ابراهيم الولي*
عن الجيوبولتك GEOPOLITICS
تعريف :
الجيوبولتك نظرية و علم ، هي كالسهل الممتنع في فهمها ، ظاهرها واضح لا يخرج عن كونه سياسة الجغرافية و ليس الجغرافية السياسية ، و باطنه مركب مختلف عليه في تطبيقاته و توصيفه ، ذلك ان الجغرافية السياسية انما هي علم الارض بما فيها من تضاريس و مياه وحدود و موقع و ما عليها من الاحياء ، بشرا و حيوان و نبات ، هي تضع معطياتها بتصرف الدولة التي تستفيد منها في التخطيط لتوفير احتياجاتها الستراتيجية في الحر ب و السلم علي السواء اي ان الاخير يقوم علي دراسة و تطبيق تاثير الجغرافية على السياسة و على العلاقات الدولية .
عناصر الجيوبولتك :
يكون تركيز الحيوبولتك على العناصر التي تتوفر للدولة و التي ترسم امكاناتها و هي ،المساحة الكلية
و تضاريس الارض من جبال و وديان و سهول و انهار و بحيرات وحدود دولية ، و نوعية و علاقتها بالدول المجاورة لها ، ومناخ البلد و موقعه من المدارات بل و حتى من القطبين الشمالي و الجنوبي ، و إطلالة على البحار او المحيطات ، و عن مصادر الطاقة من معادن و نفط و غاز ، و ليس هذا حسب ، بل ان الجيوبولتك ينظر الى السكان ، تعدادهم و تصنيفهم و نسبة عديدهم الى رقعة الارض ، فضلاً عن الاديان و الملل و النحل و المذاهب و الاعراق و المستوى الثقافي و المعرفي في البلاد المستهدفة ، و عن المد البدوي و القبلي في الحياة المدنية للدولة ، و عناصر اخري ، ما يلفت انتباهي الى الاهم منها ، فذلك هو تاريخ الدولة ، ذلك لان التاريخ يسقط على الدول قيم نفسية تحملها على التطلع الى استعادة ما يوازي ارثها ، و هاكم الجارتين ،ايران و تركيا كدراسة حالة و مثال ، هما تسعيان الى إحياء امبراطوريات ملات الدنيا و شغلت الناس بل و ارهقتهم ازمان طويلة ولّت . هؤلاء الجيران ، كغيرهما ، يرون في التمدد خارج حدودهما مسألة امن قومي و خطوط دفاع تبعد عنهما الاذي حتى إن ادى ذلك الى نشوب حروب تدار بالوكالة عبر و كلائها في الدولة الضحية . من هذا المثل و غيره في مناطق اخرى من العالم ، نرى من التعسف باسقاط الجيوبولتك على آخرين لا ذنب لهم ،مما يدفع الباحثين ، وانا منهم ، لأن يعتبروا هذا العلم مظهرا و وجها من انماط الاستعمار و الامبريالية إذ يصبح عنصرا في لعبة الامم ، و انما تطبق معاييره بدبلوماسية صلبة او ناعمة احيانا ، كتلك التي تؤل الى اضطراب بوصلة تلك الدول في وجه تحقيق السلم الاهلي ، فضلا عن التنمية الاقتصادية و الاجتماعية فيها .
يقودني ذلك الى الدبلوماسية الناعمة في تطبيقات الجيوبولتك ، فهذه تفترض ان الحدود بين الدول ، وليس جميعها ، هي خطوط شفافة يمكن عبورها بذرائع سلمية او عسكرية إن لزم الامر ، بنقل الثقافة و ادواتها من فنون و اداب و مساعدات فنية ، و الاسهام في مشاريع التنمية، ومن ثمَ اختلاق الازمات و التطوع لحلها، فالجيل الخامس من الحروب حاليا ، يقوم على انهاك الدول من الداخل و تركها تتآكل ببطء مع تجنب الإننهاك السريع الذي قد يبقي على عناصر لا يرغب بها . ذلك وحه سلبي للدبلوماسية الناعمة و هو السائد الان . على ان و جها ايجابيا لها اتلمسه في ما تقوم به الصين من إحياء لطريق الحرير الصيني القديم الحديث ،هذا المشروع العملاق الذي يربط الصين باربع قارات ، احال دولا كبرى للحيرة من امرها حتى لقد بات بعضها يلهث وراء مشاريع منافسة او ربما محبطة ، و قد اطلق الاقتصاديون على هذا المشروع ( نظام العولمة الجديد لطريق الحرير الصيني )
ردا على نظام العولمة الغربي الذي يعيش العالم حاليا اوضاره .، Road Silk New Globalization
و الواضح ان للمشروع الصيني اسقاطات ايجابية على الفضاء السياسي و الاقتصادي ، و لعل اقل ما فعل ان انهى الاستقطاب الاحادي العالمي Unipolarization .
.
تاريخ :
الواقع ان نظرية الجيوبولتك ، اي تفاعل و تاثير الجغرافية على واقع الدول كان قد تدول على السنة ارسطو في اليونان و ابن خلدون في تونس و مونتسكيو في فرنسا ، كلٌّ تطرق الى العلاقة بين عديد سكان الدول مع سعة رقعة ارضها من تناسب طردي او عكسي احيانا … تلك كانت محاولات مثمرة في رسم هيكلة العلم الجديد ،
الى ان تولى الالماني فردرك راتزل اصدار مطبوع سنة 1897م بعنوان الجيوبولتك ، و قد كان لهذا الرجل قصب السبق حين طور مبدأ المجال الحيوي للدول Lebensraum والذي تلقفه هتلر حين رأى ان رقعة المانيا ضاقت بالجنس الآري المتميز لهذا اعتبر النمسا و بولندة و جيكوسلوفاكيا و غيرها مجالا حيويا للشعب الالماني معتبرا ذلك ما يبرر النمو العضوي للدولة.. و الحقيقة هي ان التاريخ يرينا في شواهد عدة كيف ان التطبيق المتعسف يؤؤل باصحابه الى الفشل الذريع ، و امثلة موسوليني في تمدد ايطاليا في شمال افريقيا و الحبشة ، و التمدد الامبراطوري الروسي و الياباني في كوريا و الصين و جنوب شرق آسيا ،واضحة للمراقب .
يجب ان لا يفوتني التطرق لاحد فروع الجيوبولتك المهمة ، اعني الجيوستراتيجية Geostrategy كان اهم من صاغها و عمل بها ضابط بحري امريكي ( الفريد ماهان ) الذي كتب عن تاثير القوى البحرية في التاريخ ، يجدر بالذكر ان هذا الفرع يقوم على دراسة التأثير مع الجيوبولتك على التخطيط الستراتيجي السياسي و العسكري .
العصر الحاضر:
من المهم التركيز على مفهوم و تطبيقات الجيوبولتك في عالم اليوم . قد لا أخطئ اذ احدد اربعة من المفكرين الغربيين و الشرقيين كدراسة حالة لاهميتهم في تشكيل الفضاء الجيوبولتكي للمستقبل . اجد من الامريكان ثلاثة و الرابع روسي ، ساورد بعض من الفكر الستراتيجي لكل منهم :
هنري كيسنجر ، الغني عن التعريف ، يصر على اهمية حوض بحر الصين و ما حوله كهدف جيوستراتيجي ، فهو خط صدع ، يزخر بالثروات فضلا عن موقعه الستراتيجي فهو محاط بدول مهمة على رأسها الصين، الشغل الشاغل لبلاده ، و فيتنام و الفلبين و اندونسيا وبورنيو و ماليزيا و سنغافورة و كلها اهداف حيوية لبلاده.
زبغنيو برجنسكي ، مستشار الامن القومي و السياسة الخارجية مع عدة رؤساء امريكان ، و هو القائل بان الكتلة
الأوراسياوية Mass Eurasian التي تمتد من الباسفك شرقاً الى سلسلة جبال الكروات ، الالب الدينارية ،
بما يغطي جميع رقعة ارض روسيا الاتحادية و الجمهوريات السوفياتية السابقة التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي في 1991و هي ، ارمينيا و اذربايجان وتركمانستان وكازاخستان و و اوكرانيا و جورجيا و اوزبكستان و طاجاكستان ، و الشيشان ، اما في القسم الاوربي فكانت لتوانيا و لاتفيا و استونيا . يعتبر برجنسكي ان هذه المنطقة الشاسعة هي خط صدع ذو اهمية ستراتيجية قصوى لبلاده .
جورج فريدمان استاذ جامعي وصحفي مرموق ، تنبأ في كتابه ( المائة سنة القادمة- التنبؤ في القرن 21 ) يقول ان الجيوبولتك هو علم العلوم و هو الحاكم لسلوك الدول ،وهو يعني الولايات المتحدة اولاً، و كذلك هو مع السياسات العالمية في كل مجال ، و يتحمس في توصيفه قائلاً ؛ ان الجيوبولتك محوري في جميع التطورات التي تقع في كل عشرين عام ، و انه اسلوب التفكير في شؤن العالم و التنبؤ بما يقع في نهاية المطاف، كما هو اليد الخفية التي تحرك سلوك الامم و اللاعبين الدوليين .
الكسندر دوغن Dugin فيلسوف و عالم اجتماع روسي يفسر الجيوبولتك لصالح روسيا بالقول ؛ ان حدود بلاده ستظل تنمو الى الحد الذي لا يمكنها تجاوزه ، و ان اوراسيا هي حدود بلاده الطبيعية . و هو يدعو الى احياء الاوراسياوية التي تحقق اقامة روسيا العظمى من جديد ، يقصد اعادة جميع الجمهوريات التي انفصلت في 1991 الى حضن الام ، و هو ينادي بنظرية سياسية رابعة تحكم الجيوبولتك خلافا للشيوعية و الفاشية و اللبرالية..و يقول ان حضارة البحر تغلبت على حضارة اليابسة ..
بقي ان اضيف الى ما تقدم من توصيف للجيوبولتك ، إنّ عالمنا اليوم دخل الفضاء السيبرياني،r
ا Cyber Sphere اعني بذلك ثورة المعلومات التكنولوجية التي اكتسحت العالم بوسائل اتصالاتها من الانترنت و غوغل وتويتر و فيسبوك و عديد اخر من التطبيقات فضلا عن الهاتف النقال الذي اصبح في كل يد على
وجه الارض ، الى الاتمتة و الروبوتية مضافا الى ذلك المنافسة الشديدة على غزو الفضاء و ربما استثماره كما يقول فريدمان في تنبواته ؛ ان بلاده ستطور سفنا فضائية في قواعد ثابتة في الفضاء ترتبط بثلاث قواعد ارضية تحتوي على مولدات ضخمة للطاقة من الشمس تحولها الى موجات كهرومغناطيسية تضخها الى قواعد في الارض التي ستحولها الى طاقة كهربائية تكون كافية لامريكا بل و لتصدير الفائض للعالم .! هذه التطورات المتسارعة و التي يملك العالم المتقدم ،اعني الغرب بوجه خاص تكون و بالا على الامن القومي للدول النامية خاصة ، ذلك انها ادخلت مفاهيم و معايير جديدة على الجيوبولتك و على الجيوستراتيجي ، ومن يدري فقد تظهر تسمية علم جديد هو ، سايبربولتك يزيد من تخلف العالم الثالث ، ونحن تحت طائلته ،بقدر ما ستحقق الدول العظمى من منافع و انجازات .يقول المثل الفرنسي من لا يتقدم يتأخر qui n’avance pas recule.
كلمة اخيرة :
اما عن اسقاطات الجيوبولتك على بلدي العراق،فاقول ؛ في بؤرة اشتراطات الجيوبولتك على منطقتنا، وجدنا انفسنا وبلداننا واقعين تحت الفعل المباشر للجيوبولتك ضمن خضم مصالح دولية متقاطعة متفاعلة ، فالى الشمال منا هناك من يتطلع الى ولوج مياه الخليج العربي الدافئة لتربطه بالشرق تجاريا ، والى الشرق منا ثمة من يسعى دون كلل الي الوصول الى شواطئ البحر الابض المتوسط عبر اراضينا . و غير هؤلاء الجيرة ، ثمة من يريد من الغرب البعيد المرور بنا للوصول الى جنوب شرق و غرب آسيا، و هكذا اذن وجدنا اننا في طريق الجغرافية حقا و صدقا ، اعني كليهما ؛ الجغرافيتين؛السياسية و الطبيعية على السواء .
و ليت الامر اقتصر على موقعنا الجغرافي فحسب ، ذلك ان اشتراطات الجيوبولتك تنظر بعين شرهة الى ثروات البلدان المستهدفة،فإذا بنا نجد انفسنا نعوم فوق بحر من المعادن .المسالة و الصلبة بوفرة و الحمد لله ،و لدينا شعب بسيط ذكي شجاع كلما نشط و نهض ،وجد من يخذله و يشده الى الاسفل،المرة تلو الاخرى حتى لقد كاد الفساد و انحسار الحس الوطني ان ينخسف امام الجيوبولتك الذي لا يرحم إن لم نستوعب شروطه .فتفرقنا، وليس بمِلكنا ، الى ديانات و مذاهب و قوميات و قبائل و عشائر كلها سهلت تسلل الجيوبولتك الى جمعها فشتته
لتطبق على ارض الواقع جيوستراتيجيات العصر الهادفة الى زعزعة الدولة لتوصلها الى الفشل ،لا سمح الله ، ذلك الذي يقتل الدول ببطء و اناة حتى يهلكها في النهاية، و هذا ما سماه الجيوبولتك ؛ الاجهاز البطئ على الدول من الداخل باستمراء الفساد واسترخاص التبعية لغير الوطن. غالبا ما يجرى ذلك بايدي بعض ابناء الوطن بعلم و دراية او جهل في اغلب الحالات .
حفظ الله بلدي الحبيب العراق من عسف الجيوبولتك و من عنت اصدقائه، فالاعداء ، هوبشبابه و بالمخلصين وهم كثر ، ، كفيلون بهم .و الله من وراء القصد .
*سفير عراقي سابق
392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع