توطيدُ السلامِ، تلك المُهِمَّةُ الصعبة

                                                 

                           د. زكي الجابر

توطيدُ السلامِ، تلك المُهِمَّةُ الصعبة

                    إعداد د. حياة جاسم محمد

قد لا يبتعدُ عن الصوابِ القولُ بأنَّ نجاحَ النظامِ السياسيِّ العالَميِّ يتوقَّفُ على مَقدِرَةِ هذا النظامِ على توطيدِ السلامِ وإبعادِ أَشباحِ الحروب. إنّ الحروبَ المُعاصِرةَ مُخرِّبَةٌ مُهلِكةٌ، يحاولُ كلُّ طَرَفٍ مُشارِكٍ فيها إلحاقَ أَفدحِ الأضرارِ البشريَّةِ والماديَّةِ بالطَرَفِ الآخَر. ثَمَّةَ وسيلتانِ يُوظِّفُهُما المجتمعُ الدوليُّ من أجلِ إعادةِ ما تَمزَّقَ من سلامٍ على الأرضِ، أُولاهُما ’’حِفظُ السلامِ‘‘ وثانيتُهُما ’’إِحلالُ السلام‘‘.

لقد وردتِ الوسيلةُ الأُولَى في إطارِ المُنطَلَقِ العامِّ للفصلِ السادسِ من ميثاقِ الأُممِ المتّحدةِ حولَ تسوِيةِ المُنازعاتِ الدوليَّة، وبالشكلِ الذي يقومُ على قَبولِ الأطرافِ المُتنازِعةِ ورِضاها. أمّا ثانيتُهُما فقد اشتُقَّتْ من الفصلِ السابعِ الذي يُخوّلُ مجلسَ الأمنِ فَرْضَ إِرادتِهِ عندما يرَى ما يهدِّدُ سلامَ العالَمِ وأَمنَهُ، وذلك من خلالِ اتِّخاذِ عُقوباتٍ قانونيَّةٍ مُلزِمَةٍ أو تنفيذِ عَمليّاتٍ عسكريَّة. ويختلفُ ’’إحلالُ السلامِ‘‘ عن ’’حِفْظِ السلامِ‘‘ الذي يقومُ على أساسٍ من رِضا أطرافِ النِزاعِ باتِّباعِ أساليبَ تُقْسِرُ الأطرافَ على الوصولِ إلى تَسويَّةٍ أو إِذعانٍ أو أيِّ شيءٍ لم تكنْ لِتَفعَلَهُ سِوى عن طريقِ القَسْرِ. وليس في قاموسِ الأُممِ المتَّحدةِ ما يُشيرُ إلى حِفظِ السلامِ أو إِصلاحِهِ خارجَ نِطاقِها، وليس فيه ما يُوحِي بأنَّ لُغَةَ المَدافِعِ أَقوَى من لغةِ النِقاشِ والحِوار.
يعتقدُ الپروفيسور ’’تراڤر فِندلي‘‘ (Trevor Findlay) من أستراليا بأنَّ ’’حِفظَ السلامِ‘‘ إِحدَى الأقاصيصِ الناجحةِ للأُممِ المتّحدةِ التي أهَّلَتْ، بِحَقّ،ٍ قواتِها لحِفظِ السلامِ من نَيلِ جائزةِ ’’نوبل‘‘ عام 1988. أما عمليّاتُها فتتضمَّنُ نَشرَ قوّاتٍ متعدِّدَةِ الجنسيّةِ غيرَ مُسلَّحةٍ أو مُسلَّحةً بالخفيفِ من السلاحِ لمُلاحظةِ وتَيسيرِ جُهودِ وَقفِ إطلاقِ النارِ أو مُراقبةِ تنفيذِ اتّفاقِ سلامٍ، وذلك من خلالِ اتّخاذِ مواقعَ بمُحاذاةِ خُطوطِ وَقفِ إطلاقِ النارِ أو في المناطقِ مَنزوعةِ السلاح. إنّ قوّاتِ حِفظِ السلامِ تعملُ وِفقَ مبادئَ ثلاثةٍ: قَبولُ الأطرافِ المُتنازِعةِ ورِضاها، والحِيادِ وعدَمِ استعمالِ السلاحِ إلا في حالةِ الدفاعِ عن النفس. ومن الأمثلةِ على نَشرِ قوّاتِ حِفظِ السلامِ التي غالِباً ما تُنشَرُ في مواقعَ تَلتَبِسُ فيها خُطوطُ وَقفِ إطلاقِ النارِ وتَتَّسِمُ قناعةُ الأطرافِ بالهشاشةِ: الكونغو ولبنان وقبرص. أما إحلالُ السلامِ فلم يَتِمَّ توظيفُه خلالَ الحربِ الباردةِ إلّا نادراً بسببِ صعوبةِ الوصولِ إلى اتفاقٍ في مجلسِ الأمنِ على مِثلِ هذا الإجراء، أمّا الحربُ الكوريَّةُ فهي من الاستِثناءات. لقد كان الاتحادُ السوڤياتي مُقاطِعاً لاجتماعِ مجلسِ الأمنِ الذي خَوَّلَ الولاياتِ المتحدةَ قيادةَ قواتِ تَحالُفٍ لفَرضِ السلامِ عن طريقِ القَسْرِ.
إنّ ازديادَ الدولِ المشاركةِ في قوّاتِ حِفظِ السلامِ واتِّساعَ عددِ القواتِ لمْ يمنَعا من الوقوعِ في الفشلِ، وقد يُعلَّلُ ذلك بعدمِ مُواءَمَةِ الظروفِ والمواقعِ، أو العَجزِ في المواردِ، أو لِغيابِ الإِسنادِ السياسيِّ والتَفويضِ المُلزِم. وكنتيجةٍ لذلك، يُورِدُ ’’فِندلي‘‘، من بابِ المِثالِ، الإخفاقَ التامَّ في الصومالِ والمآزِقَ المُفزِعَةَ التي واجهتْ ما أُطلِقَ عليه بشكلٍ غيرِ مُلائِمٍ اسمَ قواتِ الأممِ المتّحدةِ للحِماية. وهو يرَى أنَّ أهم سببٍ للفشلِ، يُضافُ إلى الأسبابِ التي سَلفَ ذِكرُها، هو غِيابُ المَعالِمِ المُمَيِّزةِ لِلخطِّ الفاصلِ بين ’’حِفظِ السلامِ‘‘ و ’’إِحلالِ السلام‘‘.
ورُبَّما، كما يذهبُ اجتهادُنا، بين تَيْنَكِ الأداتَينِ وتعزيزِ السلام! ورُبَّما أدَّى ذلك إلى دَعمِ الاعتقادِ بأنَّ الأممَ المتّحدةَ غيرُ قادرةٍ على معالجةِ عمليّاتِ السلامِ المُتَّسِمَةِ بالخُطورة، وأنَّ الذي يَقدِرُ على هذه المعالجةِ، على الصعيدِ الفِعلِيِّ، إنّما هو تَحالُفٌ ’’پوليسيٌّ‘‘ له مَصلَحةٌ في ذلك، كما أدَّى ببعضِ الدُولِ إلى الامتناعِ عن المُشارَكةِ في مُهِمّاتٍ لا تَتمتَّعُ بمشاركةِ الولاياتِ المتَّحدةِ أو بإسنادِها القويّ.
إنّ الذين يُتابِعونَ أعمالَ الأممِ المتَّحدةِ يُقِرُّونَ بأنَّ الأممَ المتَّحدةَ قد حقَّقتْ خُطُواتٍ مُهِمَّةً من أجلِ الرَفعِ من قُدراتِها على حِفظِ السلامِ، من بينِها تَطويرُ قُدرَةِ السِكرتاريَّةِ من خلالِ تعزيزِ قسمِ عمليّاتِ حِفظِ السلامِ بحوالَي تسعينَ عسكريّاً مُنذُ عام 1993، وتمَّ إنشاءُ مركزٍ يعملُ على مَدى 24 ساعةً لأغراضِ المُراقَبَةِ والاتّصالِ مع عمليّاتِ حِفظِ السلامِ في أرجاءِ العالَمِ المُختلفةِ، ولَدَى الأممِ المتّحدةِ قوُاتٌ جاهزةٌ، نظريّاً على الأقلِّ، للاستخدامِ السريعِ عِندَ الاقتِضاء.
إنَّ المُتابِعينَ يَرَوْنَ كَذلك تَوافُرَ عَقَباتٍ مالِيَّةٍ أبرَزُها الانخفاضُ الهائلُ في ميزانيَّةِ حِفظِ السلامِ، واستِنكارُ عددٍ من الدُولِ الناميةِ لِلمُكافآتِ التي تُمنَحُ لِقوّاتِها المُشارِكة، لِأَنَّ قُوّاتِها تَتَسلَّمُ أقلَّ مِمَّا تَتَسلَّمُهُ قُوّاتُ الدولِ المتقدِّمةِ بسببِ احتسابِ الرواتبِ فيها وَفقاً لمُستَوى العَيش.
وبالرغمِ من كلِّ ذلك فثَمَّةَ ضَرْبٌ من التَفاؤُلِ بأنَّ الأممَ المتّحدةَ قد تستفيدُ مِمّا مَرَّتْ به من تجارِبَ في محاولاتِها لحِفظِ السلامِ أو إحلالِهِ وتَعزيزِهِ وأنْ تَغدُوَ أكثرَ فاعِلِيَّةً في نشرِ قُوّاتِها وإدارتِها. أمّا أهمُّ ما يدفعُ إلى تقويضِ دعائمِ هذا التفاؤُلِ فَهوَ الوَعيُ بأنَّ قوّاتِ حِفظِ السلامِ وجُهودَ إحلالِ السلامِ وتعزيزِهِ قد يأتي استجابةً لِمَصالِحِ الدُولِ الكُبرَى، وأنْ يَغْدُوَ توطيدُ السلامِ أساساً لتوطيدِ الهَيمَنَةِ الاقتصاديَّةِ من خِلالِ امتداداتِ النُفوذِ السياسيِّ والعسكريّ.
وبذلكَ تَغدُو تلك العمليّاتُ وسيلةً لا مسؤولةً وذَريعةً من أجلِ إِحقاقِ حَقٍّ يُرادُ به باطِلٌ، ومِن هُنا يبدو مَشروعاً تَمامَ المَشروعِيَّةِ أنْ تُطرَحَ تساؤُلاتٌ مُعَمَّقَةٌ في كلِّ ما تُقرّرهُ الأممُ المتّحدةُ في موضوعاتٍ لها خُطورَتُها وأهميَّتُها في صِياغةِ سياساتِ التَجَمُّعاتِ البشريّةِ وتَطَلُّعاتِها. إنَّ تَوازُنَ القُوَى العالميَّةِ من خلالِ المَصالِحِ الاقتصاديَّةِ قد تذهبُ ضَحِيَّتَهُ استقلِاليَّةُ القَرارِ السياسيِّ للدُولِ الأقَلِّ تَطَوُّراً في المجالاتِ الاقتصاديَّةِ والعسكريَّةِ والتكنولوجيَّة، وقد تكونُ الدُوَلُ العربيّةُ ضَحِيَّةً من ضحايا أساليبِ إنقاذِ الدُوَلِ المُصَنَّعةِ من مآزِقِ إنتاجِها. لقد باتَ من المُهِمَّاتِ العاجِلةِ أنْ تَتولَّى الأممُ المتّحدةُ تنفيذَ عمليّاتِ حِفظِ السلامِ وإحلالِهِ على أُسُسٍ أخلاقيَّةٍ يُراعَى فيها مُستقبلُ الإنسانِ ومَصيرُه، ومن أجلِ ذلك ينبغي أن تكونَ هذه المُهِمَّاتُ في صَدارَةِ ما تَنْهَضُ به على صعيدِ الفكرِ والمُمارَسةِ تنظيماتُ المجتمعِ المدَنيِّ بكلِّ ما في هذا المُصطَلَحِ من شُمولِيَّة. وعلى سبيلِ المِثالِ فإنَّ جُهوداً ينبغي أن تُبذَلَ في تحديدِ مُصطَلَحِ ’’العُدوانِ‘‘ لتُكمِلَ الجهودَ الفكريَّةَ السابقةَ وُصولاً إلى دليلٍ عمليٍّ يُمكنُ الاسترشادُ به في عَملِيَّاتِ فَرضِ السلامِ ونشرِ قوّاتِ الحِفاظِ عليه، ولعلَّ أهمَّ ما يُواجِهُ صُنْعَ هذا الدليلِ وتطبيقِهِ من بَعدِ ذلك هو مَدَى صلاحِيَّتِه العمليَّةِ للتَطبيقِ على الدُولِ الكُبرَى. إنَّ المُنازَعاتِ المُسلَّحَةَ ليستْ قَصْراً على الدُوَلِ غيرِ المُتطوِّرةِ بل هناكَ أكثرُ من شاهدٍ في أَكثَرِ من مكانٍ على فَعاليَّةِ الأَيديْ ذاتِ الحَوْلِ الاقتصاديِّ والطَوْلِ العسكريِّ في إثارةِ تلك المُنازَعاتِ واستِمرارِيَّتِها. ولم يَخْلُ شاعرُنا المُتنبّي من ثاقِبِ النَظَرِ حين قال:
بِذا قَضَتِ الأيّامُ ما بَينَ أَهلِها
مَصائِبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُ!

1- ’’تراڤر فِندلي‘‘ (Trevor Findlay) حاصل على الدكتوراه (Phd) من جامعة Australian National University. رئيس المركز الكندي لقسم ’’الامتثال للمعاهدات‘‘ (Treaty Compliance). يشغل مناصب باحث واستاذ في معاهد وجامعات متعددة. عضو مجموعة المستشارين للأمين العام للأمم المتحدة في شؤون نزع السلاح.

***********
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘ (المغرب) بتاريخ 14-4-1999.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

706 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع