خالد القشطيني
أيام نوري السعيد
مما يجهله الكثيرون، أن نوري السعيد، رحمه الله، تميز من بين كل من تولوا رئاسة الحكومة العراقية في الثلاثينات بتعلقه الشديد بالتراث العراقي، وكل ما هو بغدادي وعراقي أصيل. أحب الأكلات البغدادية من الدولمة إلى الشيخ محشي والتشريب والباجة. وطبعاً لا ننسى التمن والباميا بالثوم. وفي إطار ذلك أحب الموسيقى والأغاني العراقية. كلا لم ترهف أذناه قط لأغاني محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وفريد الأطرش التي شاعت عندئذ في سائر العالم العربي وتعلق بها الجيل الجديد من الشباب العراقي.
وهكذا اعتاد في ساعات راحته على فتح الراديو والاستماع إلى الإذاعة العراقية وما تقدمه من أغانٍ وحفلات لنجوم الطرب العراقي، كزهور حسين، وعفيفة إسكندر، وسليمة مراد، ومحمد القبانجي، والمونولوجست عزيز علي ونحوهم ممن اشتهروا في تلك الأيام الخوالي، التي كان المطربون يغنون خلالها ما يحلو لهم وبحريتهم.
دأب نوري السعيد بصورة خاصة على فتح الراديو حالما يستفيق صباحاً لسماع نشرة الأخبار الأولى.
وبعد أن يطمئن أن كل شيء على ما كان عليه، يجلس لتناول فطوره وهو يستمع إلى أغاني الصباح.
كان مدير الإذاعة عندئذ محسن محمد علي، وكانت قراءة الأخبار محصورة بين الدروبي والسيد موحان طاغي، ابن الشيخ طاغي الطي رئيس عشيرة الأزيرج الشهيرة في جنوب العراق. انتهى السيد موحان من قراءة نشرة الأخبار الصباحية، ثم مضى ليقدم مجموعة من الأغاني الصباحية. لسوء الحظ كانت الأغنية الأولى أسطوانة عبد الوهاب المعروفة «جبل التوباد حياك الحيا، وسقى الله ثراك ورعى». لا ندري ما إذا كانت الأغنية من اختياره شخصياً أو مما وقع من الأسطوانات بيد الزملاء العاملين في الإذاعة والمسؤولين عن البرنامج. لكن مهما كان الحال، فما حدث هو أن نوري السعيد كان على الطرف الآخر يستمع مع ألوف المستمعين إلى الإذاعة الصباحية. ما أن سمع المقطع الأول من تلك الأغنية حتى تملكه الغضب؛ فهرع إلى التليفون وأدار الرقم على دار الإذاعة، وطلب الكلام مع مديرها.
لكن الوقت كان مبكراً والمدير ربما كان غارقاً في النوم في بيته. لم يكن مسؤولاً عن الحكم أو الحكومة لينهض مبكراً كما كان يفعل صاحب المسؤولية، رئيس الوزراء. فاضطر نوري السعيد إلى أن يسأل عن المذيع. منو هذا الذي كان يذيع. قالوا: موحان ابن الشيخ طاغي. قال: نادوا عليه لأكلمه. قولوا له: رئيس الوزراء يريد يكلمك. أسرع السيد موحان للتليفون. ما الذي فعله ليجعل نوري السعيد الجبار يطلب مخاطبته في هذا الوقت الباكر؟
جاءه صوت الباشا يدهدر: وين ذوقكم؟ الناس بعدهم نايمين وانتو تعزفون جبل التوباد. يا ابني موحان، خلونا نسمع شيء يفرحنا من الأغاني العراقية. لم يعد بيد المذيع غير أن يعتذر. كذا كان نوري السعيد يراقب الصغيرة والكبيرة. لكن لسوء طالعه أخطأ في إحدى الكبائر عندما حل البرلمان وأثار بذلك الرأي العام وقادة الجيش فانقلبوا عليه عام 1958 وأسقطوه. رحمه الله.
1011 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع