د. سوسن إسماعيل العسّاف
اوربا الموحدة تتهاوى: من البريكست Brexit الى جائحة فايروس كورونا
كانت أوربا محور السياسة الدولية لقرون خلت، وقد شهدت حروب وغزوات وتحولات بنيوية اقتصادية واجتماعية وسياسية، وكانت روسيا القيصرية مشاركة في صنع التاريخ الأوربي سواء في الحروب او في عقد الاتفاقيات، أما الولايات المتحدة فكانت منزوية في ذلك الركن البعيد من العالم وراء المحيط الأطلسي، وتسير وفق سياسة انعزالية وترفض الاشتراك في مشاكل وأحداث أوربا. غيرت الحربين العالميتين، وخاصة الثانية، كل الموازيين وقسمت القارة الاوربية الى قسمين، كل قسم يتبع قطباً معيناً. وفي هذا الاثناء كانت دول اوربا، وخاصة الغربية تحاول ان تبني لها موقعا مهما، ثالثا بين القطبين الكبيرين وصراعهما في الحرب الباردة، وذلك من خلال الدعوة للوحدة والاتحاد والتحالف.
لقد كان الهدف الأساس من وراء إنشاء الاتحاد الأوربي، (خاصة بعد توقيع اتفاقية روما عام 1957) الذي ضم اهم الدول الأوربية الغربية في حينه، هو خلق كيان أوربي موحد قوي وقادر على نبذ الحروب بين دول اوروبا نفسها أولاً، واسلوب للتعاون الاقتصادي المشترك ثانياً، ولمجاراة القوتين الأكبر آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي ثالثاً. وازدادت أهمية هذا الاتحاد بعد ذلك عندما انضمت اليه بريطانيا والدانمارك واليونان وأسبانيا والبرتغال وأغلبية الدول الأوربية الغربية الاخرى في سبعينيات القرن المنصرم. واعتقد قادة الدول الأكبر في هذا الاتحاد، فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا، ان اقتصادهم القوي وتقدمهم الصناعي الكبير وتطور الخدمات العلمية والطبية-الصحية وقوانين التكافل الاجتماعي المتطورة، كفيلة بان تضع هذا الاتحاد كطرف صلب وذا تأثير في توازنات النظام الدولي الثنائي القطبية انذاك. لا بل أن قادة اوربا اقتنعوا في فترة السبعينيات والثمانينيات بأن إتحادهم في حقيقته يمتلك من القوة والأستقرار والأقتصاد القوي ما يجعله في موقف افضل من موقف الاتحاد السوفيتي، الذي رغم تمتعه بالقوة العسكرية الهائلة كان يعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة، أدت إلى انهياره وتفككه فيما بعد. وارتفعت الثقة بإمكانيات الاتحاد الاوربي وإمكانية وصولة الى مصاف القوى العظمى بعد انتهاء الحرب الباردة. الا ان أزمة خروج بريطانيا من الأتحاد شكلت تحديا كبيرا للإتحاد. ثم جاء انتشار وباء كورونا ليسقط المرتكزات الاساسية لفكرة التحالفات وإستقرار الاتحادات وبات يمثل تهديد وجودي لمنظمات نشر الامن والسلام العالميين مثل الامم المتحدة ووكالاتها التابعة لها وانهى فكرة القوة العظمى الوحيدة وشرطي العالم، مثلما ابرز فكرة صعود قوى جديدة لموازين القوى الكبرى بمفاهيم غير مدركة واستراتيجيات غير معروفة سابقاً.
لم يُظهر فايروس كورونا عجز الدول الأوربية عن التعامل السريع والجاد مع هذه الجائحة فقط، وإنما اوضح أيضاً الأسس الواهية والخادعة والبيروقراطية التي قامت عليها ادارات ومؤسسات هذه الدول، وخاصة في الجانب الصحي والإداري وحتى الاقتصادي، ابتداءاً من إيطاليا وامتدادا إلى اسبانيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا، هذه الدول التي سجلت اكبر أعداد الوفيات والإصابات بهذا الوباء. المضحك المؤلم في الامر ان هذه الدول إختارت مجبرة على التعامل مع الجائحة بشكل انفرادي وبالامكانات المتيسرة لدى كلُ منها وحسب رؤيتها للمشكلة وابحاثها الميدانية ومعالجاتها اليومية، في الوقت الذي كان يفترض فيها ان تتعامل فيما بينها ككتلة واحدة يدعم بعضها البعض الآخر حسب قوانين وضوابط الأتحاد. وهنا كانت الصدمة الكبرى للاوربيين، خاصة عندما وصل الأمر الى أن تتخذ دول الاتحاد أثناء تفشي الوباء قرارا بإغلاق الحدود فيما بينها. كما أخفقت في مد يد العون الى بعضها البعض، ورفض الاتحاد نفسه مساندة بعض أعضائه اقتصادياً، فقد رفض الاتحاد طلب ايطاليا بمنحها قرض يساعدها على مواجة الفايروس، لا بل ومنع قسم منها تصدير اية مواد طبية او وقائية الى الدول الأكبر تضررا إيطاليا واسبانيا. ولم يقف الى جانب هذه الدول سوى الصين وروسيا وكوبا، هذه الدول التي أرسلت مساعدات وأطقم بشرية طبية للمساعدة في مواجهة هذا الوباء الذي حصد حياة ما يقارب 83,931 شخصا منذ بداية الازمة حتى منتصف نيسان. وفي الوقت الذي كانت بعض الأطراف تلوم بريطانيا لاختيارها الخروج من الاتحاد الأوربي على اساس ان ذلك سيحرمها من الدعم والتعاون والمساعدات الأوربية عند الحاجة، أصبح بعض اعضاء الاتحاد، ويقف على رأسها إيطاليا، يطالبون سياسيهم بترك الاتحاد، وذهب قسم منهم إلى الحد الذي قام فيه بإنزال، بل وحرق علم الاتحاد الأوربي رافعا بدلًا عنه العلم الصيني او العلم الروسي، ونشر الايطاليين فديوهات كثيرة تعاتب اوربا عن هذا الموقف المتخاذل. وأصبحت الصحف اليومية الإيطالية والأسبانية تسخر حتى من فكرة الاتحاد وتشكك في جدوى الاستمرار من البقاء داخله، وكل هذه الظواهر تهدد بشكل جدي مستقبل الاتحاد، مثلما تشكك في فكرة التحالفات والاتحادات مستقبلياً.
هناك من يقول ان تدهور حالة الأتحاد الأوربي ترجع الى أربعة أسباب: أولها تمثل في ظهور بوادر ضعفه وتدهور الوضع داخله بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانضمام دول أوروبا الشرقية اليه (بدأت العملية في اكتوبر 1990 بتوحيد ألمانيا، ثم قيام غالبية دول اوربا الشرقية بالانضمام الى الاتحاد ابتداءا من عام 2004). ويقول اصحاب هذا الرأي ان انضمام هذه الدول الضعيفة اقتصاديا ومالياً وسياسياً الى الاتحاد، شكل عبئا كبيرا على اقتصاديات دول أوروبا الغربية، وجعل مؤسساتها، وخاصة الصحية والمنافع الأجتماعية منها، تعاني من اعباء كبيرة نتيجة لنزوح أعداد هائلة من سكان أوروبا الشرقية الى دول أوروبا الغربية للاستفادة من الرواتب الأعلى والمستوى المعيشي الأفضل والأهم تجلى في الاستفادة من قوانين وخدمات الرعاية الصحية والاجتماعية شبه المجانية. علماً بأن واقع الهجرات من أوربا الشرقية تؤكد بأنها وفرت لأوربا الغربية أيدي عاملة ماهرة رخيصة حفزت العمل في الصناعة ومجال البناء. السبب الثاني في تصدع الأتحاد يعود الى قيام بعض الدول الاوربية بعقد صفقات تجارية دولية انفرادية، صحيح أن ذلك تم وفق قوانين الاتحاد إلا إنها اعتبرت بدايات للانقسام والتفكير الذاتي. والنموذج الأفضل هو الإنتقادات التي وجهت الى ايطاليا على توقيعها الاتفاقية التجارية مع الصين وربطها بخطة (طريق الحرير). ثالثاً يذكر بعض الكتاب أن مشكلة اللاجئين الجدد القادمين من مختلف دول العالم وقبول اعضاء الاتحاد الكثير منهم قد ساهم في زيادة العبء الاقتصادي على كاهل الدول الاوربية وبالتالي على الاتحاد الذي يجمعهم. وأخيراً هناك من يرجع سبب ضعف الاتحاد الى ما يسمونه (بالمشكلة البريطانية). حيث يؤكد أصحاب هذا الرأي أن الطريقة التي دخلت فيها بريطانيا الإتحاد شكلت نوعا من عدم الإستقرار فيه. فقد سعت الى ان تحصل على إمتيازات كثيرة، فهي لم تنضم للعملة الموحدة ولم تدخل ضمن إتفاقية شنكن للفيزا الموحدة، وحاولت أن تعتبر قوانينها اسمى من القوانين الأوربية وفشلت في ذلك، ثم في النهاية إختارت الإنسحاب من الإتحاد لتضيف معاناة جديدة له.
إلا أن المشكلة الأكبر التي واجهت الإتحاد وبدأت تهدد بقاءه تمثلت في جائحة كورونا، لتلعب هذه الكارثة الدور الاهم في ابراز جوانب الضعف غير الظاهرة فيه. خاصة بعد أظهرت دولا أوربية متقدمة ويفترض بها أن تكون متقدمة، مثل بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وفرنسا وبنسبة أقل المانيا، عجزا في مواجهة الوباء وفي توفير مستلزمات ضرورية وبسيطة مثل كمامات الوجه وقفازات اليد البلاستيكية الواقية وتعقيم الشوارع، وأجهزة التنفس، وتحديات التعاون فيما بينها لمواجهة أزمة صحية فريدة من نوعها.
كل المؤشرات والكتابات التي ناقشت ولا تزال تناقش نتائج هذا الوباء تؤكد ان العالم ما بعد كورونا سيكون غير عالم ما قبلها، وهذا ما نتفق معه. ويبدو ان اول تغيير في النظام العالمي ومع بوادر الازمة الاقتصادية سيمس بالتأكيد الاتحاد الأوربي، الذي ابرز ان حدود الدولة القومية أكثر أهمية من حدود الانتماء القارية. فهل ستكون النتيجة تفكك هذا الاتحاد؟ ام ان الدول المتمسكة به وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، ستتمكن من اعادة الثقة بمؤسساته؟ ومع كثرة الحديث عن تفكك هذا الاتحاد إلا إن الوقائع تقول أن إصرار بعض الدول على التمسك بالأتحاد، وتدعو الى تقويته بعد خروج بريطانيا منه، مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا، سيجعل تفكك وانهيار هذا الأتحاد اكثر من صعبة في المستقبل المنظور. ولكن الأمر سيحتاج إلى جهد استثنائي لكي يتم إقناع دولاً مثل إيطاليا وأسبانيا لترجيح التفكير بالبقاء، وللقبول بحجة ان السرعة والطريقة المفاجئة التي اجتاح بها هذا الوباء العالم جعلت كل الدول تقف عاجزة عن مواجهته، وأنها كلها احتاجت لكي تنكفىء على نفسها حتى تحاصره. وستحتاج هذه الدول ايضاً الى تقديم الحلول المالية غير المشروطة لمشاكل الدول الاكثر تضرراً لاقناعها بأن الاتحاد هو السبيل الوحيد لانتشالها من مأزقها. وهذا الامر سيفرض على الدول القوية اقتصادياً إقتراح المساعدات وإشعار كل دول الإتحاد بأنها جزء لا يتجزأ من منظومته الموحدة. (ويجسد ذلك إعلان الاتحاد عن خطة للطوارئ بمبلغ 500 مليار يورو لمواجهة الجائحة في اوربا، والتي جاءت بعد خلافات ما بين الدول المقتدرة إقتصاديا مثل المانيا وهولندا ودول مثقلة بالديون مثل أيطاليا وأسبانيا، أمر ذو دلالات مختلطة إيجابية وسلبية). والسؤالين الأهم الذين يمكن أن يثارا في هذه الفترة هما: أولا هل ستكون حقيقة عدم توفر بدائل إقتصادية ومالية للدول المتضررة سببا في التفكير بالقبول بفكرة البقاء في الإتحاد خاصة وأن العالم كله سيعاني من أزمة إقتصادية خانقة؟ والثاني هو هل ستختار الدول المتضررة وخاصة إيطاليا وإسبانيا الخروج من الإتحاد والإصطفاف مع الصين وروسيا اللتان وقفتا معهما وقت الشدة؟ بالتاكيد سيحتاج قادة الإتحاد، وخاصة فرنسا والمانيا، الى اعادة النظر في طبيعة اليات والتزامات صيغ التعاون التي يقوم عليها مع التركيز على الجانب الصحي-العلمي البحثي بأبعاد مستقبلية لكي يطمئنوا باقي الإعضاء بإعادة النظر في مواقفهم. بينما في بريطانيا فان هذه الكارثة الصحية جعلت من موقف الذين أصروا على الخروج من الاتحاد الأوربي، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، اكثر صلابة ومقبولية، ناهيك عن ازدياد شعبيته في اكثر الدول تضررا من الوباء مثل إيطاليا وأسبانيا. وبات الحديث عن الاعتمادية على النفس اساس المواجهة والتحدي وذو نتائج ملموسة ولكنها بطيئة للغاية. خصوصاً وأن الدروس المستخلصة من فترة التعامل مع الجائحة كانت دلالاتها تؤكد أن التعاون والتكاتف ضرورة لحماية ارواح البشرية، كما أن التكامل البحثي وتبادل الخبرات ونبذ العزلة مرتكز مهني اساسي في الجانب الصحي لتحقيق اعلى النتائج وبأسرع وقت ممكن لمواجهة اي وباء مستقبلي. فهل سيستمر الاتحاد الاوربي في عالم ما بعد كورونا؟ ام سيشهد تفكك تدريجي بدأته بريطانيا في عالم ما قبل كورونا؟ وهل ستظهر تشكيلة جديدة لهذا الاتحاد؟ وكيف ستظهر اوربا في توازنات النظام الدولي الجديد؟
1032 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع