علي محمد فخرو
ترى من هم الواهمون الخياليون؟
هناك فرق كبير بين ممارسة النقاش أو الجدال وبين ممارسة المماحكة. الممارسة الأولى تعتمد المنطق والأخذ والعطاء والاحترام المتبادل فى التعبير عن الرأى، أما الممارسة الثانية فتعتمد النرجسية التى لا تعترف بحق الآخر والخصومة الجارحة فى الاختلاف وفى التعابير. الأولى محاولة للاقتراب من الحقيقة وللتقدم الفكرى والثانية هى إعلان حرب من أجل الانتصار العبثى. من هنا اعتبر البعض المماحكة أسوأ أنواع المحاثة بين البشر.
مناسبة التذكير بتلك البديهيات هى التعابير التى يستعملها بعض المثقفين العرب بحق من يخالفونهم الرأى فى المجال الفكرى السياسى وتفعيل إيديولوجياته المتنوعة.
فمنذ حدوث الانتكاسات والهزائم فى الحياة السياسية العربية، وفى طول وعرض الوطن العربى، ووصولها إلى القمم المأساوية الكارثية التى وصلت إليها أوضاع الأمة عبر العشر سنوات الماضية، اقتنعت والتزمت مجموعة من أولئك المثقفين العرب لا بالتخلى عن عقيدتها القومية العروبية الوحدوية فقط، وإنما أيضا، وبصورة غريبة بالإصرار على الدخول فى مماحكات لفظية مهينة مع كل من بقى متمسكا بتلك العقيدة القومية، فكرا وآمالا وأحلاما مشروعة وعلى الأخص لمبدأ ضرورة قيام نوع من الوحدة العربية كطريق مضمون يؤدى إلى نهوض الأمة العربية من تخلّفها ومهانتها وضعفها الحالى.
من التعابير المهينة التى يستعملها أولئك المثقفون ضد من يخالفونهم الرأى وصفهم بأنهم واهمون يمارسون أحلاما وخيالا طفوليا يتناقض مع واقع الحياة السياسية العربية. وهم بذلك، بقصد أو بدون قصد، يرددون نفس التعابير التى تستعملها الدوائر الإعلامية الاستعمارية ــ الصهيونية فى محاربتها الدائمة لأى خطوة وحدوية عربية ولأى شعار أو تسمية وحدوية تساهم فى بناء هوية عروبية مشتركة بين مكونات وجماعات الأرض العربية. المطلوب لدى تلك الدوائر هو المسح من الذاكرة الجمعية العربية تعابير من مثل الوطن العربى ليحل محله الشرق الأوسط، أو المغرب العربى ليحل محله الشمال الأفريقى، أو الصراع العربى ــ الصهيونى الوجودى ليحل محلُه النزاع «الإسرائيلى – الفلسطينى»، إلخ... من محاولات تدمير أو تشويه أو تقليل أهمية التاريخ العربى المشترك والثقافة العربية المشتركة والمصالح العربية المشتركة فى كل ساحات التكامل العربى الضرورى. فلا شىء يرعب تلك الدوائر أكثر من توحد هذه الأمة فى كيان قوى واحد قادر على مجابهة أعدائه ومتمكن من المحافظة على استقلاله الوطنى والقومى، ويحمل فى جوفه إمكانيات التنمية الإنسانية الشاملة.
لنعد إلى تلك القلة من المثقفين العرب لنؤكد أننا لسنا ضد حريتهم فى اختيار العقيدة الأيديولوجية التى تروق لهم، حتى لو خالفناهم الرأى وناقشنا ذلك الرأى معهم بموضوعية وهدوء، ودون مماحكات لفظية. ولذلك لنطرح على أنفسنا جميعا بعض الأسئلة.
فى موضوع الأمن العربى: هل هناك قطر عربى فى الوقت الحاضر غير مهدد فى أمنه إما من دولة غير عربية فى إقليم الشرق الأوسط من مثل الكيان الصهيونى التوسعى القائل علنا أنه يهدف إلى أن يكون القوة المهيمنة على كل دول الشرق الأوسط وعلى الأخص الدول العربية، أو من مثل إيران التى تفاخر بأنها تسيطر على أربع عواصم عربية، أو من مثل تركيا التى تخيط وتبيط فى الشمال الشرقى السورى والشمال العراقى وفى ليبيا مؤخرا، أو حتى من مثل الحبشة التى تهدد مخططاتها مصدر الحياة المائية للشعب العربى المصرى، وإما من دول خارجية طامعة فى ثرواته ومواقعه الجيوسياسية من مثل أمريكا أو روسيا؟
فى هذه الحالة من هم الواهمون والخياليون الطفوليون: الذين يصرون على إبقاء كل قطر عربى، فى ضعفه ومحدودية إمكانياته العسكرية، مسئولا لوحده عن أمنه المهدد أم الذين ينادون بنظام أمنى عربى واحد مشترك، غير مظهرى، يقف فى وجه كل تلك الأخطاء ويضمن الاستقلال والأمن الوطنى والقومى.
لنطرح سؤالا آخر: فى حقل بناء تنمية إنسانية شاملة، وفى قلبها الموضوع الاقتصادى والسوق المشتركة والتكامل العلمى والتكنولوجى والمعرفى، هل يستطيع أى قطر عربى، مهما كان حجمه أو غناه الرّيعى، أن يستغنى عن ضرورة وجود كتلة اقتصادية مترابطة ومتناغمة ومتكاملة وسوق عربية كبيرة لأربعمائة مليون من البشر، وهل يستطيع أى قطر الانتقال إلى اقتصاد انتاجى حديث لا يصنع البضائع الاستهلاكية فقط وإنما أيضا التصنيع العالى المنتج للآلات والتجهيزات التى بدورها تنتج البضائع الاستهلاكية الضرورية، والذى بدوره يحتاج إلى مراكز بحثية كبيرة متخصصة ومتناغمة فى إجراء البحوث العلمية والتكنولوجية التى تغنى عن الاعتماد على الخارج والاستمرار فى تمثيلية شراء العلم والتكنولوجيا من الخارج واستيراد القوى العاملة الفنية من الخارج أيضا... هل يستطيع أى قطر عربى أن يقوم بكل ذلك لوحده؟ أليس لنا فى السوق الأوروبية المشتركة مثالا يحتذى من قبل العرب؟
هنا أيضا، من هم الواهمون الخياليون الأطفال ومن هم العاقلون الذين يدرسون الواقع ويقترحون الحلول العربية الذاتية وليس الحلول المعتمدة على موائد الخارج غير الموثوقة من جهة وغير المضمونة فى الاستمرار من جهة أخرى؟
أوردنا المثلين، وهناك العشرات من الأمثلة الأخرى، لنقول لنا جميعا: دعنا من المماحكات والعنتريات السياسية العبثية ولنمارس النقاش الهادئ الرّصين، خصوصا بعد أن ساهمت تلك المماحكات فيما بين المثقفين فى خلق أجواء توترية وتلاسنات حقيرة مفرقة فى شبكات التواصل الاجتماعية العربية، وهو ما تريده وتخطط له دوما دوائر الاستخبارات الاستعمارية والصهيونية.
678 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع