مناقشة أسئلة الآخرين والسكوت عن أسئلتنا

                                         

                      د.علي محمد فخرو

مناقشة أسئلة الآخرين والسكوت عن أسئلتنا

فى العالم المتقّدم، سواء فى الغرب أم فى الشرق، يتحدّثون، بمناسبة نهاية سنة والانتقال إلى سنة جديدة، عن تغيرات هائلة تطرق أبواب مجتمعاتهم. ثمّ يردفون ذلك بمناقشات حول سبل التعامل مع تلك التغيرات.

إنهم يتحدثون عن اختفاء صناعات تقليدية عديدة سيتخطّاها الزمن، تماما كما حدث مثلا لشركة كوداك الأمريكية، والأهم والأكبر لصناعة الصور الورقية عبر العالم كله خلال القرن الماضى، عندما حلّت محلّها وسائل صور «سيلفى» الالكترونية الحالية.

إنهم يتحدّثون عن اختفاء شركات التاكسى عندما تحل محلها سيارات الأجرة الأتوماتيكية فى المستقبل القريب، والتى ستنقل البشر إلى حيث يريدون وتستلم منهم الأجرة دون حاجة لسائق بشرى يقودها. ومع هذا التحول سيزول نظام التأمين على حوادث السيارات بالكامل.

إنهم يتحدثون عن الذكاء الاصطناعى، الذى سيجعل الحاجة إلى مهن مثل المحاسبة أو الاستشارات القانونية أو بعض الاستشارات الطبية غير مطلوبة، إذ ستحلّ الوسيلة الإلكترونية الرقمية محلّ الكثير من تلك المهن.

بمثل تلك التغيرات، وغيرها الكثير، ستحلّ انقلابات هائلة فى فرص ونوع العمل، بحيث ستكون هناك حاجة لإعادة تأهيل الملايين من القوى العاملة، ولإعادة النظر فى النظامين التعليمى والتدريبى برمّتهما.

أمام تلك المشاهد ستأتى تحولات غير محسوبة ولا متوقّعة فى المشهد العولمى، فى نظامه الاقتصادى الرأسمالى، فى علاقات الدول السياسية بعضها ببعض، فى الصّراعات الإقليمية والحروب بالوكالة، فى التكالب على الاستحواذ على خيرات الطبيعة النّاضبة.

فى قلب كل ذلك تكمن قضية القضايا، وهى مدى ونوع التأثيرات العقلية والنفسية والعاطفية والجسدية التى سيصاب بها الإنسان من جراء تلك التغيرات، والتى بدورها ستقود إلى أنواع جديدة من العلاقات بين البشر على مستوى العائلة والتجمعات المدنية الأخرى.

الكتابات والمحاضرات وندوات النقاش بشأن أخطار كل تلك المتغيرات القادمة وبشأن سبل مواجهتها، أصبحت ظاهرة هائلة متشعّبة معقّدة من ظواهر هذا القرن.

إذا كان الأمر كذلك فإن طرح السؤال التالى على أنفسنا، نحن العرب، أضحى أمرا بديهيا: ما الذى يجب أن يشغل بالنا بمناسبة انقضاء سنة ومجيء سنة جديدة؟ هل يجب أن ننغمس فى مناقشات الآخرين تلك، مع أننا نعلم جيدا أننا لا نساهم فى صنعها، وأننا بالتالى لا نستطيع تغيير ذّرة فى مساراتها؟ ألن يكون ذلك انغماسًا عبثيًا متطفلا لا يقدّم ولا يؤخّر؟ أم أن المطلوب هو تحديد أولوياتنا الوطنية والقومية الجامعة والعمل على مواجهتها؟

أليس حل تلك الأولويات الوطنية والقومية هو المدخل لدخول عوالم حضارة المتقدّمين، وبالتالى الانغماس المفيد والفاعل فى مناقشاتهم التى أوجزنا بعضا منها؟

لنكن واضحين أكثر: هل تستطيع أمّة مجزّأة إلى بلدان ضعيفة عاجزة مسلوبة الإرادة، لا تنسيق فيما بينها فى الاقتصاد والسياسة والأمن ومجابهة الأعداء المشتركين، أن تدّعى بأنها قادرة على الانخراط فى مواجهة مشاكل البشرية؟

هل تستطيع أمة تنخر مجتمعاتها علاقات مجنونة عبثية بليدة، طائفية وقبلية وعشائرية وعرقية، وينظّم مجتمعاتها الاستبداد والفساد، وغياب القانون، وتداخل الصلاحيات، وعدم المساواة فى الفرص الحياتية.. هل تستطيع هكذا أمة أن تفيد فى مناقشات مثل مستقبل الذكاء اللا صطناعي؟

قائمة الأسئلة المماثلة طويلة وتشمل كل جوانب الحياة المجتمعية، الحالية والماضية. والإجابة عن تلك الأسئلة أولا، ثم الانتقال إلى مرحلة الفعل والحلول فى الواقع ثانيا، هو ما يجب أن يشغل بال المفكرين والمثقفين الملتزمين بقضايا أمتهم.

مرة أخرى نحتاج أن نذكّر أنفسنا بعبثية مناقشات رجال الكنيسة أثناء حصار مدينة القسطنطينة، وذلك بشأن عدد الملائكة الذين يمكن أن يجلسوا على رأس إبرة.

قسم كبير من أحلام وآمال وينبغيات بعض العرب، بمناسبة السنة الميلادية الجديدة، لا يختلف عن تلك المناقشات المضحكة فى القسطنطينة المحاصرة. لا يزال هؤلاء يتحدّثون عن حل مشاكل حضارات الآخرين، بينما يعجزون عن بناء حضارتهم القادرة على التفاعل مع والانخراط فى حضارة العصر.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

998 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع