المهندس هامبرسوم أغباشيان
نقل العلوم والتكنولوجيا من المهجر الى الوطن
بعد تاسيس الحكومة الوطنية في العراق وظهور دولة العراق الحديثة على الخارطة السياسية، اصبحت من الاهتمامات الاولى للحكومات المتعاقبة القضاء على حالة الجهل والتخلف السائد في البلد في كافة المجالات بسبب السياسات الشوفينية العنصرية التي اتبعتها السلطات العثمانية مع اهل البلد والنظرة الدونية تجاههم ، والتي دامت لعدة قرون كانت كافية بان تبقي البلد متخلفا وفي الظلام . هكذا كان حال بغداد هارون الرشيد والعراق وكل البلاد العربية عند نهاية الحرب العالمية الاولى.
بعد الاستقلال والنهضة الوطنية والقومية في العراق جاء دور النهضة العلمية والتكنولوجية والاهتمام بالحالة الصحية للمواطنين وتطويرالخدمات الطبية التي كانت شبه معدومة في السابق وكذلك تنمية القدرات البشرية وتطوير المجتمع، ولتحقيق كل ذلك كان لا بد من التواصل مع الدول المتقدمة في هذه المجالات . وبالنسبة للعراق كانت في مقدمة هذه الدول بريطانيا لعدة اسباب وفي مقدمها الاسباب السياسية وكذلك لكون بريطانيا من الدول المتقدمة ، وكذلك لبنان حيث الجامعة الامريكية العريقة في بيروت ، ومصر لكونها متقدمة في مجال اللغة والادب والتاريخ وما يتعلق بكل ذلك.
تم ارسال العديد من الشباب من قبل الحكومة للدراسة في الخارج وخصوصا في مجال الطب والهندسة حيث لم تكن هناك تخصصات كثيرة قد تبلورة انذاك ، ولقد اهتمت بعض العوائل الميسورة بتعليم ابنائها في الخارج وتحملت مصاريف ذلك، وتوزعت معظم هذه البعثات على الدول التي ذكرت سابقا، وكانت حصة الاسد في تلك الفترة للجامعات البريطانية.
في العقود اللاحقة وخصوصا في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي تطورت العلاقات السياسية والثقافية مع الولايات المتحدة الامريكية ومنحت الفرص للشباب العراقي للتخصص في امريكا اما عن طريق البعثات الحكومية او المقاعد المخصصة من قبل الحكومة الامريكية او الجهات العلمية كالجامعات وغيرها او المنظمات المدنية الامريكية، وكانت الاختصاصات الهندسية هي السائدة وكذلك الطب والعلوم الاخرى ( كان عالم الاجتماع الكبير المرحوم الدكتور علي الوردي احد هؤلاء الموفدين). لم يدم ذلك طويلا فلقد تغيرت الاحوال بعد 14 تموز 1958 حيث اصبحت سياسة البلد تميل الى التقارب والصداقة مع الدول الاشتراكية وخصوصا الاتحاد السوفيتي وانفتحت ابواب الدراسات العليا في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الاخرى امام العراقيين وارسل العديد من الطلاب لمتابعة دراساتهم في هذه الدول وخصوصا الاتحاد السوفيتي، ولكون السلاح العراقي قد اصبح سوفيتيا في تلك الفترة وكذلك المعدات الصناعية المستوردة ، عليه كان من الطبيعي ان يتم ارسال الشباب ومنهم منتسبي القوة الجوية العراقية من الطيارين والفنيين وكذلك كافة الاختصاصات المدنية الاخرى الى هناك للتدريب. لم يدم ذلك ايضا طويلا، فبعد 8 شباط 1963 تغير نظام الحكم وساءت العلاقات مع الاتحاد السوفيتي وتوقف ارسال البعثات الدراسية الى هناك، وحصل الاسوء حيث سجن العديد من المثقفين والاختصاصيين وحتى الفنانين لاسباب سياسية وتم طردهم من وظائفهم واضطر العديد منهم الى ترك العراق، وظلت الحالة كذلك لفترة وتحسنت قليلا بعد 18 تشرين الثاني 1963 عندما تم تغيير نظام الحكم مرة اخرى، ولكن لم ترجع العلاقات مع الاتحاد السوفيتي الى تلك الذروة التي وصلت اليها في بداية العهد الجمهوري.
في السبعينيات من القرن الماضي انفتح العراق على عدة دول غربية وبالاخص فرنسا ولعبت تجارة السلاح دورها في تقوية العلاقات مع فرنسا ومنها العلاقات الثقافية وارسل العديد من الشباب الى هناك لتكملة دراساتهم العليا وكذلك الى بعض الدول الغربية الاخرى ولكن بنسب اقل ، ما عدا بريطانيا التي لم تتاثر كثيرا في هذا المجال من التقلبات السياسية في العراق وكذلك استمرت البعثات الدراسية الى الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية.
اصبحت معظم البعثات في الفترات اللاحقة للدراسات العليا حيث ان الدراسات الاولية ( البكالوريوس)كانت متاحة في البلد، ولقد برزت عدة اختصاصات جديدة في الخارج وارسل الشباب للتخصص فيها ولكن ظلت السياسة تلعب دورها في معظم الاوقات لتحدد برودة او دفء العلاقات الثقافية مع البلدان المختلفة. والملاحظ هنا ان البعثات الدراسية الحكومية او الخاصة لم تتوقف مع كل هذه التغيرات السياسية ( ما عدا في الفترة ما بعد 8 شباط 1963 ولحين زوال النظام).
مع مرور السنين تراكمت الخبرات العلمية والتكنولوجية وتوسعت قاعدة الاختصاصيين واصحاب الكفاءات في البلد والتي ساعدت على تهيئة اصحاب الشهادت الاولية ( البكالوريوس) والماجستير وحتى الدكتوراه في بعض الاختصاصات وظلت الحاجة الى التخصصات النادرة والتي تم ارسال الطلاب الى الخارج لاجلها. فبعد جامعة بغداد تم تاسيس العديد من الجامعات والكليات والمعاهد في بغداد والبصرة والموصل واربيل والسليمانية والانبار وغيرها واصبحت الجامعات العراقية تمنح الشهادات في كافة الاختصاصات العلمية والادبية والاقتصادية والرياضية والفنية، واصبح العراق يملك عدد هائل من الاساتذة والاختصاصيين في كافة المجالات وتراكمت الخبرات العلمية في البلد. علما بان العراق كان قد اوفد ايضا العديد من اصحاب الكفاءات الفنية في الموسيقى والنحت والرسم وغيرها منذ فترة الحكم الملكي وما بعدها في بعثات حكومية لتطوير كفاءاتهم واشتهر العديد منهم لاحقا.
لم يكن كل ذلك في حساب الاعداء وتوقعاتهم والذين كانوا يراقبون ما يحصل من تقدم في العراق، فالعراقي كان قد تجاوز الحد المسموح له في التقدم والتطور وكان لا بد من التحرك لتغيير الموقف. ولقد جاءت التقلبات السياسية المختلفة في البلد وقصر نظر العديد من السياسيين والمسؤولين الحكوميين والاحقاد والمصالح السياسية والحزبية المتضاربة بالاضافة الى المخططات التخريبية للحاقدين على البلد في الداخل والخارج، جاءت كلها لصالح الاعداء. فبعد 14 تموز 1958 اعتبرت امريكا العدو الاول للعراق حيث كان الشارع العراقي يميل نحواليسار في توجهاته واضطربت العلاقات الثقافية وتاثرت البعثات الدراسية المرسلة الى هناك . وبعد 8 شباط 1963 احترق الاخضر مع اليابس واعتقل كل من يشتبه به من المثقفين بالميول اليسارية او في احسن الاحوال احيل على التقاعد كما ذكرنا، وقد يكون من المؤلم جدا ان نذكرهنا بان العالم العراقي ورئيس جامعة بغداد السابق الدكتور عبد الجبار عبد الله اعتقل لاسباب سياسية واحيل على التقاعد، ونذكر هذه الحالة كنموذج لعل الجيل الجديد يتعلم من اخطاء ابائه واجداده حيث ان عدد كبير من اصحاب الاختصاصات العليا والعلماء مثله لقي نفس المصير والعديد منهم تركوا العراق الى البلدان التي درسوا فيها حيث حصلوا على مراكز مرموقة هناك. واستمرت حالات ترك البلد من قبل اصحاب الاختصاصات في العهود السياسية اللاحقة لاسباب معظمها سياسية او مضايقات حزبية او وظيفية وغيرها وامتلات لندن وعواصم اخرى بالاطباء والكفاءات العراقية، وكل هذا النزيف في الكادر العلمي كان لاسباب داخلية وخلافات بين ابناء البلد الواحد، ولكن الاتي كان اسوأ.
فالعراق هو بلد الخيرات الذي انجب حورابي ونبوخذ نصر واشور بانيبال وانجب ولا زال ينجب العلماء، ولكن مع الاسف عمل الاعداء دائما على ايقاف عجلة التطور، فبالاضافة الى الاسباب الداخلية والخلافات بين ابناء البلد الواحد جاء الخطر الكبير مع احتلال العراق حيث فقد الامن وبداءت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ، والاسوأ من كل ذلك بدأت ملاحقة اصحاب الكفاءات من قبل قوى الشر لتدمير القاعدة العلمية والتكنزلوجية في البلد، فاغتيل من اغتيل وترك الكثيرون البلد للنجاة بارواحهم وانتقلوا الى ارض الله الواسعة ، وخلال فترة قصيرة في المهجر استطاع معظم اصحاب الكفاءات من ايجاد اعمال مناسبة لهم، وظهر جيل جديد من اصحاب الكفاءات الذين استطاعوا بجدهم ونشاطهم الحصول على الشهادات العليا في بلاد المهجر. وحاليا هناك عدد كبير من اصحاب الكفاءات العراقية في المهجر ، فالاولون قد اثبتوا كفاءاتهم وقسم منهم تبوأ مراكز مرموقة في الخارج والعديد من ابناء الجيل الجديد تابعوا تعليمهم وحصلوا على الاختصاصات العديدة كما ذكر، ولا شك ان العراق بحاجة ماسة اليوم الى هؤلاء جميعا.
قد لا يكون الوضع الامني في العراق ملائما في الوقت الحاضر لرجوع هؤلاء والاستقرار فيه ، ولكن وجودهم فترات طويلة خارج الوطن سيجعلهم غرباء عنه والخسارة ستكون اكبر، وعليه قد يكون من المفيد تنظيم دعوات لهؤلاء الاختصاصيين واصحاب الكفاءات لزيارة العراق لفترات قصيرة لالقاء المحاضرات وتنظيم الدورات التدريبية في الجامعات والمؤسسات العلمية العراقية لنقل ما لديهم الى الجيل العراقي الجديد في الوطن، وقد يكون ايضا من المفيد ان يتم حصر حالات صحية مستعصية في العراق وتوجيه الدعوة للاطباء العراقيين الاختصاصيين في المهجر لاجراء العمليات اللازمة مع مشاركة الاطباء في الوطن للاطلاع والتدريب، وبالتاكيد سينقل هؤلاء معهم اجهزة متطورة الى العراق لاجراء عملياتهم والتي سيتم الاستفادة منها لاحقا في المستشفيات العراقية، وفي نفس الوقت سيطلع هؤلاء المغتربون على اوضاع الوطن وما يحتاجه من مساعدات في مجال اختصاصاتهم ، واخيرا ستكون الزيارة فرصة لهم لزيارة الوطن واعادة الروابط الاجتماعية والتي ستمهد الطريق للزيارات المستقبلية والتواصل الى ان تزول الازمات والعقبات ويرجع على الاقل نسبة منهم للاستقرار في الوطن بصورة دائمية ، ولا يقتصر هذا على الاطباء والمهندسين والعلماء، فالدراسات الانسانية على نفس القدر من الاهمية ونحن بحاجة لبناء مجتمع جديد متطور يحمل الافكار الانسانية المتطورة.
-----------------------------
لوس انجليس - كاليفورنيا
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
951 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع