ أخاه شيئاً، فصار مثلاً في إخلاف الوعد.
(2) سَعدُ وسُعَيد أَخَوان خَرَجا طَلَباً لبعض الأعداء فغلب الحماس على سُعَيد ومَن معه فسبقوا سَعْداً في الخروج ولم يعلم أن الأعداء قد نصبوا لهم كَميناً ليقتلوهم إلا واحداً منهم فر هارباً لِيقابل سَعداً في الطريق ويقول له: ’’أُنْجُ سَعدُ فقد هلك سُعَيد‘‘، فهرب سَعْد مع الناجي.
913 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع