د. علي محمد فخرو
لنحذر الصراع بين الديموقراطية والليبرالية
هناك خطأ شائع بأن الليبرالية والديموقراطية هما كلمتان متماثلتان في المحتوى والأهداف. هذا قول يجب أن يعيه شباب الأمة العربية، خصوصا بعد أن علت أصوات المنادين بتبني الأيديولوجية الليبرالية كحل سحري سريع لعلل وتخلف هذه الأمة.
الواقع أن الايديولوجية الليبرالية معنية في الدرجة الأولى بالفرد، بينما أن الايديولوجية الديموقراطية معنية في الأساس بالجماعة والمجتمع. ركن الليبرالية الأساسي مهووس بالفردية والحرية الشخصية، بينما ركن الديموقراطية يضع في المقام الأول الحرية بمعانيها وممارساتها الشاملة من جهة، كما يضع في سلم أولوياته موضوع المساواة، بكل تجلياتها، من جهة ثانية.
على ضوء هذين المنطلقين المختلفين يستطيع الإنسان أن يفهم هذه الحقيقة التاريخية : لقد وقف الليبراليون في الغرب مع القوى المحافظة في السياسة وأمور إدارة الدولة، بينما وقف الديموقراطيون مع قوى التغيير، وعلى الأخص قوى اليسار.
من هنا فان حاجة الأمة العربية حاليا هي لوجود قوى ديموقراطية، أكثر من حاجتها لقوى تكتفي برفع شعارات الإيديولوجية الليبرالية، المهووسة بالفرد على حساب اهتمامها بالجماعات والمجتمعات. هذا موضوع يجب أن يكون واضحا إلى أبعد الحدود عند الشباب المناضلين والفاعلين في السياسة. ذلك أن حاجة مجتمعاتكم العربية الملحة توفر الحريات العامة، وفي مقدمتها حرية التعبير وحرية التجمع والتنظيم السياسي لممارسة فعل سياسي مستقل عن السلطة. الحريات العامة هي الضمان والمدخل لتوفر الحريات الشخصية، وليس العكس. وبالطبع ليس المقصود بذلك التقليل من أهمية الشخصي أمام العام، وإنما المقصود هو الأولويات لهذه المرحلة التي نعيشها.
وإذن فالموضوع الديموقراطي، بأسسه ومحتوياته وأهدافه ووسائل عمله وفاعليته، هو موضوع الساعة، إذا كان الأمر كذلك لنذكر بصلب موضوع الديموقراطية المتمثل بحقين أساسيين للناس: حق اختيار من يحكمهم وبالتالي وضع القوانين التي يعيشون في ظلها، وحقهم في أن تكون الحكومة معنية بصورة مسؤولة وكفؤة بالصالح العام.
لكن لن يتحقق ذلك إلا من خلال انتخابات دورية حرة، وتساو في الوزن لكل صوت، ووجود ضمانات لحدوث ذلك، من خلال الحكم بالقانون وتطبيقه بالتساوي على الجميع، ومن خلال مجتمع ينعم بالحريات المدنية الكاملة. في قلب تلك الإجراءات تقبع فضيلتيا المساواة والعدالة في حقلي السياسة والاقتصاد.
لامكان هنا لممارسة مارسها الليبراليون الغربيون عبر القرون، وهي أن الحكم يجب أن يقتصر على أقليات متميزة بالعلم أو الفهم أو الوعي أو الحقوق التاريخية أو امتلاك وسائل القوة المادية أو المعنوية، وذلك خوفا منهم من صعود الغوغاء أو الشعبويين إلى سدة الحكم.
الغوغائية والشعبوية يجب أن يحكمها وعي الناس ووجود القوانين العادلة المنظمة للحياة العامة، وليس إعطاء امتيازات لهذه الفئة أو تلك باسم الخوف من تواجدهما. من هنا تنشئة الأطفال والشباب، في المدارس والجامعات، لفهم وقبول وممارسة حقوقهم المدنية، بما فيها عدم التخلي قط عن حق الانتخابات، وعدم انجرارهم في اختياراتهم لمن يمثلهم إلى عوامل العصبيات الدينية والقبلية والنفعية الضيقة والاستزلام لهذه الجهة أو تلك. القول المعروف بأن لا ديموقراطية بدون ديموقراطيين هو قول صحيح إلى أبعد الحدود. والديموقراطي لا يولد وإنما يربى ليكون ديموقراطيا، في البيت والمدرسة والنادي والمسجد والكنيسة والحزب.
ما يريده لكم، أيها الشباب بعض الليبراليين العرب هو أن تعيشوا حياة عامة وصفها بدقة متناهية منذ حوالي قرنين أحد القلقين على مصير الديموقراطية في الغرب. لــقد كتب ألكسيس دوتوكفيل يصف حالة المجتمع بالقول: « أرى تجمعات بشرية يدورون حول أنفسهم، يفتشون عن ملذات صغيرة لتغذية أرواحهم. إنهم يعيشون منعزلين عن بعضهم، تماما كالغرباء. عالم الواحد منهم يتلخص في أطفالهم وأصدقائهم. اما إخوته من المواطنين فانه لا يرى لهم وجوداً، إنه يلامسهم ولكنه لا يشعر بوجودهم. إنه يعيش في نفسه ولنفسه فقط. ومع انه لا تزال لديه عائلة، إلا أنه لم يعد لديه وطن».
إنه وصف شديد السواد والضياع، لكنه مماثل لما يريده البعض لشباب هذه الأمة، وبالتالي لمجتمعاتنا العربية.
إن الغرب، الذي جاء بالنظام الديموقراطي، يعيش الآن أزمة ديموقراطية حقيقية. إن نجاح شخصية مهزوزة ونرجسية كالرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالرغم من حصوله على أصوات من قبل الناخبين تقل في عددها بثلاثة ملايين عن الأصوات التي حصلت عليها منافسته، هيلاري كلنتون، هو دليل على إشكالية في إحدى الديموقراطيات الغربية. وينطبق الأمر على أزمة الليبرالية والليبراليين في الغرب. وهذا يفسر صدور الأعداد الكبيرة من الكتب الناقدة للحداثة والليبرالية والديموقراطية، كما تمارس الآن في الغرب في ظل النظام العولمي الرأسمالي المتوحش الجائر الخاضع لقيم السوق فقط.
إزاء الأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية التي يعيشها الغرب، في اللحظة الراهنة، نحذر شبابنا من السقوط الأعمى تحت سحر بعض الليبراليين العرب. إنهم يتحدثون عن إنقاذ الفرد، عن إدخاله في عالم الذاتية البحتة المنغلقة على نفسها وحول نفسها، ولكنهم لا يأبهون بمصائر الشعوب والمجتمعات والأوطان. هذا فكر يجب أن يصحح قبل أن يدخلنا في أزمة حضارية جديدة.
697 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع