د. علي محمد فخرو
لحظة تاريخية مناسبة لفكر جديد
نحن في محطة تاريخية عربية قابلة للصعود العظيم المذهل أو السقوط المأساوي المذل.
ما يميًّز هذه المحطة التي يعيشها الوطن العربي منذ عشر سنوات، والذي لم ير تاريخه الحديث مثل تألًّق الامكانيات الهائلة الحالية لحدوث تغيرات كبرى في حياة العرب، ومثل الاستعداد الواعي المجتمعي لدى الملايين العرب لقبول أفكار عقلانية ذاتية تجددية وممارسة سلوكيات حياتية عصرية. لحظة المنعطف التاريخي الحالية، اذن، هي فرصة للمفكرين التجديديين والمثقفًّين الملتزمين العرب لطرح ما كان يصعب طرحه في الماضي بسبب ممانعة ورفض الكثيرين من أفراد الأمة سابقاً لمثل تلك الطروحات، امًّا لأسباب دينية متوهًّمة، أو بسبب التمسُّك بمسلًّمات متخلًّفة قديمة عفا عليها الزمن، أو بسبب الاعتقاد الخطأ بأن الانغماس في الحاضر يغني عن الأهمية الكبرى لتفكيك ونقد وتجاوز كل ما في الماضي من تراث متخلُّف أو تراث بدائي، ان كان قد صلح لزمانه فانه ما عاد صالحاً لأزمنة الحاضر المعقدة.
المشهد اذن مهيُّاً. فالبربرية الجهادية التكفيرية التي مارسها تنظيم القاعدة ومن على شاكلته، تحت شتًّى المسميات، من قطع للرؤوس، وحرق الأجساد، وسبي للنساء وغزو تدميري للمدن، واستباحة لأتباع الديانات الأخرى، أقنع الملايين من جماهير العرب بأن التراث الفقهي الذي اعتمدت عليه تلك البربرية الجهادية التكفيرية لتبرير أفعالها وحماقاتها يحتاج بالفعل لمراجعة جذرية تفكيكية نقدية تبرز نقاط ضعفه، وملابساته التاريخية، وتزمُّت أصحابه غير المبًّرر، وكونه ليس أكثر من اجتهادات بشرية قابلة للقبول أو الرًّفض. وقبول الملايين لتلك المراجعة سيكون أقوى وأكثر انتشاراً اذا تمت مراجعة التراث المتخلًّف المتزمت ذاك من خلال ابراز التراث المستنير العقلاني. فهناك تراث تنويري عقلاني قادر على الردًّ على تراث ظلامي، وهناك ابن رشد قادر على أن يحاجج ابن تيمية مثلاً، وهناك محمد عبده قادر على أن يردًّ على المودودي. هذا مدخل كبير واعد يحتاج الى كتلة تاريخية من المفكرين والمثقفين العرب ليقوموا به.
وبالطبع لن يكون الردُّ على التراث بالتراث فقط، وانًّما ستسنده وتغنيه منظومة هائلة من مدارس فلسفية وعلوم اجتماعية حديثة تحتاج الى ايصالها الى أذهان الملايين من العرب المتعطًّشين الآن لقراءة وسماع منظومة فهم ديني اسلامي جديد، تسقط كل ما في تراث الماضي من نواقص أو سوء فهم أودسًّ أو استعمال انتهازي ليحلًّ محلًّه دين العدالة والقسط والميزان والتراحم والتسامح والأخوة الانسانية والعدالة الاجتماعية الذي بشًّر به نبيُّه الثوري العظيم.
الأمر نفسه ينطبق على اقتناع الملايين من جماهير العرب بأن الروابط القبلية والعشائرية والجهوية والعرقية، التي استعملها الفاسدون والنًّاهبون عبر العصور ليغطُّوا على امتيازاتهم وهيمنتهم على مصادر القوة والثروة والجاه، هي التي وراء أنظمة سياسية متخلفة، قامت على المحاصصات الطائفية والقبلية والجهوية، وذلك على حساب معيشتهم وكرامتهم الانسانية.
يسمع الانسان كلمات التبُّرؤ من تلك الروابط في السياسة والدين والاقتصاد من خلال أفواه الشباب الثائرين المرابطين في ساحات وشوارع شتًّى مدن وطن العرب. انها كلمات قطيعة حقيقية صادقة مع ارث مريض، أغمض عيونهم ودجًّن عقولهم عبر العصور، وكان غطاءًّ لتبرير جوعهم وعريهم وقلًّة حيلتهم. اضافة لكل تلك المهمات المناطة بالمفكرين والمثقفين العرب، والتي أصبحت أسهل وأمضى في ظلًّ ظروف التغيرات الذهنية والنفسية الحالية المتعاظمة، سنحتاج الى كتلة مؤرخين تقوم بتبيان تجارب الآخرين في مواجهة أوضاع مشابهة لأوضاعنا. فعلى سبيل المثال هناك التجربة الأوروبية في التعامل مع الصراعات الدينية والمذهبية التي اجتاحت أوروبا ابًّان العصور الوسطى، والتي أكلت الأخضر واليابس في طول وعرض أوروبا القرون الوسطى. ان في خروج أوروبا من تلك المحن دروساً وعبرا يمكن تبنًّي الايجابي منها وتجنُّب السلبي، هذا اذا كانت الدراسة موضوعية وعقلانية ومتوازنة وغير تقليدية عمياء.
فهم مثل تلك التجارب، في الغرب والشرق على السواء، يحتاج إلى أن يكون رافعة في جهود احداث التغييرات الكبرى في الحياة العربية، جهود متناغمة ومتساندة ومتفاعلة.
الملايين مهيًّاة، فهل أن القلة المفكرة المثقفة الملتزمة المطلوبة مهيًّأة هي الأخرى؟ انها فرصة تاريخية، وستكون كارثة لو أنها ضاعت، خصوصاً اذا اعتقدت الأكثرية الجماهيرية والأقلية المفكرة بأن التغييرات السياسية وحدها كافية، وأهملت التغييرات الفكرية والثقافية الضرورية المطلوبة.مسيرة التاريخ لن تنتظر المترددين والخائفين، واللحظة الحالية هي لحظة وخطوة في تلك المسيرة.
1014 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع