سمية العبيدي
من دفاتر الغربة - القَمّامة
كان المساء العذب الخجول قد مضى لشأنه , وبدأ الظلام كضيف ثقيل ينصب سرادقه حول وفوق الحي الشعبي بسرعة غريبة . فمن يرى السوق الآن لن يتعرّف عليها . فشتان بين الزحام الذي كان يلفها قبل أقل من ساعة وبين الوحشة الغامضة التي تركها انسحاب الشراة والباعة . الآن ما عدت ترى الا بعض الاشباح التي تخرج بين حين وآخر - كأنها قطرات تنساب من مزراب عتيق بعد انقطاع المطر- تخرج من الازقة والبيوت المجاورة المزدحمة والمختنقة بالناس تريد النزهة في الاماكن البعيدة التي يسكنها المرح البريء. وكان مسؤولو الحافلات الحكومية قد جعلوا ابتداءها ومنتهاها عند طرف السوق نفسها . لذا كنت ترى اُسرة بكافة أفرادها تجتاز السوق أو الشارع المجاور لتصل الى موضع الحافلات وبعضهم يحمل عشاءه في أكياس بلاستيكية . فمن مرّ بالسوق مرّ حذرا وعجلا ينظر الى مواطىء أقدامه حيث لا تزال بقايا الفواكه والخضر زلقة ترقد بين أكوام القمامة . فهو ان غفل قليلا لابدَّ أن يطأ بعضها .
وهنا أحسست بعينين ترصدان التفاتاتي ومواقع نظري , فانتبهت الى شابة ترتدي ملابس مدنيّة من الطبقة المتوسطة توارب النظر نحوي , امرأة تجوس أرض السوق بحذر كبير , ولمّا رأتني أنظر نحوها أخذت تتظاهر بانها تنادي طفليها ليسرعا اليها , وكانا على مبعدة بسيطة عنها ينكبّان على أرض السوق يبحثان بهمة عن شيء من الخضر التي تجعدت غير انها لا يزال فيها بقية خير , لذا يمكن ان تطبخ أوتؤكل , كانت تناديهما غير ان لا لهجتها ولا صوتها كانا حقيقيين بل كان كل ذلك زيفا و ذرّا ً للرماد في العيون . لأنها كانت تطلب منهما في الحقيقة أن يبحثا أكثر فأكثر وأسرع فأسرع عمّا يمكن أن يكوّن وجبة غذائية كاملة بين البقايا . كان الولدان يجمعان البقايا الصالحة شيئا ما بسرعة وهمة فهما يستبقان حافلة جمع القمامة التي ستصل في أيّة لحظة .
كانت المرأة في الحقيقة تحارب الجوع الكافر بما تستطيع وهو لملمة طعامها وغذاء طفليها من أكوام الخضار المهترئة والتي بدأ الفساد يغزوها .
نسيت أن اقول لكم أني كنت مسافرة بعيدا عن وطني للاستجمام والتخلص من حر بلدي القاتل وانقطاع الطاقة الكهربائية اللجوج المتواصل , ولم أقل كذلك ان هذه المرأة كانت من بلدي عرفت ذلك من لحظة رؤيتها . لعلها لم تكن تبالي لولا انها عرفت اني من نفس موطنها , لذا لزمت الحذر واضطرت لهذا الادعاء .
كان في هيأة المرأة وشكلها ما جعلني أعرف اني رأيتها وانّي أعرفها شكلا لا فعلا , لذا أخذت أنبش في زوايا ذاكرتي بلا جدوى فلم أستطع ان احزر أين رأيت هذه الشابة سابقاً ولا من هي .
وظل السؤال يتعلق في ذهني متشبثاً ويمد لسانه نحوي ساخرا من النسيان الذي لحقني باكراً , ما الذي اضطر شابة ان تبتعد عن دارها ووطنها لتستجدي من السوق الشعبية بقاياها ؟ ؟ ! ! ! .
*****
سمية العبيدي
706 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع