تقديم وترجمة (عن الإنگليزية): د. زكي الجابر
في مُقابلةٍ فريدة پابلو نيرودا، الشاعرُ العاشقُ والسياسيُّ المناضلُ يتحدّثُ عن الشِعرِ ومُهِمّةِ الشاعر
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
القسم الثاني*
المقابلة التي أجرتها ’’ريتا گيبرت‘‘ Rita Guibert مع ’’نيرودا‘‘.
- يتكرَّرُ في شِعْرِكَ عددٌ من الرموز، مِثالُ ذلك البحرُ، السمكُ، الطيورُ.
- لا أُومِنُ بالرموزِ، تلك أشياءُ ماديّةٌ. بالنسبةِ لي، البحرُ والسمكُ والطيورُ لها وُجودُها الماديُّ، أَعتَمِدُ عليها كما أعتَمِدُ على ضَوءِ النهار. لا تُعبِّرُ كلمةُ ’’رمز‘‘ عن أفكاري بالضبط. يتكرَّرُ عددٌ من الموضوعاتِ في شِعري. إنّها تظهرُ باستمرارٍ، ولكنّها كِياناتٌ ماديّة.
- مِثلَ اللَهَبِ، النبيذِ، أو النارِ.
- نَحنُ نعيشُ مع اللَهَبِ والنبيذِ، وكذلك النار. النارُ جزءٌ من حياتِنا في هذا العالَم.
- الحَمامُ، القِيثاراتُ، ماذا تعني؟
- الحمامةُ تعني الحمامةَ، والقِيثارةُ آلةٌ موسيقيةٌ تُسمَّى القِيثارة.
- إنّكَ تعني أَنَّ أولئك الذين حاولوا تَحليلَ الصُوَرِ بالُمصطَلَحاتِ ’’الفرويدية‘‘ أو خِلافِها لا يُسايِرونَ طريقتَكَ في التفكير؟
- لديَّ طريقةٌ في التفكيرِ، إنّني أكتبُ لأنّني يجبُ أن أكتُبَ، وحينَما أَرَى حمامةً أُسمّيها حمامة، سواءٌ أكانتْ حاضرةً أم غائبةً في تلكَ اللحظةِ فإنّها تمتلكُ شكلاً قد يكونُ ذاتِيّاً أو مَوضوعيّاً بالنسبة لي، ولكنّها لن تكونَ إلاّ حمامةً وليستْ شيئاً آخر.
- يَقولونَ إِنَّكَ شاعرُ كُتُبٍ لا قصائد.
- في الواقعِ، إذا ما فكّرتُ، إِنّهم على حقٍّ في كوني شاعرَ كُتُبٍ لا قصائد، أو رُبّما كِلَيهِما، أنا لا أُحبُّ نشرَ أعمالي في المجلّاتِ، تُفرِحُ المجلاّتُ الأدباءَ المُراهقين. كلُّنا حمقَى في كتابَتِنا للمجلاتِ ونَشْرِ شئٍ فيها. سيذهبُ هذا التلهُّفُ مع الأيام. ومهما يكن من أمرٍ أشعرُ أنّي أقَلُّ فأَقَلُّ تَشَوُّقاً لِنَشرِ شِعري مع أشعارِ الآخرينَ في الصفحاتِ الأدبيةِ للجرائدِ والمَجَلّاتِ، كلَّ يومٍ يقلُّ مَيلي إلى المجلّاتِ، ويزدادُ كلَّ يوم هذا الميلُ إلى الكُتُبِ. وكما تَرَينَ، إنَّ مِيزةَ المجلّاتِ هي في كونكَ لامِعاً متألِّقاً، وكلُّ فردٍ يودُّ أن يُرضِيَ حِقْبَتَهُ. ويمكنكِ أن تقولي إنَّهُ يَسيرُ مع التَيّارِ المعاصر.
- وهذا ما لا أرغبُ فيه. لقد كنتُ للتَوِّ أقرأ مقابلةً جيدةً مع ’’كورتازار‘‘
Cortazar(1)، فبعد أن انتقد كاتبٌ آخرُ أحدَ كُتُبِه كشف بوضوح وبما هو معروفٌ عنه من روحيَّةٍ مُثيرةٍ للجدل بأَنَّ كُتُبَه تأخذُ شَكلَ اللَولَبِ، ذلك أن عدداً من الكُتّاب ربما يكتفون بالدائرةِ على الدوام. لا أدري ما بِناءُ كُتُبي، أهو أُفُقيٌّ أم لَولَبيٌّ، ولكني أراها تمثّل نوعاً من البناء.
- رُبَّما إنّي أَقلُّ مَيلاً من ’’كورتازار‘‘ إلى التَحديداتِ، ولكنّي أحتاجُ إلى التغييرِ وأن أستَجيبَ دائماً إلى منظوراتٍ جديدة. أميلُ إلى التفكيرِ بعَمَلي كامتدادٍ وبناءٍ، ولكنّي لا أدري بالضبطِ ماذا. رُبّما يكون مبنَىً، رُبّما يكون تَعريشَةً، رُبّما يكون ساحةً أو محطَّةً في البحرِ تَرسُو إليها السُفُن، أو رُبّما يكونُ بضعة أحجارٍ منَصوبَةً هنا أو هناك. غيرَ أَنّي في الحَقِّ لا أَرى الأشياءَ مُنفَرِدَةً، وإذا ما أحسستُ بأنَّ لديَّ الرغبةُ في خَلقِ عملٍ دائريٍّ فذلك يَعني أنّي أريدُ دائماً أن أستَخلِصَ القطرةَ الأخيرةَ من أحقابِ الزمنِ، أُجَرِّبُها كاملةً، أُجَرِّبُ كُلَّ لحظةٍ وأُجَرِّبُ كلَّ موضوعاتي بعُمقٍ وامتداد. ومنذُ أيّام فُتُوّتي تملّكني الامتدادُ، البعدُ، الفضاءُ، وإمكاناتُ الإنسان. من أَوائِلِ كُتُبي كتابٌ سمّيتُه (مُحاوَلَةُ إنسانٍ لا نهائِيّ). حَسَناً، يُمكنُ أن أُسمِّيَه (عن إنسانٍ لم يكتَمِلْ)، الإنسانُ كائِنٌ لم يكتَمِلْ، ثَمَّةَ نَقصٌ في البدايةِ والنهايةِ، هاتَيْنِ الهُوِيَّتين في حياةِ الإنسانِ يجبُ أن تكونا الأساسَ الذي يُبنَى عليه عملُ الشاعر.
- ما وظيفةُ الشِعرِ والأدبِ اليوم؟
- كثيراً ما طُرِحَ هذا السؤالُ، ودائماً يأتي الجوابُ غامضاً. يختلفُ موقفُ الشِعر وَفقاً لِلفَترَةِ، لِلحِقبَة. ربّما تكونُ في حاجةٍ إلى شِعرٍ حميميٍّ وذاتِيٍّ، كما قد يكونُ من الضروريّ أن يَتَناغَمَ مع الفَعّاليَّةِ الإنسانية، مع التَشَنّجاتِ والمُتَناقِضاتِ وتَمَرُّداتِ المجتمع الإنسانيّ. أَعتقدُ أَنّ واجبَ الشِعرِ معانقةُ كلِّ شئٍ من الأكثرِ سِرِّيَّةً إلى الأكثَرِ عُمومِيَّةً، من المُشَوَّشِ والغامِضِ إلى أَيسَرِ الأشياءِ التي تنالُها يدُ الإنسان. يَجبُ أن يتَّسِعَ قلبُ الشاعرِ لِيُعانِقَ كلَّ ذاكَ شِعراً. يَجبُ، كما أَعتَقِدُ، أن يُعنَى بأيِّ مَوضوعٍ مُشَوِّق. إِنَّ أعظَم الروائِع، الكوميديا الالهية لـ’’دانتي‘‘ Dante(2)، مَثَلاً، تَضُمُّ عُنصُراً هامّاً من المَنشورِ السياسيّ. ثَمَّةَ كثيرٌ من الأعمالِ الأدبيّةِ كُرِّسَتْ بكامِلِها للنِضالِ العنيفِ ضِدَّ الحالَةِ القائِمةِ للأشياء. كانتْ تلكَ قضيةُ أعمالِ ’’ڤكتور هوگو‘‘ Victor Hugo(3)، ’’مِلتون‘‘ Milton(4)، ’’ورامبو‘‘ Rimbaud(5). إن التناقضَ عقيمٌ بينَ الشعرِ الخالِص وغير الخالصِ. إنّي حاضِرٌ في كِلَيْهِما، إنّي خالِصٌ وغيرُ خالِصٍ على السَواء، أي إنّي أقولُ، أي إنّي أريدُ لشِعري أن يُعبِّر عن أسرارِ رُوحي كما أُريدُهُ أنْ يُعَبِّرَ كذلكَ عن بَساطةِ الأشياءِ الأقربِ إلى الكائِنِ الإنسانيِّ وإلَى الحَدِّ الذي تَقومُ فيهِ بِدَورٍ في إِراحَةِ الجنودِ بلْ وفي الحَربِ ذاتِها، الحَربِ ضِدّ القسوةِ وضِدَّ الظُلمِ، ومن أَجلِ تَحريرِ الإنسان.
- يقولُ ’’روبرت گرَيڤس‘‘ Robert Graves(6) بأّنَّ الشعراءَ لا يمتلكون جُمهوراً، إنهم يُخاطِبونَ ولكن لا أَحَدْ. إنّ المُشكلةَ مع شعراءٍ مثلَ ’’يڤتوشنكو‘‘ Yevtushenko(7)، كما يقولُ ’’گرَيڤس‘‘، أَنّهم يُخاطبونَ الآلافَ من الناسِ، ومعَ ذلكَ فلا أَحَدْ.
- أَظُنُّ أَنَّ مُلاحظةَ ’’گرَيڤس‘‘ هذه تبعثُ علَى البَهجَة. إنّي أَحتَرِمُ ’’گرَيڤس‘‘ وأُحِبُّ شِعرَهُ، ولكنّني أُحبُّ، بشكلٍ خاصّ، الشِعرَ الذي يُخاطبُ الآلافَ من الناسِ، إنّهُ على خَطَأً حينما يقولُ إنّهُ يخاطبُ لا أَحَدْ. وإذاً ما عَلِمَ بأنَّ لَدَينا البرهانَ من الشَعبِ الذي تأثّرَ بشِعرِنا فإنَّهُ يفهم أنّ للشاعرِ بُعداً آخَرَ، إنّي أُدافِعُ عن هذا البُعدِ مثلَما أُدافعُ عن بُعْدِ ’’گرَيڤس‘‘ في مُخاطَبتِه شخصاً واحداً كما عليه، في الغالبِ أيضاً، أن يُخاطبَ الآلافَ.
- الواقعيةُ في الشِعرِ، ما رأيُكَ فيها؟!
- الواقعيةُ والإبداعُ الأدبيُّ من المَوضوعاتِ التي ناقَشَها مُؤخَّراً كثيرٌ من الكُتّابِ المسؤولين. إنّي لَأُشاركُ في المُعتَقَدِ أو المَوقِفِ بأَنَّ الواقعَ يقومُ بدَورٍ عظيمٍ ومُتَمَيِّزٍ في رُؤَيةِ الكاتب. وإنْ لم أعتقدْ بالأدبِ الواقعيِّ فإنّني أعتقدُ بأنَّ الرُموزَ لم تَفقُدْ أهميَّتَها مُنذُ ظهورِ المدرسةِ الفرنسيّةِ أو قبلَ ذلكَ بِكثير. إن الرُموزَ أداةٌ من أدواتِ الإبداعِ، ومعَ ذلكَ فالمدرسةُ الرمزيَّةُ مَقبَرةٌ شاسِعةٌ من الرموز، وأَرَى ثَمَّةَ ضَرَراً في المدارسِ والأَنظِمَةِ التي نادَتْ بها مجموعاتٌ إنسانيّة. الواقعيّةُ عنصرٌ أساسيٌّ للرُؤيةِ المُبدِعةِ وضَرورةٌ للتعبيرِ الناجحِ، ولكنّها، كَصِيغةٍ، لم تُفرِزْ سِوَى تشويهاتٍ غريبةٍ للواقعِ، كما أن الرمزيّةَ جعلتِ الأحلامَ رخيصة. الواقعُ والرَمزيَّةُ سيظَلّانِ جُزءاً من التطوُّرِ المُثمِرِ للأدبِ، وعلى مُستَوىً مُعيَّنٍ يَمتَزِجانِ لِيُصبِحا مُشَوَّشَين، ولكنّهما، كَمَدرَسَتين، يُمكِنُ أن تَكُونا مُمِيَتَتيْنِ. وإلى جانبِ ذاكَ فإنّ محاربةَ ما يُصَنَّفُ بالـ’’فانتازيّات‘‘ fantasies(8) التي هيّأتْها حِقبَةٌ أدبيّةٌ سابقةٌ تَكشِفُ فُقدانَ ثِقةٍ في العمليّةِ الإبداعيَّةِ ذاتِها. وإنّي لَأَرَى بِأَنّ الأدبَ والحَركاتِ الموسيقيَّةَ والـ’’پلاستيكية‘‘(9) تمتلكُ حياتَها الخاصَّةَ، وجُذورُها الخاصَّةُ تنمو وتُورِقُ وتُثمِرُ وتَنحَدِرُ، ثُمّ يُشَيَّعُ جثمانُها. ليستْ هناكَ من حاجةٍ لمُحارَبَةِ أيّةِ حركةٍ ثَقافيّةٍ، كلُّ حركةٍ جديدةٍ تَحمِلُ في طيّاتِها بُذورَ نُضجِها وفَنائِها. لقد تَمَّ إدراكْ الواقعيّةِ كمدرسةٍ واسعةٍ مُرتبطةٍ، شَكلاً، بالظاهرِ الإنسانيِّ، وهيَ في الرسمِ، مِثلَما في الأدبِ، مرحلةٌ انتهتْ بعد أن نَضجتْ وازدهرتْ وقدَّمتْ ثِماراً يانعةً، ولكنّها غَطَسَتْ في قُبحٍ شكلِيٍّ وَوَساخَةٍ مُتَفَرِّدة. ولستُ أُريدُ لِلفنِّ أن يكونَ رَفيعاً سامياً لأن الغموضَ السِحرِيَّ أو تفسيرَ الأحلامِ والبراعةَ اللفظيَّةَ الفارِغةَ والتَنظيرَ القَسرِيَّ قد تؤدّي إلى تَقليصِ الشِعرِ إلى شكلٍ من الحُلُم المتحجِّر. وأعتقدُ، بديلاً عن ذلكَ، أنَّ المدارسَ غيرُ ضرورية، فالأدبُ يجبُ أن يكونَ تجرِبةً شَخصيّةً يقومُ فيها بالأدوارِ الزمنُ والواقعُ والأحلامُ، وكلُّ تلكَ المُقوِّماتِ يجبُ أن تُكَيَّفَ وتحتلَّ مكانَها العلاقةُ لا مع الحياةِ الداخليّةِ للكاتبِ بل مع الحِقبةِ التي يعيشُها كذلك.
- غالباً ما تقولُ بأنّكَ لا تُؤمنُ بالأصالة.
- لا أُحبُّ أن تُعامَلَ الأصالةُ كمعبودٍ مُقدّسٍ، فَمَهما كان الأمرُ فالبحثُ عن الأَصالةِ هاجِسٌ مُعاصِر. ألمُغَنّونَ والشعراءُ الشعبِيّونَ، في كلِّ حِقبَةٍ، يُماثِلونَ المِعمارِيَّيْنِ البِدائِيَيْنِ والنَحّاتِينَ القُدَامَى غُفْلاً من الأسماءِ إلى حدٍّ ما ولكنَّهم نِتاجُ حِقبَتِهم، ومعَ ذلكَ كانتْ إنجازاتُهُم عظيمة. أمّا في زمانِنا فالكُتّابُ يُريدون أن يَكتَسِبُوا شُهرَةً بطَريقةٍ قاتِلة، وذلكَ بالتَقديسِ الأعمَى واهتماماً بغاياتٍ سَطحِيّة. يُحاولُ كلٌّ مِنهم أن يَجِد طريقاً لِيَنفَرِدَ لا بِسبَبِ عُمقِ تَفكيرِه أو اكتشافاتِه ولكنْ بسببِ فَرضِهِ طَريقةً خاصّةً أو بالمُخالَفَة. وأظنُّ أنَّ على كلِّ شخصٍ حَلَّ مُشكِلَةَ الأَصالةِ من خلالِ تَعبيرِه عن وُجودِهِ الخاصِّ وتَجرِبَتِهِ الخاصّةِ بأحسنِ شَكلٍ أَصيلٍ وبِلُغَتِه الخاصّة. والحاجةُ إلى التعبيرِ تتطوَّرُ طبيعيّاً حتَّى أَن أكثرَ الفنّانينَ أَصالَةً يُغَيِرُّ أطوارَهُ لِيُلائِمَ بينَ الفَتراتِ الزَمنيّةِ، الحِقبةِ، وموضوعاتِه. و’’پيكاسو‘‘ Picasso(10) أَحسنُ مثال يُثيرُ الإعجابَ، فهو إذْ يُغذّي نفسَهُ بالحَرَكاتِ الثقافيَّةِ العَظيمةِ مثلَ الرسمِ الأفريقيِّ والنَحتِ أو الفَنِّ البِدائِيّ ِيَكشِفُ أحياناً عن قُوَىً من التحوُّلِ تبدو كأنَّها مَراحِلُ في حفريات الثقافة.
- لا يُمكنُ للكُتّابِ أو الرسّامينَ أن يكونوا أحراراً في عَملِهم الإبداعيِّ، إذ يَجِبُ أن يعكِسوا دائماً وُجهةَ نَظرِ الدولة.
- تِلكَ مُبالغةٌ. لقد عَرَفتُ كُتّاباً ورسّامينَ تحدَّثتُ إليهم فوجدتُهم لا يعتقدون بذلكَ ولا يفكِّرونَ في تَمجيدِ أيِّ شئٍ يتّصِلُ بالدولة. إنَّهم كُتّابٌ ذاتيّونَ وأعرفُ كثيراً منهم. ثَمَّةَ نَوعٌ من المؤامرةِ للاعتقادِ بأنّ هذا الرمزَ مفروضٌ بأُسلوبٍ ’’ديماگوگيٍ‘‘ شُموليٍّ، وبطريقةٍ عسكريّةٍ تقريباً، وهذا غَيرُ صحيحٍ أساساً. ولكنْ ثَمَّةَ مشكلةٌ ينبغي أَنْ تُفهَم، علَى كلِّ ثَورةٍ أنْ تَحشِدَ كلَّ قوَّتِها العميقةِ الجُذورِ، فهيَ لا تستطيعُ المُواصَلةَ بعَزمٍ بدونِ البِناءِ والتَطوير. وثَمَّةَ عُذرٌ كَبيرٌ لِلثَورةِ التي تُحاولُ بناءَ مُجتمعٍ من الصفرِ، إِذْ لَمْ تكنْ ثَمَّةَ مُحاولةٌ سابقةٌ للانتِقالِ مِن الرأسماليّةِ والمِلكيَّةِ الخاصّةِ إلى الاشتراكيّة، ولِذا باتَ علَى هذهِ المجتمعاتِ الجديدةِ، وبِسبَبٍ من قُوَّتِها الخاصّةِ، أن تُخاطِبَ وتَحشِدَ شُعوبَها، وأَنْ تَطلُبَ العَونَ من المفكِّرينَ، بَل حتَّى مِنْ أُولئكَ الذين تَتَوفّرُ لديهم حَوافِزُ إبداعيَّة. ويُمكنُ أن يَبرُزَ صِراعٌ عَبرَ الطريقِ، وإنّهُ لشئٌ إنسانيٌّ وسِياسيٌّ أنْ يَحدُثَ ذلك، وإني لآمُلُ بأنّهُ في الوقتِ الذي تَستَقِّر فيه تَماماً المُجتَمَعاتُ الاشتراكيّةُ سَوفَ تشعُرُ بحاجةٍ أَقَلَّ لِكُتّابِها المَعنِيّين. إنَ ما يُحدثُه ذلكَ التغييرُ العظيمُ منَ الرأسماليّةِ إلى الاشتراكيّةِ لا يَقدِرُ على الاستِمرارِ في البَقاءِ إلاّ إذا بَذَلتِ الثورةُ كُلَّ جُهدِها لِتُعلِنَ مُسانَدةَ كُلِّ شَرائِحِ المُجتمعِ ومن بينِهم الكُتّابُ والمُفكّرونَ والفَنّانون لِما لَهُم من أهميَّةٍ كبيرة. فَكِّرْ في ثورةِ أمريكا الشماليّة، حربِ الاستقلالِ ضدَّ انگلترا، أو حَربِنا ضِدَّ الحُكمِ الإِسپانيِّ من أجلِ الاستقلال. ماذا سَيكونُ عليه الأمرُ بعد خمسينَ سنةً إذا ما حدثَ أَنْ ساندَ الكُتّابُ المَلَكِيَّةَ أو إعادةَ الحقوقِ الإنگليزيةِ على الولاياتِ المتّحدةِ، أو الملوكِ الإسپانِ على المُستَعمراتِ القديمةِ التي تَولّدتْ عنها الجُمهورياتُ المُستقلَّةُ في أمريكا اللاتينية. وإذا ما مَجَّدَ كاتِبٌ أو رَسّامٌ الكولونياليَّةَ في السِنين العَشْرِ أو العشرينَ، الثلاثينَ، الأربعينَ، أو الخمسينَ، فإنَّ عَمَلَهُ يُعتبَرُ مُعاكِساً للوطنيّةِ، ويُضيَّقُ عليهِ الخِناق.
- ما النصيحةُ التي تُقَدِّمُها للشعراءِ الشباب؟
- ليسَ لَديَّ من نُصحٍ أقدِّمهُ للشعراءِ الشباب. عَلَيهم أن يَشُقُّوا طريقَهم بأنفُسِهم، وسَيَجِدونَ صِعاباً في التَعبيرِ عن أَنفُسِهم وعَليهِم مُحاربتُها. على أَنّي لا أَنصَحُهم بالبدايةِ بالشعرِ السياسيّ. الشِعرُ السِياسيُّ يَنبَعِثُ من العاطِفَة العَميقة والمُعتَقَدات. إنّه أَعمقُ، عاطِفِيّاً، من أيِّ شئٍ آخَرَ ما عدا شِعرِ الحُبِّ. ولا يمكنُ إِلّا أن يَكونَ مُبتَذَلاً وغَير مَقبولٍ إذا ما تأتَّى قَسْراً، عليكَ أن تَنفذَ إلى الشِعرِ بِرُمَّتِهِ قبل أن تَغدُوَ شاعراً سياسيّاً. كما على الشاعرِ السياسيِّ أن يكونَ على استعدادٍ لِتَحَمُّلِ ما يُكَّدَس عليه من لَومٍ لِخِداعِه الشِعرَ والأدبَ بِخِدمَتِه هَدفاً مُحَدَّداً. ومن أجلِ تَحَدِّي كلِّ هذا على الشاعرِ السياسيُّ أن يُحَصِّنَ نَفسَهُ داخِليّاً بِما يَكفي من المَتانَةِ والاقتِناع ِوالغِنَى العاطفيِّ والفِكريِّ، ونادِراً ما يُفلِح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يسبق نشر ترجمة هذه المقالة من قبل، ونشر القسم الأول (تقديم) على موقع الگاردينيا في 11-2-2020.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- خوليو كورتازار Julio Cortázar (1914-1984). مفكر أرجنتيني وكاتب ومترجم. كتب القصة القصيرة والنثر الشعري ومجموعة من الروايات.
2- دانتي أليگييري Dante Alighieri (1265-1321). سياسي وفيلسوف ومفكر وشاعر إيطالي. أهم أعماله ’’الكوميديا الإلهية‘‘.
3- ڤكتور هوگو Victor Hugo (1802-1885). أديب وشاعر وروائي فرنسي.
4- جون ميلتون John Milton (1608-1674). شاعر وعالم إنگليزي. أشهر أعماله ’’الفردوس المفقود‘‘.
5- آرتور رامبو Arthur Rimbaud (1854-1891). شاعر فرنسي.
6- روبرت گرَيڤس Robert Graves (1895-1985). شاعر وكاتب ومترجم وروائي إنگليزي.
7- يڤگيني يڤتوشنكو Yevgeny Yevtushenko (1933-2017). روائي وشاعر روسي، انتقل للعيش في الولايات المتحدة في 1991.
8- ’’فانتازي‘‘ fantasy. نوع من أدب الخيال الخارق يقع في عالم تخييلي يستلهم أساطير العالم الحقيقي والأدب الشعبي. وتمتد جذوره إلى التقاليد الشفاهية التي تتطور إلى أدب الخيال الخارق. (المصدر: ويكيپيديا)
9- ’’الفنون الپلاستيكية‘‘ plastic arts. أشكال تنتج عن جهد بدني يُمارس على مواد مثل ’’الپلاستيك‘‘ والخشب والحجارة والمعادن، فيتغير شكلها إلى عمل فني. (المصدر: ويكيپيديا)
10- پابلو پيكاسو Pablo Picasso (1891-1973). رسّام ونحّات إسپاني.
1237 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع