لِئَلَّا ننسَى سَلڤادور أليَنْدَي

                                              

                         د. زكي الجابر

لِئَلَّا ننسَى سَلڤادور أليَنْدَي

إعداد د. حياة جاسم محمد

إِثنانِ تحدَّثا بِلوعةٍ عن ’’تشِيلِي‘‘ (Chile) ورئيسِها القَتيلِ، أَوَّلُهُما جاءَ من عالمِ اللُغَوِيّاتِ والنحوِ التوليديِّ والآخرُ جاء من عالمِ الرواية. الأَوّلُ هو ’’نعوم تشومسكي‘‘ (Noam Chomsky)(1) الذي لمْ يَشغلْهُ البحثُ اللُغَّوي عن الكتابةِ في الشأنِ العالميِّ: فلسطين والصومال وكمبوديا وهايتي ونيكاراغوا والصين وروسيا وتشيلي. أمّا الثاني فهو الرِوائيُّ الكولومبِيُّ، مؤلِّفُ ’’مائةُ عامٍ من العُزلة‘‘ و ’’الحُبُّ في زمنِ الكوليرا‘‘، غابرييل غارسيا ماركيز (Gabriel García Márquez)(2) الذي في رواياتِه وقِصَصِه، كما تقولُ الأكاديميَّةُ السويديّةُ لَدَى مَنحِه جائزةَ نوبل، ’’يتدفَّقُ الواقعيُّ والغَرائِبِيُّ في غِنَىً معقَّدٍ لِعالَمٍ شعريٍّ يعكسُ حياةَ ونَزعاتِ محيطٍ بِأكملِه‘‘. إنّ الذين أُعجِبوا بماركيز الروائِيِّ لا يُخفونَ إعجابَهم به كصحفيٍّ رافِضٍ للمُمارساتِ الدكتاتوريَّةِ ومنها تلك التجربةُ المريرةُ التي مرَّتْ بها تشيلي. أقولُ ذلك والصحافةُ العالَميّةُ تتناقلُ أخبارَ نهاياتِ مطافِ الجنرال ’’أوغستو پينوشيه‘‘، رئيسِ هيئةِ الانقلابِ التي أطاحتْ بحُكمِ رئيسِ تشيلي المُنتخَبِ سَلڤادور أليَنْدَي: أَتُسلِّمُهُ السُلطاتُ البريطانيةُ مَخفوراً إلى القضاءِ الإسپانيِّ ليُحاكِمَهُ جَرّاءَ ما اقترفتْ يداه؟ أيظَلُّ مُرتبطاً بسريرِ المستشفَى يُعالجُ فَقراتِ ظهرِه؟ أَيعودُ إلى مكانهِ في تشيلي لِيُمارسَ مُهِمَّتَهُ كشيخٍ ’’سيناتور‘‘ مَدَى الحياة؟ أقولُ ذلك والصّحافةُ التي تتناقلُ أخبارَ الجنرالِ العليلِ لمْ تتحدَّثْ عن ذلك الرئيسِ القتيلِ سَلڤادور أليَنْدَي! مِن هذه النقطةِ أعودُ إلى صاحِبَيْكَ وصاحِبَيَّ تشومسكي وماركيز.
لقد كان أليَنْدَي، يقولُ تشومسكي، طَبيباً، ومِن أوَّلِ ما قامَ بهِ رئيساً هو إنشاءُ برنامجٍ لتوزيعِ الحليبِ بالمَجَّانِ لِما يُقْرُبُ من نصفِ المليونِ من الأطفالِ الفقراءِ الذين يُنهِكُ سوءُ التغذيةِ أبدانَهُم الغَضَّةَ، وحاولَ أن يسلُكَ بتشيلي طريقاً مستقلاً بالرغمِ من حسّاسيَّةِ تقلُّباتِ السوق. إنّها بلدٌ يعتمدُ على الصادراتِ وفي مقدِّمتِها الفواكهُ والنحاسُ، وكِلا الناتِجينِ يتأرجَحانِ قيمةً في أسواقٍ تُهيمنُ عليها احتكاراتُ الشركاتِ العابرةِ للقارّات، ولم تكن إنسانيّةُ ذلك الإنسانِ مُدوَّنةً في قاموسِ قادةِ انقلابِ أيلول 1973. لقد خرَّ أليَنْدَي صريعاً وأُطيحَ بالحكومةِ وانتهى الآلافُ من المواطنينَ إلى السجنِ أو التعذيبِ أو الذبح!
قد يكونُ مأساويّاً أن أضعَ بين يَدَيْكَ وصفاً لمصرعِ أليَنْدَي، ولكنّي أجدُ نفسي مُلزَماً بذلك خَشيةَ أنْ يَلُفَّ النسيانُ الحَدَثَ الأليمَ بحُكمِ الانشغالِ الإعلاميِّ بمُقاضاةِ الدبلوماسيِّ والجنرالِ والشيخِ ’’پينوشيه‘‘. مَهَّدَ ’’ماركيز‘‘ لِمقالتِه الصحفيَّةِ عن ذلك المصرعِ بوصفِ الخلفيَّةِ السياسيَّةِ المُركَّبَةِ داخليّاً وخارجيّاً لِلإطاحةِ بِحُكمِ أليَنْدَي، أعقَبَها بصورةٍ عن تشيلي يقولُ فيها إنَّ هذا البلدَ ضيِّقُ المساحةِ، طولُه 2660 ميلاً في حينِ أنَّ عَرضَه لا يتجاوزُ 119 ميلاً، يَقطنُهُ عشرةُ ملايينَ من البشرِ الناشِطينَ، ثلاثةُ ملايينَ منهم يَتَعايَشونَ في مركزِ العاصمةِ ’’سانتياغو‘‘. يقولُ المُتنبِّئونَ من الجِيولوجيّينَ إنّ تشيلي ليست بلداً من القارّةِ بل هي ’’كورنيشٌ‘‘ عند مرتَفعاتِ ’’الأَنديزِ‘‘ يمتدُّ في بَحرٍ ضَبابيٍّ، ولِما يَعتري أرضَها من اهتزازاتٍ فإن الطُوفانَ سيبلعُها في آتٍ من الأيام.
ألتشيليونَ يُشابهونَ أرضَهم، مَرِحونَ وحَيَويُّونَ، يعرِفونَ كيفَ يعيشونَ ولكنْ يتملَّكُهم الميلَ إلى التشاؤُمِ والتأمُّلِ الذِهني. يقولُ ’’ماركيز‘‘ لِيُسنِدَ مَقُولتَه إنَّ مُواطِناً تشيلياً قال له في يومِ ’’الاثنينِ‘‘: ’’لا أحدَ في تشيلي يعتقِدُ أنَّ غداً هو الثُلاثاء‘‘، وإنّهُ لا يختلفُ عنهم في مُعتَقَدهم. ومع هذه الشُكوكيَّةِ طوَّرَ التشيليُّون حضارةً أصيلةً ونُضجاً سياسيّاً وثقافةً تُميِّزُهُم عَمّا يُحيطُ بهم من مناطق. لقد حصدَتْ تشيلي اثنَتَيْنِ من جوائزِ ’’نوبل‘‘ للآداب، وكانت إحداهما من نصيبِ الشاعرِ الرائعِ ’’پابلو نيرودا‘‘.
وَلْنَعُدْ إلى أليَنْدَي، إذ كانَ يقولُ بمرارةٍ وعن إحساسٍ بالخطرِ إنَّ الشعبَ يُمسكُ بالحُكمِ ولكنّه لا يُمسكُ بالسُلطة. لقد زارتْهُ الصَحفيَّةُ الإيطاليَّةُ ’’روسانا روساندا‘‘ في تلك الفترةِ الحَرِجَةِ فوَجَدَتْهُ مُتقدِّماً في السِنِّ، مشدودَ الأعصابِ، تَغلِبُ عليهِ مِسْحَةُ الاكتئابِ، مُتحدِّثاً إليها على أريكةٍ، هي ذاتُ الأريكةِ التي استقرَّ عليها جَسدُهُ المُثَقَّبُ بالرصاص. لقد قال لها إنَّ الانقلابَ العسكريَّ في تشيلي لنْ يكونَ لَعِباً بالنارِ ولا مُجَرَّدَ تبديلٍ في الحرسِ بل سيكونُ حَمّامَ دَمٍ، وذلك ما يقولُه تاريخُ العَسكرِ في تشيلي.
لقد كان أليَنْدَي يؤمنُ بالشرعيّةِ في وقتٍ كانتْ فيه البلادُ تحت رحمةِ قُوَىً خارجةٍ عن السيطرةِ، وإيمانُه ذلك كان الدافعَ وراءَ تَصَدِّيهِ للموتِ والدفاعِ عن البيتِ المُحتَرِقِ. لقد قاوَمَ لِمدَّةِ سِتِّ ساعاتٍ برشّاشَتِهِ الكُوبيَّةِ التي لمْ يستعملْها من قبلُ. في الساعةِ الرابعةِ عَصراً وصلَ الميجَر جَنَرال ’’خاڤيير بالاثيوس‘‘ مع مُرافِقيهِ الطابقَ الثانيَ، وكان أليَنْدَي في انتظارِهم مُتوسِّطاً صالَةً تستندُ إلى جُدرانِها كَراسٍ تُماثِلُ كَراسي لويس الخامس عشر. كان يرتدي قميصاً وعلى رأسِهِ خُوذةُ عامِلِ مَنْجَمٍ ومن غيرِ رِباطِ عُنُقٍ، وكلُّ ما عليهِ من مَلبسٍ مُلَطَّخٌ بالدماءِ، في يدِهِ رشّاشَتُهُ وقد أَوشَكتْ أن تَخلُوَ من العَتاد. وما إِن أَطلَّ ’’بالاثيوس‘‘ حتى صاحَ به ’’أيَها الخائنُ‘‘ وأطلقَ الرصاصَ على يَدِهِ، وتوالَتِ الطَلقاتُ وسقطَ أليَنْدَي صَريعاً، وأمطرَ الضبَاطُ الآخرونَ بِوابلٍ من الرصاصِ الجسدَ الذي فارقتْهُ الحياةُ، وسحقَ أحدُهُم رأسَه بأخمَصِ بندقيَّتِه!
ثَمَّةَ صورةٌ باقيةٌ ويجبُ أن تبقَى لهذا المشهدِ الأليم. حين عُرِضَتْ جُثَّتُهُ على زوجتِه لم يسمحوا لها بِرَفعِ الغطاءِ عن ذلك الرأسِ المُشوَّه!
لقد كتبَ ماركيز قائلاً: ’’لقد أخذتِ الدراما مكانَها في تشيلي، كارثةٌ كبرَى للتشيليين ولكنّها ستأخذُ طريقَها إلى التاريخِ كشيءٍ حدثَ لنا جميعاً، نحنُ أبناءَ هذا العصرِ، وستبقَى في حياتِنا إلى الأبد‘‘. ومن أجلِ أنْ تبقَى كذلك لا بُدَّ من التَذْكِرَةِ لِئَلّا ننسَى سَلڤادور أليَنْدَي في يومٍ ما، لِئَلّا ننساهُ في غَمرةِ أخبارٍ كتلك التي تتناقَلُها وسائِطُ الاتصالِ والإعلامِ عن الجنرالِ والشيخِ والدبلوماسيِّ ’’اوغستو پينوشيه‘‘ وهو ما بين يدِ المرضِ ويدِ العدالة! ولِئَلّا ننسَى كذلك أنَّ الأَزْمَةَ السياسيَّةَ في كثيرٍ من جوانبِها أَزْمَةٌ أَخلاقيّة! كما أنَّ فُقدانَ الأخلاقيَّةِ هو العاملُ الأَهمُّ في الكوارثِ السياسيَّةِ، وتلك هي مأساةُ العصر!
1- ’’نعوم تشومسكي‘‘ (1928) له أكثر من مائة مؤلَّفٍ في موضوعات اللغويات، الحرب، السياسة، وسائل التواصل الجماهيري. فعَّال في الحركات ضد الرأسمالية والاستعمار. (ويكيپيديا)
2- ’’غابرييل غارسيا ماركيز‘‘ (1927-2014)، كولومبيا، روائيٌّ وصحفيٌّ، حاز على ’’نوبل‘‘ للآداب 1982. أشهر رواياته ’’مائةُ عامٍ من العُزلة‘‘ و ’’الحُبُّ في زمنِ الكوليرا‘‘ و ’’خريف البطريرك‘‘. (ويكيپيديا)
**********
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘ (المغرب) بتاريخ 22-2-2000.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

997 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع