مؤشرات تقويمية للاتفاق العراقي الصيني في ظل المتغيرات الاقتصادية الدولية التي خلفها وباء كورونا

                                                 

             الاستاذ الدكتور سعد عبد القهار الشيخ
           رئيس المجلس العربي للأكاديميين والكفاءات

     

مؤشرات تقويمية للاتفاق العراقي الصيني في ظل المتغيرات الاقتصادية الدولية التي خلفها وباء كورونا

1. عكست المتغيرات المستجدة في ظل العولمة المعاصرة اتجاهات اقتصادية حيوية على الصعيد الدولي ...ولعل في مقدمة تلك الاتجاهات ما يشهده العالم من احتدام الصراع لمراكز القوى الاقتصادية الدولية (دول وشركات وبنوك وأسواق مالية ومنظمات اقتصادية)في سباق غير مسبوق تاريخيا باتجاه تصعيد القدرات التنافسية المالية والاقتصادية في مختلف الميادين الاستثمارية والتجارية والخدمية الدولية.

2. في ظل هذه المعطيات العولمية المتفاقمة ...فقد تفوقت الصين بإمتياز على جميع المنافسين وبرزت كقوة اقتصادية جبارة اتسمت بتصاعد وتائر النمو الاقتصادية وقدراتها التنافسية فضلا عن تركيز استراتيجيتها على توسيع وتطوير قاعدتها الاستثمارية الدولية لأغراض تعظيم عوائدها الإنتاجية فحسب ...بعيدا عن تحقيق مصالح سياسية مباشرة. و تبوأت الصين بموجب ذلك مركز الصدارة العالمية على الصعيد الاقتصادي.
3. قبيل الخوض في مضامين الاتفاق العراقي الصيني المزمع عقده وتحليل بعض معطياته الحيوية وآثاره الاقتصادية على العراق لابد من الإشارة الموجزة الى ما آل اليه واقع الاقتصاد العراقي المنهار منذ احتلاله ولحد الان ....بغية الوقوف على مدى موائمة وقدرة بيئته الاقتصادية الحالية الموصوفة بالتداعي والفساد ...لاستيعاب وتنفيذ بنود الاتفاق وتفعيل معطياته الإيجابية باتجاه الإسهام في معالجة المشكلات الاقتصادية المتفاقمة وخلق مناخ إيجابي ملائم ومشجع لتوسيع نطاق الاستثمار عبر إرساء أسس رصينة للبنى التحتية المتكاملة وبناء قواعد إنتاجية واسعة وفاعلة في مختلف الميادين الصناعية والزراعية والخدمية بما يسهم في زيادة الإنتاج و رفع معدلات النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية بصفة عامة.
4. من الجدير بالإشارة الى ان استشراء الفساد المالي والإداري الذي خلقته وأنضجت أجواءه الحكومات المتعاقبة بعد احتلال العراق... قد افضت الى تفاقم الاختلالات الهيكلية للاقتصاد العراقي واستنزاف موارده واجتثاث مقومات تنميته واتسعت بموجب ذلك دائرة البطالة والفقر وغير ذلك من الظواهر الكارثية.
ولعل احد اهم الاسباب الاقتصادية التي أدت الى كل هذه الكوارث يكمن في استنزاف الموازنات التشغيلية بمبالغها الفلكية لمجمل ايرادات النفط والتي استخدمت لتمويل نفقات لخدمات هامشية لا قيمة لها... وانعدمت كل فرص التمويل لغرض الاستثمار والإنتاج والتنمية .
5. من خلال القراءة الاقتصادية النظرية الأولية للاتفاق العراقي الصيني بمعزل عن كل التداعيات الاقتصادية التي حدثت (بعد انتشار فيروس كورونا) في الصين ..وبمعزل عن واقع الفساد المستشري في العراق ...يمكن تأشير اتجاهات إيجابية تسهم في توسيع مساحة النشاط الاستثماري الانتاجي والخدمي وارساء قواعد سليمة للبنى التحتية وتصعيد وتائر النمو الاقتصادي .
فالاتفاق من الناحية النظرية يتيح فرصة استقطاع اجباري لنسبة ملائمة من عوائد النفط (التي تنفق جميعها على الموازنة التشغيلية البائسة) وتخصص تلك المبالغ المستقطعة إجبارا لغرض الاستثمار في المجالات الإنتاجية الحيوية وبخاصة في مجال اعادة البنى التحتية المتهالكة.
وتجدر الإشارة الى ان عوائد النفط المتفق على تخصيصها لهذا الغرض في المرحلة الاولى لا تتجاوز ال100 الف برميل يوميًا من إجمالي الصادرات التي تزيد على ثلاثة ملايين برميل ..والتي كما أسلفنا تهدر نفقاتها على الموازنة التشغيلية الفاسدة من دون تخصيص اَي مبلغ للاستثمار او التنمية.
6. يتيح الاتفاق مواكبة سياقات التطور التقني العالمية عبر نقل التكنولوجيا الحديثة في مختلف المجالات الإنتاجية والخدمية .وتقدم المصارف الصينية تسهيلات ائتمانية عند الحاجة الى العراق ويصل سقفها الى 10 مليار دولار.
7. ان التنفيذ المباشر لبنود الاتفاق بين الطرفين من دون وسطاء وسماسرة سيلغي هامش الفساد المعتاد في مثل هذه المقاولات وبما يقارب 40% . ولا اعتقد هنالك عيوب بارزة من حيث القراءة النظرية في نص الاتفاق ومضمونه...
8. ازاء ما جاء أعلاه يعد الاتفاق العراقي الصيني المزمع عقده مشجع من الناحيتين المنطقية والموضوعية في ضوء استحضار معطيات مرحلة ما قبل ظهور وأسشراء مرض كورونا ...الذي كانت له تداعيات اقتصادية خطيرة على مستوى الصين وعلى الصعيد الدولي والتي بالتاكيد ستؤثر سلبا على الاتفاق العراقي الصيني المزمع عقده .. أوجزها بما يلي :
1. أغلقت آلاف المصانع في الصين أبوابها مؤقتًا وتم تجميد عملياتها الإنتاجية وإيقاف منافذ البيع بالتجزئة، وتعطلت الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مدينة ووهان (مولد الفيروس ) تحديدًا... وهو ما أدى إلى توقف عمل كبرى شركات السيارات العالمية التي تمتلك مصانع في المدينة مثل جنرال موتورز ونيسان وفورد وهوندا.
2. نتيجة لما جاء اعلاه أعلن عن تأجيل استئناف النشاط الانتاجي للشركات والمصانع المتواجدة في اكثر من 13 مدينة صينية يمثل اجمالي إنتاجها بحدود ثلثي الناتج المحلي الإجمالي الصيني اضافة الى 78% من صادرات البلاد .ان الشركات اعلاه مسؤولة عن 90% من عمليات صهر النحاس في الصين و60% على الأقل من إنتاج الصلب و65% من أنشطة تكرير النفط و40% من إنتاج الفحم.
3. يمثل الناتج المحلي والناتج القومي الإجمالي الصيني بحدود سدس اجمالي الانتاج العالمي تقريبا ....وبموجب ذلك تعد الصين اكبر منتج للسلع في العالم.
4. بموجب توقعات الخبراء فأن مخزون السلع المنتجة للشركات أعلاه قد ينفذ خلال شهرين فيما إذا استمرت الحالة على ما هي عليه .. وستوقف المصانع الصينية عملياتها الإنتاجية ولو مؤقتًا وسيتسبب ذلك في تعطيل القطاعات الصناعية في كثير من البلدان حول العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة والتي تعتمد بشكل كبير على سلاسل التوريد الصينية في عدة قطاعات أبرزها التكنولوجيا والمستحضرات الصيدلانية والسيارات.
5. يشير الكثير من المتخصصين إلى أن إيجاد علاج فعال وواسع الاستخدام لفيروس "كورونا" قد يستغرق أكثر من عام، وذلك نظرًا لمدى تعقيد عملية تطوير عقارات مضادة للالتهابات الفيروسية.
6. بإيجاز .. كلما ظل فيروس "كورونا" فعال وتتسع دائرة تاثيره الفتاك دون معالجة وكلما طال أمد الأزمة ستنخفض معدلات الإنتاج الصناعي الصيني، ويتسع هامش الخطر في تعطل كل الشركات الدولية ومصانعها التي تعتمد على الكثير من المنتجات الصينية الوسيطة في عملياتها الإنتاجية. مثل اليابان وكوريا الجنوبية التي تقدر نسبة وارداتها من تلك السلع الوسيطة من الصين بحدود 40% من إجمالي وارداتها من تلك السلع.
7. تعطل المصانع الصينية معناه أن حاجتها للنفط الخام ستقل وهو ما سيؤدي إلى انخفاض وارداتها منه. هذه الحقيقة سرعان ما انعكست على أسعار النفط الخام التي انخفضت بواقع 17% مقارنة مع أعلى مستوى لها في كانون الثاني الماضي....ومعدلات الانخفاض في تزايد مستمر.
8. وبناء على ذلك، من المتوقع أن تتأثر كل الدول المنتجة للنفط والغاز وخصوصًا تلك التي تستهدف الصين التي تعتبر ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة وأكبر مستورديه على الإطلاق.
9. لقد انخفضت واردات الصين من النفط الخام بنحو مليوني برميل يوميًا في الفترة ما بين يومي 15 و22 كانون الثاني الماضي وذلك مقارنة مع المتوسط اليومي لوارداتها في الشهر نفسه من العام الماضي. ومنذ بداية العام الجاري انخفضت واردات الصين بواقع 3 ملايين برميل يوميا .
10. ان استمرارالتداعيات اعلاه لمدة عام سيكون لها تاثير كبير ومباشر على إمكانية عقد الاتفاق العراقي الصيني أصلا... وذلك لانخفاض حاجة الصين من النفط بشكل كبير وعدم وجود جدوى اقتصادية للصين من تنفيذ اتفاقيتها مع العراق.
9. في ضوء ما جاء أعلاه باعتقادي ان الصين ستتراجع عن موقفها بشان توقيع الاتفاق.... من جانب اخر وعلى افتراض ان الانعكاسات السلبية لانتشار فيروس كورونا تتجه نحو الانحسار في المستقبل غير البعيد... وعلى افتراض ان الصين لا تمانع من توقيع الاتفاق.... فالسؤال المهم الذي يطرح في هذا الصدد ...هل هنالك ضمانات كافية لتنفيذ مفردات الاتفاق بموجب صيغته المعروضة والمتفق عليها في ظل استمرار الحكومات الفاسدة في العراق ؟.
والإجابة المنطقية والموضوعية بموجب كل التداعيات الاقتصادية ومظاهر الفساد المالي والاداري الكارثي والممنهج الذي يشهده العراق بفعل استمرار تلك الحكومات يؤكد على عدم وجود اَي ضمانات لنجاح هذا الاتفاق .. وبموجب الاستقراء والتحليل السريع لمنهج وسلوك الحكومات الفاسدة ...فانها ستعمل على حرف مضامين الاتفاق وتجهض محتواه التنموي وتكييف اتجاهاته لخدمه المصالح الشخصية و الفئوية والحزبية المقيتة... وتضر بمصلحة البلاد ومستقبله الاقتصادي.
من هذا المنطلق فان تنفيذ مفردات الاتفاق العراقي الصيني يتطلب وجود نظام وحكومة وطنية نزيهة ومخلصة تسعى الى خلق اجواء نقية وبيئة نزيهة صالحة لتنفيذ مفردات هذا الاتفاق وغيره من الاجراءات والسياسات والبرامج التي تخدم الاستراتيجية الوطنية في الميدان الاقتصادي.
10. نستنتج مما جاء اعلاه ما يلي :
1. ان المشكلة ليست في شكل ومضمون الاتفاق التي توجد للصين اتفاقات مع دول اخرى مماثلة له في العديد من محاوره ومضامينه ...وأسهمت تلك الاتفاقات في تطوير البنى التحتية وبناء قواعد إنتاجية ملائمة ورفع معدلات النمو الاقتصادي لتلك البلدان .والمشكلة تكمن في عدم وجود حكومة وطنية تضمن تنفيذ الاتفاق وتحرص على تفعيل بنوده بتجرد ونزاهة وصولًا الى تحقيق تنمية اقتصادية شاملة تتلائم مع الخصوصية العراقية .. والسعي الموضوعي والجاد والمثابر الى اعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وصياغة استراتيجية وطنية مناسبة تستند على أسس ومقومات النهوض والتنمية المستدامة .
2. ان الاتفاق العراقي الصيني موضوع البحث اصبح اتفاقا افتراضيا يفتقد لمقومات التوافق المتوازن في المصالح المشتركة بين الطرفين بموجب المتغيرات التي استجدت بفعل استشراء وباء كورونا الذي قاد إلى خلق مأزق اقتصادي خانق في الصين وما ترتب عليه من تداعيات اقتصادية دولية ...فضلا عن عدم وجود بيئة نظيفة وملائمة حاليا في العراق ضامنة لحسن تنفيذ مفرداته وتحقيق ابعاده واهدافه...فيما لو جرى عقد الاتفاق.

المراجع:

1. مظهر محمد صالح ، بنود الاتفاقية العراقية الصينية بالكامل / وكالة برايل 2020.
2. سهرة قاسم محمد حسين ، الصعود الصيني وتأثيره على الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط (2001-2009) AlManhal, 2018‏‬‬.‬‬‬
3. ابراهيم محمد‬‬ وباء كورونا وخطورته الاقتصادية على الدول العربية مجلة سياسة واقتصاد 2020,2,2.
4. الصين في الشرق الاوسط التنين الحذر أندرو سكوبيل (Andrew Scobell)،www.rand.org/t/.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

801 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع