وفيق السامرائي
بعد خمسة أيام، سيمر ربع قرن على بدء العمليات الهجومية الاستراتيجية العراقية على طول جبهة الحرب مع إيران، البالغة أكثر من ألف كيلومتر.
حيث بدأت العمليات بهجوم سريع شن بتشكيلات النخبة المتكونة من قوات الحرس ومساندة القوة الجوية وقوات برية أخرى، لاستعادة منطقة الفاو بالغة الأهمية، التي تسبب احتلالها من قبل قوات الحرس الثوري في حدوث خلل معنوي وسياسي على مستوى الإقليم والعالم. إلا أن ذلك الاحتلال لم يربك الخطط العسكرية العراقية، بعدما اقتنع الرئيس العراقي صدام حسين بضرورة إيقاف الهجمات المقابلة الفورية التي بنيت وفق نظريات رد الفعل، وكان للاستخبارات دور كبير في الإقناع.
معركة احتلال الفاو كانت واحدة من المعارك الدموية، ففي فترة الهجمات المقابلة التي امتدت لأسابيع، كانت القوات العراقية تتكبد يوميا نحو 1700 شخص بين قتيل وجريح، وشجع الخلل العراقي في معركة الفاو القيادة الإيرانية على شن هجمات متعاقبة في مناطق العمليات الشمالية والوسطى والجنوبية، لغرض استنزاف القوات العراقية، ومحاولة إحداث اختراقات مهمة. وبعد أن فشلت في الاقتراب من البصرة الهدف الاستراتيجي الخطير، شنت هجوما شديدا ومتواصلا في منطقة العمليات الشمالية شرق السليمانية، مما اضطر القوات العراقية إلى دفع المزيد من التشكيلات القتالية، التي كانت مجهزة كقوة ضربة، لمحاولة صد التهديد الإيراني. وتحولت المعارك إلى استنزاف شديد.
وفي ظروف بالغة التعقيد، زودت المخابرات الأميركية الاستخبارات العسكرية العراقية برسالة معلومات قصيرة، تشير إلى رصد قيام قوات الحرس الثوري بنقل بعض وحدات المدفعية من منطقة الفاو غرب شط العرب إلى الضفة الشرقية، وهي في طريقها على ما يبدو إلى منطقة أخرى. وهنا قامت الاستخبارات العراقية بمقارنة هذه المعلومات مع ما لديها، وأحالتها برسالة حاسمة إلى القائد العام للقوات المسلحة، مفادها أن القوات الإيرانية بدأت بترقيق انتشارها في منطقة الفاو لتعزيز تشكيلاتها في المنطقة الشمالية، وقد حان وقت وقف الهجمات المقابلة شمالا، والعمل على استعادة الفاو. ولم تكن الرسالة بعيدة عن تحمل مسؤولية خطيرة، لأنها اعتمدت على التحليل أكثر من المعلومات المؤكدة.
ولا مفر من الإقرار بأن الرئيس العراقي لم يتردد في اتخاذ القرار الصحيح في هذا الموقف، وأمر بوقف الهجمات المقابلة شمالا، والتحضير لعمليات هجومية واسعة لاستعادة الفاو، على أن تقوم الاستخبارات العسكرية بإعداد خطط مخادعة تستهدف خدع الإيرانيين والأصدقاء الأميركيين معا. ولم تكن المهمة سهلة، فالفشل سيجعل العراق غير قادر على الدفاع الاستراتيجي، فيما يتطلب النجاح مباغتة شاملة، وحشد قوة تقليدية في أرض مكشوفة تماما أمام المراصد الإيرانية، فضلا عن تطلب مرور آلاف الدبابات وناقلات الأشخاص المدرعة والمدفعية وعشرات آلاف الجنود على طريق واحد في منطقة البصرة. ومن هنا بدأت المهمة الشاقة.
كانت الاستخبارات العراقية قد اكتشفت تمكن الإيرانيين من اختراق جهاز لاسلكي بعيد المدى في المنطقة الوسطى، يعود للقوة الجوية، والتقاط كل الرسائل المتداولة بواسطته. فاقترحت على الرئيس الموافقة على أن تتولى الإشراف المباشر على الجهاز، ومواصلة ضخ معلومات صحيحة، وأخرى مضللة، عبر هذا الجهاز. وتولى مسؤول ملف إيران هذه المهمة شخصيا، وتم بذل جهود كبيرة، ليس للمحافظة على ثقة الإيرانيين بهذا الجهاز فحسب، بل لزيادة الاهتمام به. ولولا المتغيرات الكبرى في المنطقة لاستحقت هذه المحطة التخليد.
وضعت الاستخبارات العراقية خطة مخادعة طويلة ودقيقة في الجوانب التكتيكية والاستراتيجية، وكان الجهاز اللاسلكي أهم وسائل تمرير مواد المخادعة إلى القيادة الإيرانية مباشرة وبسرعة، ومن أروع ما يمكن تسجيله هو أن الاختراقات العراقية في مفاصل أخرى كانت تتابع اهتمام القيادات الإيرانية بالمعلومات والرسائل والمحادثات، التي تجري من خلال هذا الجهاز. وكانت تتأكد دقيقة بعد دقيقة من سلامة الإجراءات وأمن الخطط والعمليات. أما الفكرة العامة فصممت على أساس أن القيادة العراقية مصممة على سحق الهجوم في المنطقة الشمالية، وسحب التشكيلات المتضررة وإرسالها إلى منطقة الفاو، لتحرير تشكيلات منتعشة لإرسالها إلى الشمال، وهو ما دفع القوات الإيرانية إلى نقل المزيد من قوات الفاو إلى الشمال.
ومع ساعات الهجوم الأولى، حققت قوات الحرس الجمهوري تقدما سريعا جدا، وفرضت تفوقا ساحقا، أدى إلى استعادة الفاو، والإخلال بالتوازن الاستراتيجي للقوات الإيرانية على طول الجبهة، فاضطرت القيادة الإيرانية إلى القبول بوقف إطلاق النار.
{jacomment off}
2192 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع