د. سعد ناجي جواد
هل يشهد العالم عودة للأفكار والسياسات الاشتراكية؟ وهل ستضطر الدول الرأسمالية إلى إتخاذ نهج جديد يخدم البشرية وتنبذ أسلوب التصرف كتاجر يبحث عن الأرباح فقط؟
الحديث والكتابات الكثيرة التي تدور هذه الأيام عن مستقبل العالم بعد هذه الجائحة كثيرة ومتعددة وفي الكثير من الأحيان متضاربة وتثير القلق. فمن ناحية انها تؤكد على ان العالم بعد هذه الكارثة الصحية سوف لن يكون أو يعود إلى ما كان عليه قبلها، وان النظام العالمي، وخاصة الاقتصادي سوف يشهد تحولات كبيرة ومهمة وجذرية. وهذه أمور شبه مؤكدة الوقوع. وهناك من يؤكد ان حربا عالمية ثالثة ستقوم لتلافي عملية انهيار قوى اقتصادية راسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ولإفشال عملية بروز قوى جديدة يقف على رأسها الصين. خاصة وان الصين اثبتت خلال هذه الأزمة انها كانت الاقدر على مواجهة هذه الكارثة، وان نظامها اكثر مرونة وقدرة على التعامل معها بايجابية، بينما الأغلبية العظمى من الدول الرأسمالية واولها الولايات المتحدة لم تستطع لحد اللحظة ان توفر المستلزمات الأولية البسيطة لمواجهة هذا الوباء، مثل الكمامات والقفازات البلاستيكية والمطهرات والمعقمات لليدين واجهزة مساعدة التنفس، ناهيك عن اجهزة كشف المرض. بينما استطاعت الصين ليس فقط ان توفر هذه المستلزمات بكميات غطت حاجة البلاد التي يصل تعدادها إلى اكثر من مليار واربعمائة مليون نسمة، ولكنها كانت هي من بادر إلى توفير هذه المواد إلى باقي دول العالم ومنها الولايات المتحدة ودولًا أوربية مثل إيطاليا وإسبانيا ودول شرق أوسطية وعربية وبدون مقابل. بمعنى اخر انها استطاعت ان تكيف صناعتها للتعامل مع هذه الأزمة بينما ظلت الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى عاجزة عن تحوير صناعتها لمواجهة وباء الكورونا، لكي يتجاوز أعداد الضحايا فيها عدد من سقط في الصين التي كانت اول من أعلن عن تفشي هذا الوباء.
وبغض النظر عن الأفكار التي تتمحور حول نظرية المؤامرة، والتي تقول ان دولة ما اختلقت هذا الوباء لكي تقود قوى دولية مناوءة الى الانهيار والركوع، او ان ظهور هذا الوباء هو جزء من خطة لإعادة هيمنة قوى كبرى على العالم بعد ان بدأت هذه الهيمنة تشهد ضعفا وانهيارات في كثير من مناطق العالم، وهي افكار لا تستند الى حقائق واضحة، وبغض النظر عن ما يقوله قادة من نمط الرئيس الامريكي الذي استهان بالوباء وأدت استهانته هذه الى تفشيه بصورة كبيرة عبر الولايات المتحدة، فان التفكير المنطقي والواقعي بقول ان العالم فوجيء بالوباء، وانه سيظل يواجه أوبئة من هذا النوع، وان دول العالم مطالبة بان تكون اكثر جاهزية لمواجهتها، وإلا فان البشرية ستكون مهددة بمخاطر قد تصل الى خسارة أعداد غير قليلة من ابناءها. من ناحية اخرى فان الأفكار التي تقول ان العالم سيتجه الى حرب كونية ثالثة تبقى بعيدة الاحتمال لسببين بسيطين: الأول ان اي حرب من هذا النوع سوف تقود الى تدمير العالم والبشرية بشكل شبه تام بسبب الكم العائل من الأسلحة الفتاكة التي تمتلكها الدول الكبرى، وثانيا ان المشكلة الاقتصادية، وهي لب الموضوع، سوف لن تحل بمثل هكذا حروب او حلول، وذلك لان التجارب السابقة يفترض ان تكون قد علمتنا ان هذه الحروب وما احتاجته من تكاليف هائلة كانت السبب وراء الأزمات الاقتصادية التي عاشها ولا يزال يعيشها العالم الرأسمالي وخاصة الحرب الكارثية على العراق والحروب الاخرى في المنطقة، والتي يراد منها بكل الوسائل والسبل، وعكس مجرى التاريخ والمنطق، إدامة هيمنة إسرائيل في المنطقة. ثم ان الأموال الهائلة التي صرفت وتصرف على هذه الحروب كان يمكن ان تجعل من دول العالم الثالث على اقل تقدير دولًا مرفهة اقتصاديا وذات مستوى عال من الخدمات التي تقدمها لمواطنيها.
ويكفي التذكير ان دولًا كثيرة كانت تعتبر متخلفة بعد الحرب العالمية الثانية استطاعت ان تقفز إلى مصاف الدول المتقدمة لسبب أساس هو انها ركزت على التنمية ولم تدخل في حروب ومغامرات خارجية، بينما الولايات المتحدة دخلت اكثر من حرب كبيرة لا لسبب سوى لان قياداتها اعتقدت ولا تزال تعتقد انها تستطيع ان تفرض هيمنتها عن هذا الطريق، (الحرب الكورية والحرب الفيتنامية والحرب على العراق ما هي الا نماذج صارخة في هذا المجال)، وخسرت نتيجة لذلك ترليونات كثيرة.
وبالعودة الى الجانب الاقتصادي، وهو الأهم، فان العقول الاقتصادية في العالم الرأسمالي لا بد وإنها منهمكة الان في ايجاد الحلول الاستباقية لارتدادات جائحة كورونا. وان غالبيتها يفكر بطريقة تختلف عن الطريق التآمري ومحاولات السيطرة على دول اخرى لحل الازمة الاقتصادية القادمة. وبالتأكيد ان التفكير، او هكذا يفترض، يجب ان ينصب على ايجاد الحلول المنطقية. بعض هذه الافكار او الكتابات بدأت تلوح في الأفق. والملفت للنظر ان غالبية هذه الافكار والحلول اذا ما تم تدقيقها بعناية نجد انها يغلب عليها النمط او الحلول الاشتراكية والماركسية حتى وان لم تقل ذلك صراحة، وليس فكر الاقتصاد الحر. بكلمة اخرى فان اهم الافكار بدأت تتحدث عن ضرورة عودة الدولة لكي تلعب دورا كبيرا وأساسيا في الحفاظ ليس فقط على حياة مواطنيها وإنما عن مسؤوليتها لتوفير حياة مضمونة ومكفولة من قبل الدولة، وان الرعاية الصحية والاجتماعية والخدمات ، مثل التعليم وخدمات النقل والكهرباء والماء يجب ان تعاد الى يد الدولة. كما الدولة يجب ان تكفل توفير المشاريع التي تضمن تشغيل اكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة.
الأهم فان الدول الرأسمالية مطالبة بفرض قوانين ضريبية جديدة تضمن ان لا تبقى شريحة لا تتجاوز الخمسة او العشرة بالمائة متحكمة بحوالي تسعين بالمائة من الثروة، وهناك من طالب بان يتم فرض ضرائب تصاعدية على اصحاب هذه الفئة تبدا من خمسين بالمائة تصاعدا، وهكذا. كما ان الدول مطالبة بنبذ فكرة الخصخصة وإعادة المشاريع التي باعتها للقطاع الخاص الى القطاع العام او الى العاملين فيها بدلًا من تمليكها لعائلة واحدة او عوائل معينة. او ان يتم تكليف اصحاب هذه المشاريع بالمساهمة بجدية في دعم او تمويل جانب من الجوانب الخدمية مثل النظام الصحي والخدمي الذي يمس حياة المواطنين وبطريقة تنهي عملية تراكم الثروات بيد مالكي هذه المشاريع الذين لا يفكرون سوى بالأرباح التي يحققونها.
كما ان التركيز على الصناعات العسكرية التي تحقق ارباحا هائلة للدول، والتي اثبت الواقع العملي انها عجزت عن حماية ارواح مئات الآلاف من البشر اثناء هذه الكارثة الوبائية، والتي اثبت الواقع انها، هذه الصناعات، غير قادرة على التكيف مع الكارثة وإنتاج ما ينقذ حياة المواطنين، فيجب ان تتراجع الى درجة ثانية او ثالثة. واغلب هذه الأمور والحقائق مكنت الصين والى حد ما روسيا من التصدي بفاعلية للجائحة.
نعم ان التجربة الصينية يجب ان تدرس بعناية، وكذلك التجارب الاشتراكية السابقة، بحيث يتم الموازنة بين رفاهية المجتمع وعدم التضييق على حرية أفراده مع تكفل الدولة بضمان كل ما يوفر الخدمات الضرورية لمواطنيها وبغض النظر عن مستواهم الاجتماعي والاقتصادي. بالإضافة الى ذلك فانه من الضروري اعادة النظر بالنسبة للديون المتراكمة على الدول الفقيرة والتي ستعاني حتما من مشاكل اقتصادية كبيرة، في نفس الوقت الذي يجب ان تعمل فيه الدول الكبرى على تخفيض ديونها هي وعجزها الاقتصادي عن طريق خفض الإنفاق العسكري او التوقف عن المغامرات الخارجية الأمران اللذان أرهقا ويرهقان ميزانياتها، خاصة وان كل هذه الآلة العسكرية وصناعاتها لا ينتج عنها سوى المزيد من القتل والتدمير. وان الدول التي استثمرت في الإنسان وتخريج الكفاءات كانت هي الأقدر على مواجهة هذه الجائحة.
وبالتأكيد فان الاقتصاديين المتخصصين لديهم افكارا اخرى غير ما ذكر أعلاه، ولكن من المؤكد ايضا ان العالم بحاجة الى قيادات تعي ضرورة اتخاذ قرارات استثنائية لصالح البشرية ونبذ العنجهية وأسلوب معالجة المشاكل بالحروب وفرض الحصار على الشعوب. فقط عن هذا الطريق يستطيع العالم من تخطي اثار جائحة كورونا وأوبئة مستقبلية أخرى، وتخطي احتمالات انهيار النظام العالمي، سياسيًا واقتصاديًا، ومنع الانتقال الى فوضى تهدد كل البشرية. فهل سيعي قادة الدول الرأسمالية هذه الحقيقة؟
3171 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع