الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أضواء على جائحة كورونا وبعض إفرازاتها
لقد كان ظهور فيروس كورونا المستجد مباغتا للعالم أجمع، وكان أشبه برفرفة فراشة تحولت إلى زلزال صاعق عصف بأرجاء الأرض وبث الرعب فيها وشلَّ حركتها وتسبب بخسائر بشرية ومالية هائلة.
إنه مشهد ما كان أكثر المتشائمين يتوقعه، أوقف معظم الأنشطة في أغلب المجالات، وتسبب بمشاكل جسيمة في مختلف نواحي الحياة، ونقل البشرية إلى طور جديد مختلف عن طور ما قبل كورونا المستجد.
لقد مضى عن الإعلان عن هذه الجائحة أربعة أشهر، وقد عَصفت بمختلف دول العالم بما فيها أعتى وأغنى دول العالم وأكثرها تقدما وتطورا. وأصاب البشرية ما أصابها من خوف وخسائر جسيمة وانقطاع أرزاق شرائح كبيرة في هذا الابتلاء (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).
وقد اقترب عدد الإصابات المسجلة في العالم حتى صباح 13نيسان/أبريل 2020 من المليونين وبلغ 1,861,672، أما عدد الوفيات الكلية المسجلة فقد بلغ لحد هذا التاريخ 114,980 وفاة. ومن المفارقات الغريبة أنه لم يمضِ عن اكتشاف هذا الفيروس سوى أربعة أشهر حتى أصبحت الولايات المتحدة الأولى عالميا بمختلف مقاييس التطور العلمي والحضاري، أصبحت الأولى عالميا على مستوى الإصابات والوفيات، فبلغ عدد الإصابات فيها 560,433 إصابة؛ ما يعادل 30% من نسبة الإصابات المسجلة في العالم، في حين بلغ عدد الوفيات فيها 22,115 وفاة؛ ما يعادل 19% من نسبة الوفيات المسجلة في العالم.
وتعقب الولايات المتحدة من حيث الإصابات والوفيات، أربع دول من أوربا الغربية هي إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، ثم تليها إيران ثم بلجيكا، ثم الصين مصدر الوباء وأكبر دولة في العالم من حيث السكان، ثم ألمانيا ثم هولندا. وقد قمنا برسم أعداد المتوفين ولغاية صباح يوم 13 نيسان/أبريل2020 في هذه الدول بيانيا باستخدام الأداة الإحصائية المعروفة بالمخطط الدائري Pie Chart.
ونتيجة لما حدث وتسارع انتشار الجائحة في مختلف القارات، فلا بد أن يكون هناك خلل واضح في النظام الصحي الدولي وعلى العالم أن يعيد حساباته من جديد، كما يجب تفعيل المنظمات الدولية لتأخذ دورها من أجل الأهداف النبيلة للإنسانية.
لقد كشفت هذه الجائحة عن خلل كبير في النظام الصحي الدولي، كما كشفت عن وهن العلاقات الإنسانية بين العديد من المسميات الدولية. وكشفت هذه الجائحة أيضا حالة خلل وضحة، مُتعمَّدة أو غير مُتعمَّدة، من مصدر هذه الجائحة، حيث تشير بعض المصادر إلى أن تصدي الصين للفيروس لم يكن بالشكل المطلوب، وهناك من يتهم الصين بأنها أخفت الخطر الحقيقي للجائحة.
وتتحمل منظمة الصحة العالمية في هذا الظرف العصيب مسؤوليتها الأخلاقية تجاه هذا الموضوع، وقد أخطأت هذه المنظمة في تقدير خطورة الحالة. فقد أشار المدير العام لمنظمة الصحة العالمية (تيدروس أدهانوم غبريسيس) في31 يناير/كانون الثاني 2020 إلى الانتشار المُقلق للفيروس بين الناس خارج الصين، وقال: "السبب الرئيسي لهذا الإعلان ليس بسبب ما يحدث في الصين ولكن بسبب ما يحدث في دول أخرى، فمصدر القلق الأكبر هو احتمال انتشار هذا الفيروس إلى البلدان التي تعاني من ضعف النظم الصحية وغير المستعدة للتعامل معه". ويعكس هذا التصريح بشكل واضح سوء تقدير هذه المنظمة: حيث فتك هذا الفيروس بأكثر دول العالم تطورا على مختلف الأصعدة.
ونتيجة للخسائر الفادحة للولايات المتحدة على مختلف الأصعدة، فقد هاجم الرئيس الأمريكي دونالد ترمب منظمة الصحة العالمية في طريقة تصديها لجائحة كوفيد-19، كما اتهمها بأنها قدمت معلومات مغلوطة عن الفيروس أخذتها من الصين، بل واتهمها بالانحياز للصين. ثم أعلن ترمب عن تجميد الولايات المتحدة تمويل منظمة الصحة العالمية، علما أن تمويل الولايات المتحدة يبلغ 400 مليون دولار وهو ما يعادل عشرة أضعاف تمويل الصين البالغ 40 مليون دولار. وقد وصفت رئيسة مجلس النواب الأمريكي هذا القرار بأنه (أحمق وخطير). وتناقلت الأخبار مؤخرا مقولات صادرة عن البيت الأبيض والحزب الجمهوري تتحدث عن احتمال تخليق فيروس كورونا مختبريا في مدينة ووهان.
من الطرف الآخر فقد وحَّدت هذه الجائحة العالم وأظهرت (صِغر) عالمنا الذي نعيشه ووحدة مصيره بعد أن تخطى هذا الفيروس كل الحواجز وعَبَر الحدود. لقد كانت البشرية أشد ما تخشاه الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل. ثم ظهر على مسرح الحياة بشكل فجائي كائن بالغ الضآلة من عائلة الفيروسات التاجية Coronaviruses، وهو كائن بدائي في تكوينه وتاريخه التطوري، يأخذ أفراده شكل كُريات متناهية الصغر، متوسط قطرها 125 نانومترًا، أي 125 جزءًا من المليون من الملليمتر، فهي لا تُرى إلا بميكروسكوب إلكتروني قوي، وتكوينها فقير إلى حدٍّ مذهل، ولا تزيد عن قطعة شاردة من جينوم RNA أحادي الجانب في مظروف بروتيني.
وعلى ضآلة هذا الفيروس وفقر تكوينه، بات تهديده يفوق تهديد أكبر قنبلة نووية أو أي سلاح تدميري، وقد أطلقت منظمة الصحة العالمية على هذا الفاشي المُستجد اسم "كوفيد19"، اختصارًا من التعبير الإنجليزي الذي يعني "مرض فيروس كورونا المستجد في سنة 2019 (Coronavirus disease 2019 (COVID-19. وها هو هذا المستجد البالغ الضآلة والمهين التكوين "يهدد ثلثي البشرية"، كما أعلنت منظمة الصحة العالمية، أي يهدد أكثر من خمسة مليارات من بني الإنسان، ويُرعب الكبير والصغير، ولا يميز بين بين رجل وامرأة، ولا بين غني أو فقير، ولا بين ملك أو رئيس أو مواطن عادي.
بعض إفرازات جائحة كورونا:
لقد أفرزت هذه الجائحة وما رافقها من تطورات العديد من الدروس والعِبر التي يجب أن يتعظ بها البشر (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ) (النور: 44). أولها ضعف الإنسان أمام ما يحيط به مهما بلغ من قوة وتطور وحاجته الدائمة إلى عناية الله تعالى ورعايته، وضرورة الموازنة بين النِعم وعدم القنوط من رحمة الله وأن يكون الإنسان في سيره إلى الله بين الخوف والرجاء فلا يقنط وييئس، ولا يأمن مكر الله وعقوبته ويخلد إلى المعاصي (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف: 99).
وكشفت هذه الجائحة حقيقة العالَم المعاصر وصِغره على سعته، وأنه عالَم مفتوح متداخل القارات، كما تجلت وحدة مصيره على الأرض وهو يواجه هذا الكائن الغريب.
ومن إفرازات هذه الجائحة أن على دول العالم ومنظماتها المختلفة تركيز اهتماماتها بالتوجهات التي فيها خير البشرية وإسعادها، بدل التوجهات الشريرة من إشعال الفتن وإذكاء الحروب وتطوير الأسلحة الفتاكة.
ومن الإفرازات البليغة للدول النفطية ضرورة تنويع مصادر الدخل القومي وعدم الاعتماد شبه الكلي على النفط. وتجلت في فترة هذه الجائحة ضرورة تحقيق الأمن الغذائي لكل بلد وتشجيع الزراعة لأن الزراعة نفط دائم وهي المفتاح لمعالجة الكثير من المشاكل التي نعاني منها.
ومن الدروس التي افرزتها هذه الجائحة ضرورة تطوير وسائل وطرائق التدريس والتعليم في المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات، وتوظيف الإنترنت والاستفادة من خدماته الجليلة وإمكانياته الهائلة في إلقاء المحاضرات ونشر الثقافة عن طريق تفعيل وسائل وبرامج التعليم عن بُعد.
595 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع