الانفصام في الحياة السياسية العربية

                                                     

                           د.علي محمد فخرو

الانفصام في الحياة السياسية العربية

كنا منذ فترة، نصف المشهد السياسي العربي، خصوصا بعد حراكات وثورات الربيع العربي المغدور، بأنه مشهد سريالي. في ذلك المشهد تختلط الصور وتمتزج الظلال لتكون لوحات سياسية غير واضحة أو مرتبة، وبالتالي غير مفهومة. وكما تدل الحياة السريالية التي يعيشها بعض الأفراد على تشوش في الفكر واهتزاز في توازن الشخصية، فان الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات والدول التي تسمح الظروف بأن تقلب الأحداث حياتها الى صور سريالية متنافرة.

لكن يظهر أن ذلك المرض السلوكي والفكري قد تحول تدريجيا، لدى بعض أنظمة الحكم العربية، الى مرض نفسي وعقلي خطير مدمر للذات، يتمثل في انفصام شخصية تلك الأنظمة وتحويلها الى شخصيتين متناقضتين قادرتين، بتبريرات نفعية، على التعايش بانسجام وتعاضد.
فلقد كانت شخصية الغالبية من أنظمة الحكم العربية، منذ بضعة عقود، تتعايش فيها المشاعر والالتزامات والمصالح الوطنية المحلية مع المشاعر والالتزامات والمصالح القومية المشتركة الكبرى. وحتى الأقلية الصغيرة من أنظمة الحكم العربية، التي لم يتوفر في شخصيتها ومسلكيتها ذلك التوازن، منعها الخوف أحيانا أو الحد الأدني من الخجل أحيانا أخر، من مضادة مشاعر شعوبها الوطنية والقومية العفوية المتلازمة بصورة طبيعية أخوية كما منعها من الشطط في حماقاتها الأنانية أو ممارسة الدونية المذلة أمام قوى الخارج الاستعمارية المعادية لهذا الجزء من الأمة العربية أو ذاك.
مناسبة الدخول في تلك الملاحظات الموجعة للقلب، ردود الأفعال العربية تجاه القرارات النرجسية العدائية الفضائحية، المغموسة في هوس ديني مفتعل صهيوني، للرئيس الأميركي دونالد ترامب، بتحريض من صهره الصهيوني كوشنر، تجاه القدس العربية منذ بضعة شهور، وتجاه الجولان العربي منذ بضعة أيام.
كان المنتظر، كحد أدنى، أن يصدر قرار عربي موحد، باسم الجامعة العربية من جهة، ومن خلال كل وزارة خارجية عربية من جهة أخرى، يعتبر القرارات الرئاسية الأميركية الأخيرة قرارات حرب عدوانية على كل الأمة «وليس فقط خطأ أو مخالفة للشرعية الدولية كما تلاعب بكلماتها البعض» وأنه ستكون لها انعكاسات على كل المصالح والعلاقات الأميركية في كل الأرض العربية. لنذكر هنا بأن عرابي المافيا من السراق الذين يوزعون ما لا يملكون لا يخافون الا من المواقف الرجولية الندية الشجاعة لمن يواجهونهم بشرف.
كان المنتظر، كأول رد فعل، دعوة سورية للعودة الى الجامعة العربية كتأكيد قومي بأن سورية هي جزء من وطن عربي واحد، وأنها لن تترك لوحدها لتجابه صلف نظام الحكم الأميركي. كان التعلل بضرورة الاجماع لارسال الدعوة تعللا غير مقبول، وغير منطقي تحت ظروف هذه الهجمة العدوانية الجديدة على الوطن العربي.
دعنا نذكر هنا بأن سورية لا تتمثل فقط في نظام حكم، لدى بعض أنظمة الحكم العربية مشاكل معه مثلما لديه هو الآخر مشاكل معها. سورية هي قطعة وجودية من الوطن العربي، فهي شعب عربي أثبت عبر التاريخ، وفي العصر الحديث على الأخص، أنه من أكثر شعوب الأمة العربية وفاء لالتزاماته القومية ومن أكثر شعوبها كرما واحتضانا وتضحية من أجل أي من المنكوبين والمشردين واللاجئين والمضطهدين العرب. لقد وقفت سورية، شعبا وحكومة، في كل حرب ومعركة خاضتها أقطار من الأمة العربية ضد أعداء العرب الكثيرين. لقد خسرت الجولان، كأرض محتلة من قبل العدو الصهيوني، من جراء وقوفها المشرف مع شقيقتها مصر ابان معركتها العادلة ضد الكيان الصهيوني، عندما وقف الكثيرون يتفرجون.
فهل هكذا يجازى الشعب العربي السوري الشقيق، المبهر في عطائه وتاريخه وتضحياته الهائلة، وهو يخوض حربه الوجودية مع عتاة الاجرام الجهادي الاسلامي المزعوم في الداخل وضد التكالب الخارجي، الذي تقوده أميركا والصهيونية، من أجل تفتيت أرضه وتدمير كل مكوناته الحضارية والمعيشية ؟
من الواضح جدا أن قوى الشر الداخلية والخارجية ترمي لجعل الشعب العربي في سورية يكفر بالعروبة وبارتباطاته القومية وبأخوة الاسلام، تماما كما حاولت وتحاول تلك القوى فعل الأمر نفسه حاليا بالنسبة للشعوب العربية في فلسطين والعراق وليبيا واليمن ومصر، وسيأتي الدور على الآخرين الحالمين المعتقدين ببلادة متناهية بأنهم سيكونون في مأمن من مؤامرات الداخل والخارج المماثلة. ويظهر أن قبول فقدان الجزء تلو الآخر من الوطن العربي للغير أصبح سلوكا ملازما للشخصية السياسية الحاكمة في بعض أرض العرب.
أما بالنسبة لأميركا فقد كنا نأمل اجراء مراجعة شاملة جادة لكل علاقات العرب السياسية والاقتصادية والأمنية والشخصية مع نظام حكم حالي لم يبق ابتزازا الا ومارسه، ولم يبق احتقارا للعرب الا وأعلنه، ولم يبق شرعية دولية الا وداس عليها، ولم يبق اتفاقات ومعاهدات عربية معه الا وألقى بها في سلة المهملات. ومع ذلك فمازال مندوبوه ومازالت وفوده محل ترحيب من قبل الكثير من قادة العرب وأنظمة حكمهم.
نعم هناك انفصام في الشخصية يتعايش فيها جبروت وتسلط وتهديدات وعنتريات في الداخل مع سلوك ضعيف ذليل مستسلم في الخارج. لك الله يا شعب سورية الرائع المبهر الى أن تتعافى تلك الشخصية العربية من انفصامها المأساوي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

965 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع