البصرة والستة الاف صيني في المعقل!

                                              

                    بقلم الدكتور غانم الشيخ

البصرة والستة الاف صيني في المعقل!

بعد مرور قرن كامل على أحداث الحرب العالمية الأولى أو كما تسمى مجازاً ب "الحرب العظمى"، تظهر بين الحين والآخر وثائق تتحدث عن أحداث جسام، كانت السلطات البريطانية المعنية قد اعتبرتها سرية منذ ذلك الوقت.

وتظهر كذلك في الوقت ذاته وثائق لم تكن سرية ولكن أهملت أحداثها التي توثق لها ولأسباب مجهولة أو غير معلنة. ومن هذه الأسباب ويأتي بالمقدمة منها، ضعف اهتمام الدول المسيطِرة والدول المسيطَر عليها بتلك الأحداث وبتلك الوثائق. وليس بالخافي على المطلع والقارئ أن الدول المسيطِرة رأت من مصلحتها عدم اثارة غبار تلك الحرب وأحداثها كلما كان هناك حدثٌ منها لا يفيدها أو قد يسيء الى سمعتها فآثرت على عدم الإعلان عن تلك الأحداث. ومن الناحية الأخرى، وليس بالخافي كذلك ان الدول المسيطَر عليها دائماً ما تلعب دوراً سلبياً في هكذا توثيق أو لنقل في أحسن الأحوال، أن ذلك لم يكن ضمن امكانياتها بل وليس ضمن اهتماماتها في البحث والتقصي عمَّا حدث على ارضها اثناء تلك الأحداث الا ما كان متوفراً وجاهزاً ربما للتعليق عليه. 

وليس بالجديد على المؤرخ والقارئ أن وجود الصينيين في البصرة، وكجزء من السكان، لم يكن بدرجة لكي يلاحظها الرحالة الكُثر الذين زاروا تلك المدينة وسجلوا تنوع أهل البصرة وساكنيها في سنوات بعيدة من أمثال الرحّالة أيليس إروين الذي مرّ بالبصرة عام 1781 أو عالم الأثار الأشهر السير هنري لايارد عام 1841 وقبل اكتشافه لخرائب نينوى وأخرين غيرهم.
هل نحن نتحدث عن الوجود المكثف للصينيين في البصرة خلال السنوات الأخيرة متمثلاً بعمل شركات مثل: الشركة الصينية لهندسة وبناء النفط (CPECC) العاملة غي حقول الرميلة وشركة شنغهاي التي تنفذ مشروع محطة الطاقة الحرارية في الفاو وكذلك الشركة الصينية للهندسة الميكانيكية (CMEC) في تنفيذ مشاريع في البصرة في مجالات الخدمات والنقل والطاقة أو كما تناقلت الأخبار توقيع شركة الطاقة الهندسية الصينية الدولية مع محافظة البصرة عقداً لإنشاء محطة تحلية المياه في شط العرب بطاقة 3000 متر مكعب في الساعة حيث صرح السفير الصيني اثناء حضوره التوقيع مشيراً الى "أن البصرة هي محطة مهمة على طول طريق الحرير القديم، حيث فتحت الصين والعراق باباً للتبادلات التجارية والثقافية قبل أكثر من ألف سنة. واليوم تعد البصرة منطقة مركزية للشركات الصينية التي تعمل في العراق. وتربط بين الشعبين الصيني والعراقي صداقة طويلة الامد ودولتان استراتيجيتان والعراق هو شريك طبيعي للتشارك في بناء طريق الحرير من جديد." وموضوع حديثنا لا يدور كذلك عما سمّي بالمعرض الصيني المؤلف من عشرات المحلات التجارية المنتظمة في سوقين كبيرين في وسط مدينة البصرة في محلة الجبيلة والمؤسَّس قبل حوالي العشرة سنوات حيث قام مغامرون من الصين بفتح هذه المحلات واغلبهم اليوم اما يوظفوا عمالا عراقيين من العاطلين عن العمل من الشباب من خريجي الجامعات أو يؤجروا محلاتهم بمبلغ معين بالإضافة إلى مبالغ المبيعات وجزء من الأرباح وفي كل الأحوال هم المستفيدون. اذن عن ماذا نتحدث هنا في هذا المقال وندعي غزواً صينياً بالآلاف لمدينة البصرة ومتى وكيف كان ذلك؟
بعد أن كانت منطقة المحيط الهادئ ساحة قتال كبرى ومعروفة في الحرب العالمية الثانية، فقد يكون من المفاجئ أن نعرف أن الدول الشرق-آسيوية لعبت دوراً في الحرب العالمية الأولى حيث أعلنت وقتها كل من اليابان والصين الحرب على المانيا على أمل الحصول على هيمنة إقليمية لهما ليس إلّا. ففي الوقت الذي لم ترسل الصين أبداً قوات لها إلى جبهات المعركة، فإن مشاركتها في الحرب العالمية الأولى كانت مؤثرة وتركت آثاراً امتدت إلى ما بعد الحرب. كانت الصين، تحت حكم أسرة جينغ، أقوى دولة في الشرق منذ ما يقرب من ثلاثة قرون لكن خسارتها الحرب الصينية اليابانية الأولى أمام اليابان في عام 1895 وضعت حداً لذلك. أدت تلك الخسارة الى سلسلة من المعاهدات اللاحقة والتي نتج عنها تقسيم أجزاء من الصين بين روسيا واليابان واستمرار التنازلات للدول الأوروبية مثل هونغ كونغ والتسوية الفرنسية في شنغهاي وخسارة مقاطعة شاندونغ للألمان. وكان الحاكم الصيني وقتها شيكاي قد عرض سراً على مسؤول بريطاني ارسال الصين ل50 ألف جندي لاستعادة مقاطعة شاندونغ. ولكن بريطانيا، وتحت باب ذلك العرض، استخدمت بدلا عن ذلك عشرات الألاف من العمال الصينيين لدعم جيوشها المقاتلة دعماً لوجستياً وخصوصاً في جبهات أوربا.

قامت القوات البريطانية المحاربة خلال الحرب العالمية الأولى باستخدام هذه القوى العاملة الصينية وضمهم الى ما سُمّي ب "فيلق العمل الصيني" أو ما كان يعرف ب (Chinese Labour Corps-CLC). فجندت الحكومة البريطانية في البداية ما يقرب من المائة ألف عامل صيني لدعم قواتهم في الخطوط الأمامية على الجبهة الغربية إضافةً الى حوالي 40 ألف آخرين خدموا ضمن القوات الفرنسية كما عمل معهم مئات من الطلاب الصينيين كمترجمين.

  

كان العمال، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 20 و35 عامًا، يعملون في المواقع الخلفية أو يساعدون في بناء مخازن الذخيرة. كما طُلب إليهم القيام بالأعمال الأساسية لدعم قوات خط المواجهة، مثل تفريغ السفن وبناء وإصلاح الطرق والسكك الحديدية وحفر الخنادق وملء أكياس الرمل.

   

وكان البعض يعمل في مصانع الأسلحة، والبعض الآخر يعمل في أحواض بناء السفن، مقابل أجر يومي قليل وكان يُنظر إليهم على أنهم عمالة رخيصة. وتم الفصل بين الصينيين وحراسهم وفيما بينهم حيث لا يُسمح لهم حتى بالخروج من المخيم لزيارة إخوة لهم في معسكر محلي قريب وعندما انتهت الحرب، كان البعض يُستخدم لإزالة الألغام أو لاستعادة جثث الجنود وطمر الأميال من الخنادق. وقد تمرض الكثير منهم بسبب سوء التغذية والرطوبة الشديدة أو البرودة الشديدة وفي بعض الأحيان، تمردوا ضد أرباب عملهم وحراسهم الفرنسيين والبريطانيين أو نهبوا المطاعم المحلية بحثًا عن الطعام.

   

وبالعودةً الى البصرة، فقبل أشهر قليلة مضت وفي عام (2018)، نشرت المكتبة الأرشيفية البريطانية أسراراً تخص مسرح الأحداث في البصرة أثناء الحرب العظمى. كانت جبهة القتال البريطانية في بلاد ما بين النهرين في العام 1916 قد أصابها الضعف والوهن بفشل القوات البريطانية-الهندية في الوصول الى أهدافها ودخول بغداد. وقد صاحب ذلك استسلام الآلاف من جنود هذه القوات وضباطها وقياداتها للجيش العثماني في الكوت في 29 نيسان من ذلك العام. واستجدت، بذلك، الحاجة لدعم القوات ومنها إعداد وسائل نقل بخارية مؤثرة. ولهذا الغرض، قامت الحكومة البريطانية باستقدام ما يقارب الستة ألاف عامل صيني نقلوا من الصين بحراً الى البصرة التي وصلوها في تشرين الأول (1916). وجاء تجنيد هذه الآلاف من العمال الصينيين بمعزل عن أولئك الذين تم تجنيدهم على الجبهة الغربية في أوربا فقد كان هناك مشروعان منفصلان تمامًا حيث تم تجنيد القادمين الى البصرة ضمن "فيلق العمل الصيني" في مقاطعة شاندونغ وعلى بُعد الاف الأميال من العراق. تم استخدام هؤلاء للعمل في الميناء في المعقل أو ما كان يُعرف بقرية الماركيل (Margil village) وكلفوا حصراً بعمليات بناء حوالي 200 سفينة بخارية وسفن صغيرة ومركبات عائمة أخرى. وكانت القوات البريطانية-الهندية قد أعدت لهؤلاء معسكراً خاصاً لإسكانهم يحتوي على عنابر سكنية ومطاعم وأسواق ومقاهٍ ومسرح وسينما. وكان المعسكر محاطاً بسرية تامة وبأسيجة محروسة. وكانت تقع ضمن حدود المعسكر احواض مائية متفرعة من شط العرب خصصت لبناء السفن. وكانت تصل تباعاً من موانئ بريطانيا صناديق شحن تضم مكونات السفن المراد بناؤها في شكل معبأ خصيصاً للبصرة ومن أحواض بناء السفن في بريطانيا.

          


وقد كتبَ الوزير البريطاني في بكين أن مكتب القيادة العامة في سنغافورة كان يرسل للمقاول البريطاني في البصرة العدد المطلوب من العمال المحجوز لهم مكان للعمل. ولعل من الطرافة أن نذكر هنا أنه كان المتعارف عليه تسمية هؤلاء العمال بالكولية ومفردها كولي (Coolie) والتي لازال العراقيون يطلقونها على العمال بأجر يومي. وهذه التسمية جاءت من تسمية المهاجرين الصينيين إلى الولايات المتحدة كمهاجرين عمال غير ماهرين ورخيصي الأجرة يبحثون عن أي عمل لقاء أجور يومية وذلك ضمن المشروع العملاق لبناء أول خط سكة حديد عبر القارة الأمريكية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ويعتقد ان يكون مصطلح "coolie" مشتقًا من كلمة كولي باللغة الهندية (Kuli) وهو الاسم القبلي للسكان الأصليين جنوب الهند وتعني بلغة التاميل "الأجر اليومي".
وكان العمال الذين وصلوا البصرة يتكونون من 4000 عامل ميكانيكي ماهر وأكثر من 1000 عامل صيني غير ماهر يضاف إليهم مئات من الطلبة الذين عملوا كمترجمين. وكان كل عامل من هؤلاء العمال الصينيين قد تم طبع رقم على ساعده بشكل وشم يحمل الرقم المخصص له والذي كان يمثل هويته الوحيدة. وكان البريطانيون لا يعطون أهمية لأسماء العمال مما يفسر لماذا لم يتم التعرف على أصحاب الجثث المدفونة في المقبرة الصينية في البصرة. والجدير بالذكر أن الوثائق البريطانية لم توثق سوى القليل عن حياة العمال الصينيين في البصرة. كانت طبيعة العمل ثقيلة وشاقة ولذلك كانت السلطة البريطانية توفر الحصص الغذائية الأساسية والإقامة والملابس مع القليل من الترفيه خارج ما كان يعرض للعمال من الأفلام الصينية والتي كانت تعرض في سينما المعسكر وعروض مسرحية يقدمها العمال. كانت الامراض متفشيةً وكذلك سوء التغذية والمشاكل الناتجة عن تأثير المناخ الصحراوي الحار في البصرة وخصوصاً أثناء العمل اليومي لساعات طويلة. وقد رصدنا ما نشرته المجلة الطبية البريطانية (BMJ) في عددها رقم 3081 الصادر في كانون الثاني عام 1920 في الصفحة 73 أن "داء الاسقربوط وداء البيري بيري (وهي أمراض تحدث من أثر سوء تغذية لفترة طويلة) كانا أكثر انتشاراً بين العمال الصينيين في مسرح عمليات البصرة وأكثر من أي مسرح آخر في الحرب العالمية الأولى."
وذكر تقرير هيئة النقل في بلاد الرافدين وتقرير اللجنة المعينة من قبل حكومة الهند المقرونة بموافقة صاحب السعادة وزير الدولة البريطاني لشؤون الهند عن النقل النهري في بلاد الرافدين برقم (IOR/L/MIL/17/15/125/1) صادر عام 1918، أن معدل رفض العمال الصينيين للأوامر في العمل كانت مرتفعة للغاية وتصل الى 46 في المائة. كما أنه كان هناك 227 حالة وفاة بين العمال الصينيين الذين كان يقدر عددهم بنحو 6000 عامل في البصرة أي ما يعادل وفاة واحدة تقريبًا بين كل 26 من أعضاء فيلق العمال الصينيين في بلاد ما بين النهرين. وتعتبر هذه النسبة عالية وخصوصا كون جميع العمال بأعمار صغيرة. ومن غير المرجح أن يكون دفنهم قد تمّ من دون تسجيل أسمائهم. إن الأهمية التي يوليها الصينيون عموماً لاحترام الموتى وذكراهم، تجعل مثل هكذا احتمال أمرًا لا يمكن تصوره وخصوصاً أن الدفن كان يقوم به زملاؤهم العمال أنفسهم. والمثير في ذلك أن المقبرة التي كانت مخصصة لهم قد زال أثرها واختفت تماما بحلول عام 1920. ويذكر تقرير للهيئة الامبراطورية لمقابر الحرب (Imperial War Graves Commission) أنه بحلول الوقت الذي جاءت فيه مديرية تسجيل واستعلامات المقابر لتسجيل المقابر في البصرة، كانت شخوص القبور المكتوبة باللغة الصينية على العلامات المؤقتة للقبور قد تلاشت وأصبحت غير مقروءة. وعلى الرغم من أن سجلات المدفونين يجب أن تكون محفوظة في مكان آخر، فانه ولأي سبب من الأسباب، لم تتمكن المديرية من الوصول إليها لحد الآن. ويبين بوضوح مخطّط لموقع الماركيل (المعقل) مؤرخ بتأريخ 17 شباط 1919 موقع المقبرة الصينية ومؤشر عليها (CHINESE CEMETRY) شمال الماركيل وبالقرب من عدد من أحواض بناء السفن النهرية والمتفرعة من شط العرب (أنظر الصورة أدناه).

          

جزء من مخطط ميناء المعقل عام 1919 يبين موقع المقبرة الصينية.
وختاماً نود أن نذكر وحسب ما متوفر لنا من معلومات، بأنه من الغريب غياب أي ذكر سابق للصينيين في المعقل في كل الوثائق المتوفرة ولم يذكر أحد الذين عايشوا تلك الفترة في مذكراتهم أو الباحثون الذين كتبوا الكتب عن أحداث تلك الفترة. كما يجدر الإشارة أيضاً أنه لم يتم سابقاً أو لاحقاً تناقل أي ذكر لهكذا حدث أو التطرق له لا شفاهاً ولا توثيقاً. ومن المؤكد أن موقع المقبرة الصينية على سواحل شط العرب في الجزء الشمالي من الميناء، قد أصبح، ومنذ عشرات السنين، تحت أرصفة الميناء من جراء التوسع في الميناء بين الآن وعام 1920. نتمنى أن يفتح هذا المقال المقتضب باباً للتذكّر والمناقشة لإضافة آية معلومات تخص وجود الصينيين في البصرة في سنوات 1916-1920.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع