كلمات حق يراد بها باطل

                                          

                     د.علي محمد فخرو

كلمات حق يراد بها باطل

أصبح من الضروري في أيامنا الصعبة المعقدة التي نعيشها عبر الوطن العربي كلِّه أن نكون حذرين تجاه بعض الكلمات التي يكثر استعمالها مؤخراً في قاموس الخطاب السياسي العربي. فعلى سبيل المثال لاحظت أثناء محاضراتي عن الشؤون العربية القومية العامة وسبل الخروج من كوارثها استعمال كلمة «التجديد» بصورة متكررة. البعض يطرح أمر تجديد الفكر القومي، والبعض الآخر يطرح ضرورة تجديد الفكر الاسلامي. الخ من التجديدات المطلوبة. لكن المطالبين بالتجديد لا يحددون جوانب وموضوعات التجديد، الأمر الذي يلقي بظلال الشكًّك على كل ما جاء به ذلك الفكر من مبادئ وحلول ويضعف ايمان المواطنين، وعلى الأخص الشباب والشابات منهم، بذلك الفكر على اطلاقه. وهذا بالضبط ما يسعى اليه التآمر الاستعماري- الصهيوني، الذي يسعى الى ابعاد الشباب العربي عن كل الأفكار الثقافية العربية المشتركة الكبرى التي تسعى الى مواجهة التراجعات والأخطار الكارثية في حقول السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماع.

فلو أخذنا المطالبة بتجديد الفكر القومي، هل حقاً أن الجانب الوحدوي، وحدة الأمة والوطن العربي الكبير، الذي هو أحد الممًّرات الرئيسة الضرورية لتعافي الأمة من تخلّفها الحضاري وضعفها الاقتصادي والأمني وهوانها أمام أعدائها الكثيرين، هل حقاً أنه يحتاج الى مراجعة؟ اذا كان المطلوب هو تجديد وسائل ومراحل تحقق ذلك الهدف القومي، فهذا أمر طبيعي ومقبول، نظراً لتغير الظروف وتعقّدها. أما اذا كان المطلوب هو تجديد الهدف، وهذا في الواقع سيعني التراجع والقبول بقدر التجزأة والتفتيت لهذه الأمة ولهذا الوطن، فاننا هنا أمام تراجع مذهل في مواضيع هوية الانسان العربي وتاريخه وآماله المستقبلية المشروعة، بل نحن أمام محاولة التهميش للوجود العربي في حضارة العصر.
أما اذا كان التجديد المطلوب هو اضافة مبادئ الديموقراطية ومكوناتها وممارساتها لتصبح جزءاً أساساً من الفكر القومي، الذي لم يعطها الأهمية الكافية في الماضي، بل واعتبرها البعض ترفاً برجوازياً في وجه المطالب السياسية والاقتصادية الثورية، فان هذا هو تجديد مطلوب وضروري. وهذا ما فعله مثلاً مركز دراسات الوحدة العربية عندما نشر مقترحه المسًّمى «المشروع النهضوي العربي»، اذ جعل الديموقراطية أحد أعمدة ذلك المشروع.
كذلك، مثلاً، لاحظت استعمال كلمة «الآخر» دون انتباه الى أن مفهوم الآخر قد تغّير بصورة جذرية في الماضي كان الآخر هو الانسان الغربي، بفكره وعاداته وممارساته السياسية الاستعمارية على الأخص. لكن الحاضر العولمي يقول بأن «آخرين»، وعلى الأخص آسيويين جدد، يصعدون ويحيطون بنا. فهل مواقفنا وتعريفاتنا وشكوكنا السابقة تنطبق على الواقع الجديد؟ واذا كان الجواب سلباً فما هي المحدًّدات والفروق بين «الآخر» القديم «والآخر» المضاف الجديد؟.
ذلك في عوالم الفكر والنظريات، ولكن ماذا عن استعمالات متنامية للخلط الواضح المقصود لكلمتي: الشرعية «والمشروعية»؟
فما أن تخرج مظاهرات جماهيرية احتجاجية ضدًّ مسائل الظلم والفساد والاستبداد والأوضاع المعيشية المتردُّية، في هذا القطر العربي أو ذاك، حتى ينبري الاعلام الرسمي المهوُّل وبعض الاعلام الخاص البذيء اللسان برفع كلمة «لا مشروعية» تلك المظاهرات، وذلك بحجًّة أن هناك قوانين تمنع خروج تلك المظاهرات، أو أن الأوضاع الأمنيًّة حسًّاسة وحرجة، لكن هؤلاء ينسون بأن المشروعية القانونية التي يشيرون اليها يجب أن تخضع لمنطوق كلمة أخرى، وهي كلمة «الشرعية».
فاذا كان النظام شرعيا، أي منبثقا من ارادة الناس بحرية ونزاهة، وبقبول عام، وعن طريق ممارسة ديموقراطية شفًّافة لا تلاعب فيها، فان المشروعية القانونية التي يتحجّج بها وترفع في وجوه الجماهير، هي بالفعل مشروعية يجب أن تحترم ويؤخذ بها، لأنها شرعية ومعبًّرة عن ارادة عامة وقبول حر عام. أما اذا كانت هناك ألف علامة من التساؤلات والشكوك حول شرعية السلطة، وحول كفاءتها في ادارة أمور البلاد والعباد، وحول مقدار توازن مكوناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحول مقدار وجود توازن عقلي وخلقي ونفسي عند بعض قادتها الأساسيين، فان رفع شعارات وتهديدات القوانين التي توصف بالمشروعة مملؤ بالانتهازية وبممارسة القول الشهير: «كلمة حقًّ يراد بها باطل».
هناك أمثلة كثيرة لكلمات أخرى لا تسمح محدودية المقال بذكر أغلبيتها، ممًّا تمتلئ الساحة السياسية العربية بها على الأخص. وهي كلمات مليئة بالغموض ومستعملة بانتهازية من قبل الكتًّاب مدفوعي الأجر بصورة خاصة. والهدف منها هو خلط الأوراق والمفاهيم والأهداف في ذهن الانسان العربي، وعلى الأخص الجيل الجديد.
ذاك الجيل، الذي ينغمس في عمليات التواصل الاجتماعي بصور متنامية، ويعتمد على ذاته في فهم الخطابات العامة، يحتاج أن يطرح ألف سؤال حول كل كلمة يشتًّم منها بأنها استعملت للتضليل والادخال في عوالم التًّيه الفكري والسياسي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1012 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع