محمد سهيل احمد
ذاكرة البصرة
حيث مسفن الدوكيارد شمالا
فم نهر العشار .. أو الثغر الذي كان باسما !
مستلات
* / كان ذلك البلم مؤثثا بعدد من الوسائد الوثيرة الملونة وكان بدنه مدهونا باللونين الأخضر والسمائي ، حتى المجاذيف كانت ملونة ولم يكن البلام اقل اناقة من زورقه الرشيق /
** / مع تسنم الادارات المحلية لمهامها ومع مبادرات متصرفي تلك العهود بشق الطرق البرية المطلة على حوض نهر العشار ، اخذ النشاط النهري يتقلص يوما بعد يوم /
الزمان في احدى سنوات الخمسينات والمكان مرسى النقل النهري الذي كان يقوم مقام كراج المدينة النهري وهو يقدم خدماته باتجاه التنومة شرقا وقرى ابي الخصيب جنوبا . كنت وقتها اصغر سنا من ادرك كل ما كان يدور حولي من اشياء . ولكنني اتذكر اننا وصلنا لفلكة اسد بابل ومن ثم انحدرنا الى مسناة ضفة النهر حيث صفوف انيقة من الابلام والزوارق البخارية الهادرة المحركات . كانت عمتي ترغب في زيارة اقرباء لنا يسكنون في منطقة التنومة فاصطحبتني معها . لم يكن زورقنا كبيرا جدا لكنه كان بالتأكيد يتمتع بأناقة فائقة جنبا الى جنب صفوف من الابلام بالقرب من جسر المقام .كان ذلك البلم مؤثثا بعدد من الوسائد الوثيرة الملونة وكان بدنه مدهونا باللونين الأخضر والسمائي ، حتى المجاذيف كانت ملونة ولم يكن البلام اقل اناقة من زورقه الرشيق .
كانت انطلاقتنا إذن من جهة فم نهر العشار باتجاه اعالي شط العرب .انتابني خوف طفولي غريزي منعني من تأمل جهة النهر الشمالية حيث منطقة الدوكيارد او ( الداكير ) بمسقفاته وضفة المدخل الجنوبية حيث مبتدأ شارع الكورنيش ، في زمن لم يكن فيه السياب ـ شاعر المدينة الملتاع ـ موجودا هناك . ومع مغادرتنا لفم نهر العشار ودخولنا الى جسد النهر الكبير المتلاصف الأصداف، انشغلت بمناظر الضفاف دون ان يفارقني خوف غريزي من سطوة الموج والأبلام والزوارق المتخاطفة . لقد كنا في جوف جرم صغير لا يتعدى الأربعة امتار يمخر بنا عباب الماء . كنا اشبه بحبات ثمرة بطيخ حمراء في هلال من أهلّة تلك الثمرة وكان البلام يجذف ويجذف حتى ناهزنا ضفة التنومة الأخرى وارتقينا مسنّاة اكبر وأكثر رسوخا .
فوتوغراف بالبنّ المحروق
أمامي صورة فوتوغرافية يغلب على مساحاتها لون البن المحروق مذكرة أياي بورق مجلة ( آخر ساعة ) المصرية أيام الأوهام والأحلام والرومانس الجميل .الصورة تعود زمنا لما بعد نهاية الحرب العالمية الاولى للمكان نفسه الذي انطلق منه زورقنا المتأنق .
الصورة لمرسى الماطورات والأبلام التي لا تظهر في هذه الصورة .
ثمة سفن شراعية (دوب ومهيلات ) وهياكل لمستودعات في موقع بناية ( دائرة التمور ) التي أزيلت قبل عامين ونيف .يبدو ان الصورة ترجع لبدايات العشرينات من القرن الماضي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأسيس الدولة الملكية . يبدو جانب من ركن جسر المقام في ركن الصورة .كما تظهر سيارة ذات موديل عسكري لعلها من مقتنيات المستعمر الانكليزي قادمة من قلعة القشلة التي تتوسط سوق الخضارة والتي استولى عليها الغزاة البريطانيون في معارك اكتساح القوات العثمانية في سوح الشعيبة وسيحان والقرنة وغيرها .لاحظ السلع التجارية المنطرحة قبالة تلك المراكب الشراعية لعلها ألواح من الفلين او الحصر القادمة من حافات الأهوار الشمالية حيث البردي المضغوط والطابوق المفخور بنار القلوب !
فوتوغراف بالألوان
مشهد آخر لنفس المكان : صورة فوتوغرافية بالأسود والأبيض اتقن تلوينها المؤرشف الصديق كامل معن العقابي المقيم حاليا في احدى جزر الواق واق بالفلبين .
لنتأمل ساحل نهر العشار قبل تشييد دكته الاسمنتية ،سنلاحظ ان المكان قد أضحى رثّا وغير منظم وذلك قبل ان تلتفت إدارات بلدية البصرة والأشغال والإدارة المحلية في العهد الملوكي الاول الى امر تنظيمه بواقع خبرة استجلبها الانكليز معهم ذلك انه سيقوم بتشييد عدد من مستودعات السلاح والإدامة الهندسية على ضفتي النهر : الضفة الجنوبية والتي ستشكل طريق الساحل المتجه الى الغرب مرورا بجسر الهنود وجسر المتصرفية ومطافئ المدينة باتجاه منطقة السيمر القديمة ، تشكيلا لم سوف يسمى بطريق الساحل . لاحظ صفاء فم نهر العشار وانظر الى الضفة الشرقية حيث منطقة ( كردلان ) التي تعد بمثابة الجزء الشمالي من التنومة . بإمكانك ملاحظة كثافة النخل على امتداد الضفة الشرقية لنهر شط العرب . جزيرة الداكير هي احدى جزر البصرة المطلة على شط العرب في المنطقة الواقعة بين نهري العشار والخندق وهي عبارة عن جزيرة مربعة صغيرة يحيط بها الماء من جميع الجهات تم حفرها عام 1918 من قبل القوات البريطانية حيث قام بافتتاحها الجنرال فرليند .والداكير بالعربية تعني حوض التسفين وبالانكليزية يطلق عليها الدوكيارد وتعني مكان تصليح السفن. ولقد قامت القوات البريطانية بإنشائها خلال الحرب العالمية الأولى كوحدة اصلاح للسفن المحطمة لكنها بعد ذلك اصبحت اكبر منطقة لتصليح السفن والزوارق في العراق واصبحت كالميناء الصغير للسفن الصغيرة القادمة من الخليج العربي ومنطقة مهمة لتصدير التمور والبضائع الاخرى الى الخارج .
بين الأمس واليوم
مع تسنم الادارات المحلية لمهامها ومع مبادرات متصرفي تلك العهود بشق الطرق البرية المطلة على حوض نهر العشار ، اخذ النشاط النهري يتقلص يوما بعد يوم لتحل محله الربلات
او عربات الخيل والترامواي القادم من شمال المدينة تتويجا بمقدم المركبات في اواسط العشرينات . وقد استلزمت تلك المبتكرات شكلا من اشكال التحويرات طال الجسور المقامة على نهر العشار الذي لا يجادل اثنان على انه كان عصب المدينة تجاريا وشعبيا . فمن بين تلك التحويرات الغاء الفتحات الهايدروليكية المقامة على تلك الجسور والتي كانت تستخدم لتسهيل مرور المراكب الشراعية الأكبر حجما .فأغلقت فتحات كل من جسر المقام وجسر الهنود وربما جسور اخرى باتجاه البصرة القديمة .غير ان النقل النهري لم ينقرض بل اقتصر على تقديم الخدمات السياحية من نزهات ورحلات قصيرة الى البساتين ومرابع اللهو .
غير ان ذلك كان زمانا مضى ولن يعود الى سابق عهده !
تساؤل ليس أخيرا : هل يمكن القول ان نهر العشار لم يعد ثغر المدينة الباسم بل أمسى ، مع الزحمة والإهمال ، ثغر المدينة العابس ؟ !
761 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع