جيهان أبوزيد
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء».
المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك، وهو يعلن عن إقامة سد كبير يحمى قرى مصر من الغرق إثر الفيضان السنوي, ويتحكم في تدفق المياه ويستخدمها في توليد الكهرباء، وحدث أن انتهى العمل في «السد العالي» عام 1970 ومن ورائه تكونت بحيرة «ناصر».
المشهد الثالث: كان عندما مالت الممرضة على أذن الشاب المرتبك ثم ناولته اللفافة الصغيرة فقبض عليها وازداد صمتا, بعد ساعة عاد بعيون دامعة ونظر إلى زوجته الراقدة وانفجر كلاهما في البكاء, لم يقطع بكاءهما سوى الصوت الصاخب الحنون للممرضة، وهي تنهرهما:(ده أمر ربنا يا جماعة, أنت مش رميته في النيل... يبقى ربنا حيعوضكم عن قريب إن شاء الله. ثم نظرت إلى الزوج سائلة: متأكد أنه وقع في وسط النيل زى ما قلت لك؟»
رد الشاب ببراءة «آه والله, وقفت على كوبري قصر النيل ورميته وشفته بيغطس لتحت». عَلمتُ من الممرضة المخضرمة أن ماء النيل يحتضن الأجنة التي لم تكتمل, يحميها من نهم الأسماك ويظل يحرسها, ثم يبعثها إلى الزرع الأخضر الساكن ضفافه السوداء, لم أسألها من أين جاءت بمعتقدها؟ كنت أعرف أن الفراعنة أجدادي قدسوا مياه النيل الذي وهبهم الحياة فوهبوه الخلود. كان النيل عضوا من أعضاء الوطن, له عيد يحتفل به, وله قربان يقدم ليرضى ويغدق عليهم من فيضه السنوي, أقام الفراعنة السدود وجلبوا المهندسين وحافظوا عليه من الأعداء ومن شيخوخة السنين.
نيل مصر يحمل مزيجا من بحيرتين, الأولى «بحيرة فكتوريا» التي تقع على حدود ثلاث دول هي أوغندا وتنزانيا وكينيا, والثانية هي بحيرة «تانا» الكائنة في إثيوبيا. الدول التي تنبع منها البحيرات والأنهار المغذية للنيل تسمى دول المنبع, والدول التي يمر بها النيل تسمى دول مصب وهي مصر والسودان. وقبل عامين وفي مايو 2011 وقعت خمس دول من دول المنبع وهي: «إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا»، على اتفاقية تسمى «اتفاقية عنتيبي» وبموجب تلك الاتفاقية الجديدة تنتهي الحصص التاريخية لمصر التي يصب فيها سنويا «55.5 مليار متر مكعب, والسودان التي يصلها 18.5 مليار متر، وفقا لاتفاقيات 1929 و1959 .
وعوضا عن تلك الكميات نص الاتفاق الذي وقع في مدينة عنتيبي الأوغندية على الاستخدام «المنصف والمعقول» للدول. وفي ظل اضطراب أوضاع الداخل المصري خرجت الصحف الإثيوبية الشهر الماضي لتعلن عن بدء العمل فيما يسمى مشروع «سد الألفية الكبير» أو «سد النهضة» لإنتاج الطاقة الكهرومائية. وبرغم أن مخطط بناء سد النهضة يعود إلى خمسين عاما مضت, لكن إثيوبيا لم تنجح في تنفيذه على مدار العقود الماضية لأسباب عدة من أهمها علاقتها القوية بمصر آنذاك حيث تمكن «عبدالناصر»من بناء علاقة سياسية مميزة استندت إلى التاريخ الديني المتميز بين البلدين. وفي عهد السادات، بدأ ملف المياه يدخل دائرة التوترات بين مصر وإثيوبيا بعد إعلان السادات في 1979 عن مشروع لتحويل جزء من مياه النيل لري 35 ألف فدان في سيناء، فتقدمت إثيوبيا بشكوى إلى منظمة الوحدة الإفريقية تتهم فيها مصر بإساءة استخدام مياه النيل.
ثم أدت محاولة اغتيال مبارك إلى تدهور العلاقات بين البلدين، واتهام الرئيس السابق حسني مبارك بأنه كان يتعامل مع ملف المياه بطريقة أمنية بدليل تسليمه إلى رئيس جهاز المخابرات عمر سليمان الذي لم يظهر الاحترام الكاف للجارة الإثيوبية.
وفي مايو 2011، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي أنه وافق على تشكيل لجنة ثلاثية للتأكد من أن سد النهضة لا يؤثر على حصة مصر في مياه النيل، واعدا بتغيير التصميم إذا ثبت تأثيره السلبي على مصر، على أنه ورغم تلك التعهدات فإن إثيوبيا لم تنتظر نتائج أعمال اللجنة المكونة من ممثلي مصر والسودان وإثيوبيا, وأعلنت عن تحويل مجرى النيل الأزرق, والشروع في بناء «سد النهضة» الذي سيرفع طاقتها من الكهرباء.
1179 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع