د. علي محمد فخرو
الشعب العربي ليس قاصراً ولا معاقاً
آن لموضوع مكانة ودور وحدود مسؤوليات المؤسسة العسكرية في بلاد العرب أن يصل الى نقطة الحسم المعقول والمقبول من شعوبها ومجتمعاتها.
عندما حدثت الانقلابات العسكرية في منتصف القرن الماضي، في مختلف الأقطار العربية، وبتتابع سريع، رحب الكثيرون بقادتها وشعاراتها الوطنية والقومية الداعية الى الاستقلال الوطني والقومي، والقضاء على النظام الاقطاعي الجائر، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، وبناء دولة الرعاية الاجتماعية، والرفض الكامل للوجود الصهيوني في فلسطين العربية المحتلة. وكانت تلك الشعارات كافية لاقتناع الشعوب بتأجيل الانتقال الديموقراطي الى حين. وبالرغم من المقاومة والمؤامرات من قبل القوى الاستعمارية وقوى الداخل الرجعية الفاسدة نجحت بعض الانقلابات العسكرية في تحقيق بعض تلك الأهداف، بينما تاه بعضها الآخر واصبح عبئا على الوطن والأمة بسبب فداحة الأخطاء التي ارتكبها بعض قادتها وفشل الأحزاب السائرة في ركابها ودخول بعض المؤسسات العسكرية في ألعاب وانتهازية الغنائم والنفوذ والامتيازات.
سبعون سنة مرت والمؤسسة العسكرية في بعض بلاد العرب في حيص وبيص والناس في هرج ومرج بشأن مكانتها وأدوارها وما تفعله ومالا تفعله. بل لقد ازداد الموضوع تعقيدا وخطرا بعد أن أدخلت المؤسسات الأمنية القمعية والاستخباراتية في اللعبة ذاتها، وبعد أن أصبحت المؤسسات الاستخباراتية الأجنبية الاقليمية والدولية متواجدة في كل الساحات السياسية والأمنية العربية، تخطيطا وتدريبا وتمويلا وتنسيقا واملاء.
سبعون سنة طويلة انقلبت فيها المؤسسة العسكرية - الأمنية الى طبقة حاكمة تمارس السياسة، وتملك جزءا كبيرا من ثروات الاقتصاد والمال، وتلعب دورا حاسما في قمع المجتمعات المدنية المعارضة، وتتراكم امتيازاتها المادية والمعنوية. ولقد سهل ذلك التحول انتهازية بعض القوى السياسية المدنية والحزبية التي أرادت أن تستعمل قدرات ومكانة المؤسسة العسكرية - الأمنية لتحقيق أهدافها وترجيح كفتها في ساحتي السياسة والحكم. فكانت النتيجة أن انقلب السحر على الساحر وأصبحت المؤسسة العسكرية - الأمنية هي التي تستعمل شعارات ورجالات ونضالات الأحزاب والنقابات وكثيرا من مؤسسات المجتمع المدني لصالحها وترسيخ سلطاتها واستمراية وجودها عبر السنين.
وشيئا فشيئا أقنعت الشبكات الاعلامية وجهات العلاقات العامة التابعة لتلك المؤسسة، أقنعت المواطنين بأنها وحدها، دون غيرها، ودون حاجة لغيرها، القادرة على حماية الأوطان من السقوط في الفوضى والصراعات المضرة، وعلى اجتذاب الاستثمارات، وعلى بناء السلم الأهلي، وعلى محاربة الفساد، وهي قادرة على فعل كل ذلك لأنها الأكثر تماسكا وتنظيما وكفاءة والتزاما وطنيا وقوميا.
ظلت تلك الصورة مهيمنة، بصورة علنية أحيانا وغيرعلنية أحيانا آخر، حتى انفجرت الأرض العربية بحراكات وثورات الربيع العربي، وظن الناس أن تلك الصورة ستتغير، وأن المؤسسة العسكرية - الأمنية ستراجع سبعين سنة من الاشكالات والاملاءات والتدخلات في كل صغيرة وكبيرة من الحياة السياسية العربية، وبالتالي ستعود الى ممارسة مهماتها الأساسية في حماية الأوطان من أخطار الخارج، وفي المساهمة في حماية الأمن القومي العربي، وفي حماية الأمن الداخلي كجزء من منظومة حكم مدني ديموقراطي خاضع لدستور وقوانين ومؤسسات منتخبة.
لكن أحداث ماجرى في العديد من الأقطار العربية ابان العشر سنوات الماضية، وفي اللحظة الحالية التي نعيشها، أوضحت أن تلك المراجعة لم تتم، حتى ولوجرت محاولات متواضعة هنا وهناك. فتلك المؤسسة مازالت غير مقتنعة بأن الشعوب العربية قادرة على حكم نفسها بنفسها.
مازالت تلك المؤسسة تشكك في قدرة القيادات المدنية على نقل المجتمعات الى بر الأمان والخروج من الجحيم الذي يعيشه الوطن العربي كله، وان كان بنسب متفاوتة.
ويشعر الانسان بالأسى والخجل وهو يرى ماجرى في العديد من المجتمعات الأفريقية، حيث اقتنعت العديد من المؤسسات العسكرية - الأمنية بتسليم السلطة الى القوى المدنية استجابة لصوت الملايين من الجماهير المطالب بالانتقال الى الديموقراطية. هذا بينما تتجاهل بعض المؤسسات العسكرية - الأمنية في العديد من الأقطار العربية هدير أصوات الملايين من المواطنين من رافعي شعارات الحرية والعدالة والكرامة الانسانية، بعد أن يئسوا من امكانية أن يتم ذلك عن طريق المؤسسة العسكرية - الأمنية.
وحتى عندما تدعي بعض تلك المؤسسات بأنها ستنحاز لمطالب الجماهير وستبتعد عن أنظمة الحكم السابقة الاستبدادية الفاسدة الظالمة، تظل شهرا بعد شهر وسنة بعد سنة تراوغ وتلعب بعامل الوقت وتتقدم خطوة لتتراجع خطوتين، وذلك من أجل أن يتعب الناس ويصابوا بالملل والقنوط ويقبلوا باستمرار الدولة العميقة السابقة وقوى نظام حكمها الفاسد الناهب للخيرات.
هذا الليل الحالك الذي وصل الى مرحلة الشيخوخة المريضة الضعيفة، آن له أن ينتهي ويتوارى ليحل محله نهار جماهير المواطنين، بحقهم في الحصول على الفرص والتجارب والنجاحات، وحتى امكانية الاخفاقات، تماما مثل ما فعل الآخرون، دون وصاية أبوية أنانية مريضة لاتريد أن تتخلى عن هيمنتها وامتيازاتها وهلوساتها.
795 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع