ظاهرة انقلاب الأحلام الكبرى إلى كوابيس

                                                

                         د. علي محمد فخرو

ظاهرة انقلاب الأحلام الكبرى إلى كوابيس

يبدو، في حاضر وماضي بلاد العرب، البعيد كما القريب، ان الأحلام الكبيرة تنتهي دوما في يد من يحرثون البحر، لازرع ينمو ولا حصاد يقطف.انها ظاهرة تبدو من كثرة تكرارها عبر القرون من الأزمنة بأنها اصبحت جزءا من الكينونة الحضارية العربية وعادة تمارس بلا كابح. لنذكر انفسنا ببعض الأمثلة:

بعد فترة وجيزة من موت رسول الاسلام تدخل المجتمعات الاسلامية في مجادلات مرجعية قراءة وفهم وتطبيق النصوص الأصلية المؤسسة المقدسة، اي القرآن الكريم والأحاديث النبوية. هل الفهم يجب ان يكون من خلال ماقاله وأكده السلف الصالح، وما نقل عن اصحاب رسول الله على الأخص، ام يضاف إلى ذلك الاحتكام إلى العقل والمنطق الانساني. تمثلت تلك النقلة في ظهور مدرسة المعتزلة التي طرحت للنقاش قضايا وتساؤلات كثيرة من مثل الترابط بين حرية الانسان ومسؤولياته امام خالقه، ومواضيع العدالة والأخلاق كما يضبطهما العقل الانساني.
لكن المدرسة المعتزلية تاهت اولا وأثقلت حملها بالدخول في مناظرات كلامية وفلسفية معقدة، ثم قادها بعض اتباعها وبعض رجالات السلطة إلى متاهات السياسة وأحابيلها، فكانت النتيجة ان ضاعت على العرب والمسلمين فرصة تاريخية بالغة الوعد والأهمية لتأسيس حضارة ترتكز على ممارسة عقلانية قابلة للتجديد والتطوير المستمرين للثقافة والسلوك واقتحام مجاهل العلوم. لم يكن ذلك سقوط مدرسة، بل كان بدء سقوط حضارة في دياجير الجهل والخرافات والقراءات السطحية.
مثلما حدث لامكانيات التقدم في المدرسة المعتزلة وحلول بعض المدارس الفقهية المليئة بالانغلاق ورفض الاجتهاد والمعاداة للمنطق الفلسفي مكانها، حدث لمدرسة الاصلاح الديني الاسلامي التي نشأت وقويت، وكانت مليئة بالامكانيات التجديدية، عبر اكثر من قرن من الزمن، من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين. يكفي ان نذكر اسماء من مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي ومحمد رشيد رضا وعلى عبدالرزاق وعبدالحميد بن باديس وعلال الفاسي ومحمود شلتوت وعمر عبدالرحمن حتى نعرف حجم وتنوُع وغزارة تلك النهضة الاصلاحية. لكن، وكالعادة، ضعفت تلك الحركة الاصلاحية الواعدة ودبت الخلافات فيما بين اركانها، وفشلت في تأصيل وتجذير فكرها الأصلاحي التجديدي في المجتمعات العربية والاسلامية. فكانت احدى نتائج ذلك الاخفاق قيام مدارس فقهية جامدة وشديدة المعاداة لعصرها، ولتنتهي بصعود ظاهرة الجنون التكفيري الاجتهادي العنفي الذي يتمثل اليوم في حراكات من مثل القاعدة وداعش والنصرة وعشرات غيرها. مرة اخرى سقطت حركة عقلانية اصلاحية لتحل محلها بربرية همجية. هل الأسباب العميقة لهذا الاخفاق الحديث تختلف عن اسباب الاخفاق للمدرسة الاعتزالية العقلانية القديمة؟
دعنا ننتقل من احلام الاصلاحات الدينية الكبرى إلى احلام التغيرات الكبرى في حقل السياسة.
يتحد القطر المصري مع القطر السوري في اعظم وأهم خطوة وحدوية عربية عرفها القرن العشرين، مما اوقد الوعي الوحدوي لدى الملايين من المواطنين العرب الذين امتلأت نفوسهم بالأمل في قيام دولة عربية مترامية الأطراف، تقود إلى نهوض حضاري هائل وخروج من تخلٌف تاريخي مخجل. فجأة انفتحت ابواب المستقبل الواعد، وفجأة انقلب ذلك الحلم الرائع إلى كابوس محبط، وضاعت فرصة تاريخية اخرى.
وانطبق الأمر نفسه على حلم كبير بشأن امكانية وحدة اخرى فيما بين سورية والعراق عندما حكم القطرين حزب واحد، حزب البعث العربي. وكان منطقيا ان تستطيع قيادة قومية واحدة لذلك الحزب فرض قيام وحدة فيما بين القطرين. ولكن وكالعادة، تبين ان الحديث عن المنطق في بلاد العرب هو من قبيل الهذر، وضاعت فرصة تاريخية اخرى. وآخر مثل هو محاولة تقريب وتفاهم قوى التيار القومي العربي مع قوى التيار الاسلامي السياسي المعتدل. لقد عقد في عام 1994 مؤتمر مشترك فيما بين ممثلين عن التيارين لوضع اسس لتفاهم يتفق على اهداف اساسية كبرى للأمة العربية، ويسعى لتكوين كتلة تاريخية نضالية لتحقيق تلك الأهداف. وكانت النفوس مليئة بالأمل في الخروج من الصراعات والمماحكات القديمة وبدأ العمل السياسي المشترك لاخراج الأمة من محنتها وضعفها. لكن، ومرة اخرى، جاءت رياح وخلافات وصراعات وانتكاسات الربيع العربي، وتكالب قوى الخارج الاستعمارية بالتعاون مع قوى الاستبداد الداخلية، لتئد تلك المحاولة ولينقلب ذلك الحلم إلى كابوس تعيشه المجتمعات المدنية السياسية إلى يومنا هذا.
لايمكن للانسان المعني بمصير هذه الأمة والملتزم بالنضال من اجل نهوضها الا أن يسأل: اين الخلل المسبب للسقوط المفجع لمثل تلك المحاولات التي ذكرنا والتي لم نذكر.
لايكفي ان نوجه اصابع الاتهام إلى تآمر الخارج الاستعماري والصهيوني، ولا إلى الفساد والاستبداد الداخلي. هذا قد يفسربعض ماحدث، ولكنه لايفسر كل ماحدث ولايفسر ما يحدث اليوم من مواجهة الجحيم العربي بالعجز والانقسامات العبثية البليدة والتراجع عن كل الالتزامات القومية العربية المشتركة. لعل في اعماق عدم القدرة على التعايش مع الحدود الدنيا من العقلانية والقدرة العجيبة على التعايش مع السلوكيات والقيم الأخلاقية المشوهة تكمن بعض الأجوبة، وانها لأجوبة كارثية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1138 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع