الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
شادية.. ثلاثة عقود بين " قل ادعو الله" و "خذ بإيدي"
على الرغم من التطور العلمي والتقني الكبير الذي شهدته البشرية، إلا أن من سمات العصر الذي نعيشه: الاضطرابات المستمرة وعدم الاستقرار في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والصحية، مما يتسبب بقلق ثقيل مستمر على كاهل الإنسان واضطرابات نفسية تترك ضلالها الثقيلة على بني البشر. وفي مثل هذه الظروف لا يجد الإنسان ملجأ يلجأ إليه سوى خالقه العظيم الرحمن الرحيم.
من الأمور الجميلة التي كان يزهو بها الزمن الجميل: الأغاني الدينية التي تميَّز بها القرن العشرين ببزوغ العديد من الأغاني الدينية الجميلة والرائعة والتي لا تزال منقوشة في ضمائرنا، مثل أغاني أم كلثوم وشادية ونجاة الصغيرة وياسمين الخيام وآخرون.
قصيدة "قل أدعو الله":
"قل أدعو الله" قصيدة قصيرة، قليلة الكلمات ولكنها تحمل في طياتها معاني عميقة تلامس الوجدان، وهي تدعو المتضررين إلى الاعتصام بالله تعالى والتوجه إليه وهو القادر على تحويل الأحوال الصعبة إلى أحسن حال.
وضع كلمات هذه القصيدة زكى باشا الطويل (1897-1961) وهو من باشوات مصر وحاصل على الدكتوراه في الهندسة المعمارية من إنكلترا وتربطه علاقة وثيقة بسعد زغلول، وصاغ ألحانها نجله الموسيقار كمال الطويل (1923-2003)، وقد غنتها شادية في فيلم "ظلموني الناس" عام 1953. ولزكي الطويل ونجله كمال الطويل عدد من روائع القصائد الدينية المغناة مثل "إلهي ليس لي إلاكَ عَونا.. فكن عَوني على هذا الزمانِ" التي غنتها نجاة الصغيرة.
قصة الأغنية:
في فترة شبابه، وقبل احترافه التلحين عام 1952، كان كمال الطويل صديقا لعبد الحليم حافظ. سأله حليم ذات يوم: لماذا لا تُلحن؟ فاستحسن الطويل الفكرة وراح يبحث في أشعار والده عن قصيدة يبدأ بها مشوار التلحين، فاختار قصيدة (إلهى ليس لي إلاكَ عَونا)، وعندما استمع حليم إلى اللحن أعجب به واتفقا على اختيار زميلتهما فايدة كامل لغناء القصيدة. ونجحت الأغنية مما دفع كمال الطويل إلى التفتيش عن قصيدة أخرى لوالده الذي كان لا يزال حيا. وفعلا وجد قصيدة أعجبته كثيرا ومطلعها:
قل ادعو اللهَ إن يمسسكَ ضُرُ ... ووجِّه ناظريكَ إلى السماءِ
فــعــنـد الله إن تســــأله أجــر ... وعند الله موفور الرجـــاءِ
فقام بتلحينها وغنتها شادية في فيلم (اشهدوا يا ناس) من إخراج حسن الصيفي سنة ١٩٥٣، وكانت شادية واحدة من أبطال الفيلم وفي بداية مشوارها الفني وعمرها 22 سنة، وشاء الله أن تختتم شادية حياتها الفنية بأغنية دينية أخرى بعد 31 سنة، عام 1984.
https://www.youtube.com/watch?v=-YGpc5rkZmM
وشادية، واسمها الحقيقي فاطمة أحمد كمال (1931-2017)، فنانة متعددة المواهب في الغناء والتمثيل السينمائي والمسرحي وأصبحت نجمة شباك رقم 1 مما جعل المخرجين يتهافتون عليها. قدَّمت خلال مشوارها الفني 117 فيلما سينمائيا، و10 مسلسلات إذاعية، ومسرحية واحدة، وأكثر من 1500 بين الأغاني الخفيفة والأغاني الوطنية، ولُقبت بلقب "بنت مصر".
أغنية " خذ بإيدي":
أغنية " خذ بإيدي" هي آخر أغنية غنتها شادية قبيل الاعتزال، وذلك سنة 1986 وعمرها 55 سنة، وهي من روائع الأغاني الدينية وتضم في طياتها قصة جميلة.
القصة الأكثر غموضا في مسيرة شادية تتعلق بقرارها الاعتزال وهي في أوج شهرتها، وبينما كانت بمسرحيتها الوحيدة "ريا وسكينة" تحقق إيرادات تفوق كل منافسيها، وهو الاعتزال الذي يربطه كثيرون بأغنية " خذ بإيدي".
ذكر الصحافي سامي كمال الدين في كتابه "سيرة شادية معبودة الجماهير"، تفاصيل قرار الاعتزال، والذي اتخذته عام 1986 بعد أزمة صحية قاسية، ومنه أن شادية (أعلنت أنها ستغني أغنية وطنية). والراجح أن الشيخ محمد متولي الشعراوي (1911-1998) كان وراء اعتزالها وهو الذي طلب منها ألا تذهب لحضور التكريم الذي أعده لها مهرجان القاهرة السينمائي، قائلا لها "لا تعكري الماء الصافي".
وفي لقاء أجراه الصحافي المصري محمد تبارك مع الشيخ الراحل الشعراوي عن شادية، قال الشيخ: إنه التقى بها أمام مصعد إحدى البنايات ولم يعرفها، فقالت له: أنا شادية، فرحب بها. فقال له الصحافي: إنها اعتزلت الغناء بعد هذا اللقاء، فقال الشعراوي: "هذا يدل على أنها وجدت ارتقاء أسمى مما كانت فيه، وأن هناك نشوة ثانية أفضل من النشوة التي كانت تعيشها من قبل".
قصة الأغنية:
كان آخر ظهور لـشادية على المسرح سنة 1986 من خلال اشتراكها في "الليلة المحمدية" (المولد النبوي الشريف)، حيث غنَّت الأغنية الدينية "خذ بإيدي"، والتي كانت تناجي فيها الرسول الكريم "عليه الصلاة والسلام" طالبة منه أن يأخذ بيدها إلى طريق النجاة.
وحين وقفت شادية تناجى الله في الاحتفال مستعينة برسوله الكريم، تشدو بأغنيتها "خذ بإيدي"، لم تدرك حينها أن وقفتها تلك ستكون الأخيرة قبل أن تعلن اعتزال مسيرتها الفنية، بل لم يكن يخطر ببالها آنذاك أنها ستلاقى بارئها في "الليلة المحمدية"، وهى ذات الليلة التي اعتزلت فيها الغناء، حيث وارى جسدها الثرى في 29/11/2017 في ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف.
تخفي كواليس "خد بإدي" الكثير من الأسرار التي أفضت في النهاية إلى اعتزال شادية في قِمة مجدها الفني، ولا يمكن فصل "مسك الختام" هذا عن مسيرة شادية التي أمضت فيها أربعون عاما في "محراب الفن". ففي الخمسينات نجحت شادية في رسم أيقونة لقبها الذي لازمها "الدلوعة" من خلال مجموعة من الأغنيات المرحة التي تجمع بين الرومانسية وخفة الظل في آن واحد، وخلال فترة الستينات اتجهت شادية إلى الموروث الشعبي العاطفي الذي يعزف على أوتار "الغربة والفراق". وشهدت حقبة السبعينات تغيرًا كبيرًا في مسيرة شادية الغنائية، فمطربة الأغاني المرحة التي لم تكن تزيد أغانيها عن الخمس دقائق، دخلت إلى عالم الأغنية الرومانسية الطويلة، بأغاني مثل (أتعودت عليك، الحب الحقيقي، لو القلوب ارتاحت). ومع بزوغ الثمانينيات كرَّست شادية إنتاجها الغنائي للأغنية الوطنية، فخرجت إلى النور روائع وطنية نالت شادية على وقعها لقبها الأثير لديها "صوت مصر". آخر تلك الأغاني "أدخلوها آمنين" وهى عبارة مقتبسة من القرآن الكريم، دفعت شادية للتفكير بجدية إلى الاتجاه إلى "الأغنية الدينية"، وبالفعل قامت بتسجيل أغنية "اللهم ارحم دُعايا".
رأت شادية في ذلك اللون الغنائي بابا لم يُفتح لها من قبل، وبدأت بعرض الفكرة على الشعراء والملحنين. ذهبت شادية لأداء مناسك الحج عام 1985، وفى المدينة المنورة كان لقاؤها بالشاعرة الدينية عليَّة الجعار، وهي الابنة المدللة لمداح الرسول الشهير محمد الكحلاوى (1912-1982)، حينها تحدثت شادية وعليَّة الجعار على هذا المشروع الغنائي، وضرورة انجازه.
وبين أروقة دار الإذاعة بالقاهرة، حيث كانت تعمل عليَّة الجعار، كانت فكرة إطلاق "الليلة المحمدية" على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. وكانت الجعار قد انتهت لتوها من كلمات الأغنية الدينية "خد بإدي"، وأرسلتها إلى شادية، وإلى الإذاعي علي عيسى الذي عرضها على الملحن الشاب عبد المنعم البارودي، فوجدت شادية في لحنه ما كانت تصبو إليه.
وفي ليلة الثالث عشر من نوفمبر عام 1986، كان مسرح الجمهورية قد استعد تماما لانطلاق "الليلة المحمدية الأولى"، حيث تَقدَّم الحضور الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة الأسبق، وبدأ الحفل بأغنيات دينية قدمها محمد ثروت وسوزان عطية ومحمد قنديل.
ثم جاء دور شادية، فوقفت بثوبها الأبيض الأنيق، تتوسط فرقة النيل الموسيقية بقيادة الموسيقار عبد العظيم حليم، الذي تولى من قبل توزيع قصيدة "الثلاثية المقدسة" لكوكب الشرق أم كلثوم. وقفت شادية تشدو بكلمات تفيض بمناجاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) للوصول إلى مرحلة الندم والخلاص من الذنوب، والانتقال إلى مرحلة جديدة يسمو فيها الحب لله ولرسوله على كل حب.
بدأت تلك المناجاة بقولها "جه حبيبي..وخد بإيدى..قلتله: أمرك يا سيدي.."، واستطاع الملحن أن يستغل الكلمات لينتقل عبر ألحانه وصوت شادية إلى آفاق رحبة من النورانية والروحانية التي تنبعث عبر موسيقاه، وقد أجاد أيما إجادة في استخدام الكورال والآلات الموسيقية المتعددة.
لقد تعانقت الكلمات والألحان مع صوت شادية في مناجاة حقيقية لطلب التوبة والتماس الغفران، وسالت دموع شادية أكثر من مرة، على وقع التصفيق الحار مع كل مرة يستقبل فيه الجمهور كوبليه جديد من الأغنية، حتى وصلت مدة الأغنية إلى 39 دقيقة، وهى أطول من أي مدة قضتها شادية من قبل في أغانيها العاطفية أو الوطنية.
لقد أدت شادية الأغنية بدموعها وبكل طاقتها وحواسها، وفى كل مرة يطلب الجمهور إعادة كل كوبليه, وقد أعادت الكوبليه الأخير لثلاث مرات، وتقول كلماته: "آدي حالي..وآدي حال المؤمنين..اللي آمنوا بالنبي الهادي الأمين..اللي كان رحمة لكل العالمين..يا نبينا يا ختام المرسلين..خد بإدي".
وبعد إسدال الستار انفجرت شادية في البكاء، وعزمت أن تكرس صوتها للأغاني الدينية فقط. وقد تم تصنيف تلك الأغنية باعتبارها "أغنية العام"، واختيرت شادية كأفضل مطربة لعام 1986.
وحين سجل الإعلامي (إمام عمر) مع شادية تمنياتها لعام 1987، أعربت عن أملها بأن تخصص جهدها للأغنية الدينية، ولكن بعد ثلاثة أيام من هذا الحوار الإذاعي، وبينما كان (إمام عمر) يستعد لإذاعة حواره مع شادية على أثير الإذاعة، جاءته مكالمة منها، تطلب منه عدم إذاعة الحوار، فقد قررت شادية الاعتزال بشكل كامل.
https://www.youtube.com/watch?v=2Rxr9tACb5g
1256 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع