ملاحظات حول البحث العلمي التاريخي والدراسات العليا*

                                                     

                         ا.د. ابراهيم خليل العلاف
           استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل

   

ملاحظات حول البحث العلمي التاريخي والدراسات العليا*

اولا أقدم شكري وتقديري لعمادة كلية التربية للعلوم الانسانية – جامعة الموصل ولرئاسة قسم التاريخ على دعوتها الكريمة لي لإلقاء هذه المحاضرة عن البحث العلمي التاريخي والدراسات العليا واتمنى للقسم وللكلية كل توفيق وتقدم .

وعندما اتصل بي تلميذي واخي الدكتور احمد صالح العبوش رئيس قسم التاريخ طلب مني ان احدد عنوانا لمحاضرة القيها على طلبة الدراسات العليا فاخترت ان تكون عن البحث العلمي والدراسات العليا من خلال تجربتي التي تمتد لأكثر من نصف قرن واقول – متوكلا على الله – انني شغفت بالبحث العلمي وبالتاريخ منذ ان كنت تلميذا صغيرا في مدرسة ابي تمام الابتدائية في محلة عبدو خوب بمدينة الموصل في الخمسينات والفضل في ذلك لمعلمي في تلك المدرسة المرحوم الاستاذ محمد اسماعيل مصطفى السماك والحمد لله كتبت عنه مقالا وقدمت عنه حلقة من برنامجي التلفزيوني (موصليات) والذي اقدمه من على قناة ( الموصلية) الفضائية . كان يكلفني باستنساخ بعض الموضوعات التاريخية مما يختاره من الكتب والمجلات ومن الطريف انني مررت وانا طالب في الاعدادية الشرقية للبنين بتجربة مماثلة مع استاذي المرحوم الاستاذ الدكتور عمر الطالب الذي كان يكلفني بأن استنسخ له قصصه التي كان ينشرها في الصحف والمجلات وهكذا وجدتني احب التاريخ واحب الادب ثم كانت لي تجربة مع فلسفة التاريخ حينما كنت طالبا في قسم الشرف بكلية التربية 1964-1968 عندما درسني استاذي المرحوم الاستاذ الدكتور زكي صالح مادة كان يسميها هو ( أصول التاريخ ) وهكذا تولدت عني رغبة في ان ادرس التاريخ واكتب عنه بأن له طبيعية ثلاثية فهو علم وادب وفلسفة وهكذا كما تروني لا اهتم فقط بالتاريخ الحديث وانما اهتم بالأدب والفلسفة وارى ان التاريخ علم لأنه ينتهج المنهج العلمي وادب لأنه يقدم بضاعته بلغة واسلوب جميل ولأنه فلسفة لأنه يحلل ويفسر الاحداث ويستخرج منها السنن والقوانين والاحكام .
واعود ايضا لأقول لكم انني وانا اتخصص بالتاريخ كان علي ايضا ان اهتم بما يسمونه العلوم الموصلة او العلوم المساعدة فالمؤرخ يحتاج الى علوم كثيرة حين يكتب التاريخ او حتى حين يقرأ التاريخ فهو بحاجة الى الاقتصاد والجغرافية وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والاحصاء وعلم النفس والانثروبولوجيا والان الى الكمبيوتر .
مسألة اخرى اريد ان اقولها لكم ان المؤرخ يحتاج الى ان يكون متمكنا من لغته القومية ومتمكنا من واحدة من اللغات الاجنبية والان اللغة الانكليزية هي اللغة العالمية التي يجب ان يعرفها المؤرخ فثمة مصادر كثيرة مكتوبة بهذه اللغة ولابد من العودة اليها .
نقطة مهمة اريد ان اؤكدها انني درست مادة منهج البحث العلمي ولكن استفادتي الحقيقية كانت من خلال استاذي المرحوم الاستاذ الدكتور عبد الله الفياض صاحب كتاب (الثورة العراقية الكبرى ) فالرجل درسنا سنة 1967 مادة تاريخ العراق المعاصر ولكن من خلال كتابه هذا وهو بالأصل رسالة ماجستير قدمها الى الجامعة الأميركية ببيروت وهو من افضل الكتب عن ثورة العشرين .درسنا عدد قليل من الصفحات لكنه ركز على ان يعلمنا اصول البحث العلمي او ما يسمى الميثودولوجيا أي المنهجية العلمية التاريخية ابتداء من اختيار الموضوع وتهيئة المصادر والمراجع الى وضع خطة البحث الاولية الى تفكيك المعلومات الى اعادة بناء وتركيب المعلومات والاحداث من جديد وفق الخطة النهاية ومن ثم عرض الموضوع بلغة سليمة مع مراعاة التهميش والتنصيص والاستنتاج والخلاصة .
وهكذا ما ان اكملنا دراسة ما تتطلبه منا شهادة البكالوريوس حتى بدأ نضع اقدامنا على درجات الصعود نحو الحصول على شهادة الماجستير ومن ثم شهادة الدكتوراه وقد تطلب منا ذلك وقتا وجهدا وخسارة مادية .
الذي اريد ان اقوله ان الجيل الاول من ممثلي المدرسة التاريخية العراقية تخرجوا من جامعات اوربية وامريكية .لم تكن في العراق كليات تعطي شهادات عليا لذلك اعتمدت الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها سنة 1921 اسلوب ارسال الطلبة في بعثات واول بعثة عراقية كما ذكرت ذلك في كتابي ( تطور التعليم الوطني في العراق) كانت في السنة 1921 -1922 . وتألفت اول بعثة من عشرة مرشحين شباط 1922 وبعد سنوات ارتفع العدد الى (93) طالبا سنة 1928-1929 وقد عاد الفوج الاول من طلبة البعثات سنة 1926 فاحتوتهم دار المعلمين والمدارس الثانوية .
في ما يتعلق بالدراسات العليا في مجال التاريخ اقول انه وبعد ان تأسست جامعة بغداد بعد صدور قانون جامعة بغداد في ايلول سنة 1956 وتنفيذه بعد سنة وتعيين الدكتور متي عقراوي اول رئيس لجامعة بغداد 1957 -1958 ظهرت فكرة فتح دراسة الماجستير وانشاء قسم للدراسات العليا حين تداول مجلس جامعة بغداد بجلسته الثالثة عشرة المنعقدة بتاريخ 18 ايار – مايس سنة 1959 امكانية فتح المجال في بعض اقسام الكليات للدراسات العليا وخاصة الماجستير ووضعت لائحة منح درجة الماجستير في الآداب اقرها مجلس جامعة بغداد بتاريخ 13 نيسان 1960 وكان التاريخ واحدة من الاقسام حيث بدأ القبول والتسجيل لمرحة الدراسات العليا في جامعة بغداد في العام الدراسي 1960-1961 في التاريخ – الزراعة – الطب – الكيمياء – الهندسة المدنية فقط .كما حصلت الموافقة على تأسيس معهد عال بجامعة بغداد باسم معهد الدراسات الاسلامية العليا وباشر اعماله في منح شهادة الماجستير في العام الدراسي 1962-1963 وطبعا كانت هناك دائرة للدراسات العليا في جامعة بغداد هي من كانت تدير الدراسات العليا .
في دراسات التاريخ العليا تم التركيز في جامعة بغداد على التاريخ الاسلامي واول دورة في دراسات التاريخ الحديث كانت في اوائل السبعينات واول من نوقشت رسالته في التاريخ الحديث كان هو الاستاذ الدكتور محمد مظفر الادهمي وكان عنوان رسالته (المجلس التأسيسي العراقي ) سنة 1972 بأشراف استاذي المرحوم الاستاذ الدكتور فاضل حسين وكنت انا اشتغل على رسالتي الموسومة ( ولاية الموصل :دراسة في تطوراتها السياسية 1908-1922) بإشراف استاذي المرحوم الاستاذ الدكتور عبد القادر احمد اليوسف وناقشها سنة 1975 .
الذي يهمني ان اذكره لكم ان الدراسات العليا في جامعة الموصل في التاريخ ابتدأت ايضا بالماجستير التاريخ الاسلامي مع اول العام الدراسي 1977-1978 والدكتوراه مع اول العام الدراسي 1986-1987 اما الماجستير في التاريخ الحديث فابتدأت الدراسات فيه اول العام 1985-1986 وكان لي شرف الاشراف على اول رسالة للماجستير في التاريخ الحديث وكانت بعنوان (دور العراق والاردن في السياسة العربية 1941-1958) للدكتورة خالدة ابلال صالح ونوقشت في 2-1-1988 وكان من ناقشها ثلاثة زملاء اعزاء لي هم الاستاذ الدكتور عماد احمد الجواهري رئيس اللجنة والاستاذ الدكتور جعفر عباس حميدي والاستاذ الدكتور خليل علي مراد امد الله بأعمارهم ومتعهم بالعافية والبركة .
بنينا أُسس الدراسات التاريخية العليا في جامعة الموصل على قاعدة الدوائر ، وهي ان نبدأ من الموصل والعراق والدول العربية والدول المجاورة ثم العالم وافقيا وعموديا باتجاه التاريخ السياسي والتاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي والتاريخ الثقافي والتأكيد على علاقات العراق الخارجية ودوره العربي والاقليمي والدولي والتركيز على ما افرزته الحضارة العراقية والعربية والاسلامية من ابداعات ومنجزات افادت الانسانية .
ان ما اريد ان اقوله ان البحث العلمي وخطواته بني على اسس علمية صحيحة متدرجة كما بنيت الدراسات العليا وخطواتها على اسس علمية صحيحة وانا وكل انسان مخلص وشريف يريد ان يظل البحث العلمي وتظل الدراسات العليا في العراق على اسس علمية صحيحة وان تظل الجامعات العراقية ومنها طبعا جامعة الموصل تذكر بالرصانة والعلمية . لذلك انا احرص على ان ينتهج الاساتذة الكرام المنهج العلمي التاريخي بكل دقة وهذا لا يكون الا بالعديد من الخطوات واهمها اختيار الطالب المجتهد المواظب المستعد لحمل رسالة العلم .
العلم رسالة ومن يحمل رسالة لا يفكر بالمال ولا يفكر بالمناصب ولا يفكر بالجاه وانما يحمل رسالة وهي تنويرية دوما فانا لا أتخيل استاذا رجعيا متخلفا وانما ارى ان يكون الاستاذ تقدميا متنورا .
هذه نقطة مهمة والنقطة الاخرى تتعلق بالطالب ايضا وهي ان على الطالب ان يقرأ ويقرأ كثيرا يقرأ في كتب التاريخ والفلسفة والاقتصاد والاجتماع والسياسة وعليه ان يتقن او يتعلم لغة اجنبية واحدة على الاقل وان لايضيع وقته في امور لا تفيده بل يضع لنفسه برنامجا محددا وطريقا يسير عليه وقدوة يفيد منها ويتعلم .
في الجمعات وفي كل الدنيا لدينا ارقاما كثر ورموزا قلة وعليك ايها الطالب ايتها الطالب ان تختار وان تختاري .
وعلى الطالب ان لا يكتب في موضوع لا يحبه ولايستسيغه بل عليه عندما يختار ان يختار موضوعا يفتخر به ويتباهى طول العمر ان يقدم فيه جديدا وان يقدم فيه اصيلا وان يقدم فيه شيئا مبتكرا لا أن يكرر عمل غيره ويجتر موضوعا اكل الدهر عليه وشرب .
وعلى الاستاذ المشرف ان يبدأ مع طالبه درسا في اصول البحث وان يعطي الطالب عددا من المصادر والمراجع التي تعينه وان يضع الطالب في صورة موضوعة وباختصار على الاستاذ المشرف ان يقرأ اكثر من تلميذه حول الموضوع حتى يخرج وتلميذه بنتائج مشرفة لهما وللقسم الذي ينتميان اليه .
الطالب في الماجستير حين يختار موضوعا عليه ان يفكر في ان يكمله في دراسة الدكتوراه فهذا مما يسهل عليه استخدام المصادر والمراجع فضلا عن انه سيكون متخصصا بهذا الموضوع عالما ومحيطا بأسراره .
والطالب في الدكتوراه يجب ان يختار موضوعا بكرا اصيلا لم يسبق لاحد ان درسه فهذا ما يجعله يفخر بموضوعه فضلا عن انه سوف يضيف الى عالم المعرفة التاريخية عملا بكرا اصيلا .
خطوات البحث العلمية واسلوب التهميش والتنصيص وعلامات الترقيم والتداخل على النص وعرض الروايات وايراد اسماء المؤلفين وعناوين الكتب ودار النشر والمطبعة لها اسس علمية معروفة وليس من حق الطالب الاجتهاد فيها وانما يجب عليه ان يحفظها ويعمل بها بكل حرفية فهي ادواته ادوات حرفته ومن اسرار حرفته ويجب المحافظة عليها وتطبيقها بحذافيرها .
واخيرا هناك تعليمات رسمية تخص الدراسات العليا واساليب الكتابة وطبع الرسالة او الاطروحة لابد للأستاذ قبل الطالب الاطلاع عليها وتنفيذها .المهم الرسالة او الاطروحة لابد ان تضيف جديدا الى المعرفة في الدكتوراه تضيف شيئا جديدا مبتكرا واصيلا وهذا ايضا ينطبق على البحوث التي يقدمها الاستاذ للترقية العلمية وخاصة للأستاذية .
الطالب في الدراسات العليا هو مشروع باحث مشروع استاذ مشروع عالم يشرف عليه استاذ ليصل الى مرحلة يباشر هو بنفسه البحث بدون مشرف والبحث العلمي والدراسات العليا هي من ضمن العمل البحثي الذي يستهدف تهيئة الباحثين والعلماء الذين يعملون على تحصيل المعرفة بواسطة البحث والتتبع المستقل كما يقومون بحفظ هذه المعرفة وتطويرها وديمومة استمراريتها .
*نص المحاضرة التي القيتها صباح يوم الاربعاء 9-12-2020 في قسم التاريخ بكلية التربية للعلوم الانسانية – جامعة الموصل وحضرها رئيس واساتذة القسم وطلبة الدراسات العليا .

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1351 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك