بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ... السادسة والسبعين
اكل الرجال على كد افعالها
حدثتنا جدتي هذا المساء قائلة: يحكى أن امرأة فقيرة كانت تحمل ابنها، مرت في طريقها بالقرب من كهف، فسمعت صوتا آتيا من أغوار الكهف يقول لها: (دخلي وخذي كل ما ترغبين ولكن لا تنسي الأساس والجوهر فبعد خروجك من الكهف سيغلق الباب إلى الأبد ... انتهزي الفرصة ولكن خذي حذرك من عدم نسيان ما هو الأساس والأهم لك)، وما إن دخلت المرأة حتى بهرتها ألوان الجواهر ولمعان الذهب، فوضعت ابنها جانبا وبدأت تلتقط الذهب والجواهر وراحت تملأ جيوبها وصدرها بالذهب وهي مذهولة.
راحت تحلم بالمستقبل اللامع الذي ينتظرها، وعاد الصوت ينبهها أنه باقي لك ثمان ثواني لا تنسين الأساس. وما أن سمعت أن الثواني على وشك أن تمضي ويغلق الباب انطلقت بأقصى سرعة إلى خارج الكهف وجلست تتأمل ما حصلت عليه من مجوهرات، بعد ما اغلق باب الكهف تذكرت أنها نسيت ابنها بالداخل وأن باب الكهف سيبقى مغلقا إلى الأبد وأحزانها لن تمحوها ما حصلت عليه من الجواهر والذهب.
هكذا الدنيا يا اولادي خذوا منها ما تريدون ولكن لا تنسوا الأساس وهو (صالح الأعمال) فلا ندري متى يغلق الباب ولا نستطيع العودة للتصحيح. اتمنى أن فهمتم ما أعنى بهذه الحكاية.
ثم حكت لنا جدتي في هذه الليلة حكاية رائعة كان في أحد البلاد أمير، وكان هذا الأمير يعيش في قصرٍ هو وزوجته وطفله الصّغير، ويمتلكون كلباً وفيّاً يتعجّب النّاس من علاقته بهذا الأمير وعائلته، حيث إنّ لهذا الكلب مكانةً خاصّة في قلب الأمير فكان يعامله معاملة أهله، ويعتبره صديقاً وفيّاً يذهب معه إلى جميع الرحلات والأماكن حتّى حين يذهب إلى الصيد. وفي يومٍ من الأيّام توفّت زوجة الأمير بغتةً، فحزن الأمير عليها أشدّ الحزن، وقرّر بعد فترةٍ من وفاتها أن يخرج في رحلة للصّيد لينسى حزنه ويبدأ بدايةً جديدة، ولكنّه احتار في أمر طفله فأين سيضعه؟ ومن سيثق به ليعتني بابنه؟ فاختار كلبه الوفيّ لأنّه الأجدر لهذه المهمّة. ذهب الأمير إلى رحلته، ولكنّه لم يستمتع بها لأنّ صديقه الكلب لا يرافقه كما كان يفعل دائماً، ولأنّه قلقٌ على ابنه الوحيد مع الكلب، فقرّر أن يعود مبكّراً إلى منزله. فعندما اقترب الأمير من المنزل جاءه الكلب من بعيد يركض ويعوي عواءً شديداً، وكان الكلب مغطّىً بالدّماء!! ارتعب الأمير وبدأ يصرخ بالكلب ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ والكلب يقفز حوله. ركض الأمير إلى المنزل مرعوباً وأسرع إلى سرير طفله فوجده فارغاً، وجميع الأغطية والمنزل ملطّخ بالدم، فزع الأمير وصرخ غاضباً، وأخرج سيفه وركض مسرعاً إلى كلبه وقتله بالحال، ولم يستجب لعواء الكلب الّذي يناجيه، ولم يشعر تجاهه بأيّ رحمة؛ بل على العكس لم يشعر إلّا بالغضب والنّدم لأنّه ترك الطفل مع الكلب دون رعايةٍ بشريّة فبدأ يجهش بالبكاء. وأثناء بكائه سمع صوت طفله الصّغير، فنهض من مكانه وهرع ليبحث عنه، فوجده في الغرفة المجاورة يلعب على الأرض وبجانبه حيوانٌ يشبه الذّئب ملقىً على الأرض ومغطّىً بالدّماء، حينها علم بأنّ طفله ما زال على قيد الحياة، ولم يمت. أكمل الأمير بكاءه ندماً على ما صنعه وعرف بأنّ الكلب لم يقتل طفله بل قتل الذّئب الّذي حاول أكله، فعاد مسرعاً لينقذ كلبه ووجده قد مات، ومنذ ذلك الحين لم يبتسم الأمير أبداً، وعاش حزيناً نادماً على ظلمه لأوفى صديقٍ له
في هذه الحكاية عبرة كبيرة تعلموا منها اولادي في التأني السلامة، وفى العجلة الندامة.
نعود لحكايتنا اليومية تقول جدتي: كثيرا ما نسمع هذا المثل يطلقه البعض عند اجتماع لوليمة (اكل الرجال على كد افعالها) قصة هذا المثل تحتوي من معاني للبطولة والرجولة والفداء والتضحية، احداث القصة تدور في حقبة الحكم العثماني ويقال ان هناك كان اخوان مطلوبان للحاكم العثماني وهما حمود وسعود.
شاءت الاقدار ان يقع حمود في قبضة العثمانيين وان يحكم بالإعدام، كما يسمى في وقتنا الحاضر، وقد تم تحديد زمان ومكان التنفيذ في أحد قلاع العثمانيين، ولما شاع خبر اعدام حمود قرر اخيه سعود حضور اعدام اخيه فأمتشق سيفه، وركب فرسه وتوجه قاصدا مكان التنفيذ.
في الطريق صادفه رجل يبيع اللحم المشوي للخيالة سالكي الطريق، جلس عنده وقال اجرد واشوي وضع امامي لحين ما اقول لك كافي، واستمر الرجل يجرد اللحم ويشوي حتى لم يبق من الذبيحة شيء.
بعد اتمام سعود وجبة الإفطار دفع لصاحب اللحم ليرة مجيديه وهي العملة المتداولة آنذاك، فقال له الجزار: ليس لدي قطع من العملة الصغيرة حتى ارجع لك الباقي، فقال سعود: ابقيها عندك وانا حين اعود امر عليك. فأجابه الجزار: بل ابقيها لديك، ثم بادره بسؤال الى اين انت ذاهب، قال: الى القلعة العثمانية يقال انه اليوم سيتم اعدام أحد الشخاص فيها، فقال له الجزار: لقد اتممت عملي أتي معك.
وصلا القلعة ولم يخبر سعود صاحبه الجزار ان اخيه الذي سيتم اعدامه، وبعد مده احضر الدرك حمود مقيدا بالسلاسل، وخيروه ماذا يطلب قبل اعدامه، فأجابهم لدي كلمات اود قولها دون ان يعلم ان اخيه سعود ضمن الحضور فقال:
نهض غيم الجديد وغيم كله
وجتلني مدكدك الزردوم كله
يالرايح لخوي سعود كله
حديد الصلب حطوا بالركاب
فأجابه سعود على الفور...
جمل جابوك للقلعة وناخوك
ومرس حطوا بذرعانك وناخوك
يهل تنشد علي حاضر اني اخوك
عضيدك يوم لكوات اﻻجناب
وسل سيفه وبصوله عزومه قتل مقاتل من الدرك وفك اسر اخيه وهرب به. وبعد فتره عاد الى صاحبه ليسدد قيمة ما اكل عنده فاقسم ان ﻻ يأخذ منه لما شاهده من شجاعة منه قائلا (اكل الرجال على كد افعالها) حتى ذهبت مثلا.
775 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع