د. اسعد الامارة
عالم يئن بين عالم ينهار وعالم يتكون
هل ستنتهي هذه الحقيقة الإنسانية التي مفادها إن الإنسان لا يصير إنسانًا إلا بقدر ما يأنس هو إلى الآخرين، وبقدر ما يأنس الآخرون – هم – إليه هو، هذا الأنس وهذه المؤانسة هي الوجود معًا، وهي الجماعة كما يقول استاذنا الراحل عالم النفس فرج أحمد فرج رحمه الله، وهل ينسى الناس خطاب الحق سبحانه وتعالى " ياأيها الناس" من هذا المدخل النفسي الإجتماعي ستكون لنا وقفة تأمل لما يجري حولنا في عالم بات يئن تحت وطأة الجائحة العالمية التي أخترقت نرجسية الإنسان المتحضر وإنسان العالم الثالث في كل بقاع الأرض.
تؤكد لنا أساسيات الطب النفسي وعلم النفس المرضي بالتحديد عن مبدا النكوص الغائي المتزايد Progressive teleolgice regression في محاولة لفهم أسس جنون الفصام، ويعني هذا المبدا بالدقة أن النكوص في الفصام هو وسيلة تكيف، ولذلك فهو نكوص هادف، فالإنسان السوي وكذلك المضطرب أيضًا إذا ما واجه صعوبة في التكيف لجأ إلى النكوص كوسيلة لحماية نفسه من الموقف الضاغط ، ويقول "البروفيسور محمد شعلان" رحمه الله وبدلا من مجابهة معركة الإنسان في التكيف فهو يتراجع إلى الخلف ويمارس وجوده على مستوى أكثر بدائية. نحن الأن في هذا المخاض بعد أن فتك التوتر والشد النفسي والضغوط الحياتية وفائدة الإغلاق الجزئي والكامل مأخذه فضلا عن صراع اللقاح ، هل أخذه أم أمارس تأخير أخذه ليتبين لي نتائج مفعوله وآثاره الجانبية ؟ أنها مرحلة صراع ومخاض غير معروفة النتائج ، بكل أنواعها مع إنساننا اليوم، فهو لا يجد أمامه إلا المزيد من النكوص ويدخل في حلقة مفرغة بعد أن مس الجانب الاقتصادي كيانه الحياتي ووجوده، فالعالم يئن أيضًا من أثقال اقتصادية لا طاقة له بها، فالتدهور الصحي وكثرة الاصابات والوفيات فضلا عن التدهور الاقتصادي لكل العالم، هذا مما زاد الامر أكثر سوءا وتعاسة لعامة الناس، فمن تدهورت أحواله المادية والصحية بسبب الوباء، يزداد لديه القلق والمخاوف بأنواعها ، اما من يمتلكون المال والجاه والسلطة هم أيضا أكثر خوفًا للاصابة بالوباء، فلم يستثني أحد من البشر في كل دول العالم.
القيم تغيرت كثيرا بفعل السجن المؤقت ولا نغالي إذا قلنا أن أعراض عصاب السجن بدأت تظهر بعض ملامحها لدى البعض بسبب الخوف والانفعالات التي لم تجد لها منصرفا مقبولا إجتماعيا من خلال عطلات نهاية الاسبوع، أو السفر السنوي المستمر عبر عالم مفتوح، أو السفر الطويل في بلدان بعيدة والتعرف على عاداتهم وقيمهم وتقاليدهم ويقول أستاذنا البروفيسور الراحل "د. قدري حفني" أسئلة تتكرر كثيرا، حول ما جرى لقيمنا، لم يعد الكبار على احترامهم للكبار، و لم يعد للسلطة وقارها القديم، و لم يعد "موظف الحكومة" على مكانته القديمة كرمز للسلطة، واندثر أو كاد ذلك المناخ الهادئ المستقر الذي ألفناه طويلا، لم يعد لدينا المايسترو الذي يشير بعصاه فينضبط إيقاع الجميع.
ورغم تعدد الإجابات و الاجتهادات فإنها تشير في مجملها إلى أن الحاضر أسوأ من الماضي، و أننا كنا أفضل مما نحن عليه الآن. و لعلنا لو تجاوزنا استخدام تعبيرات التقييم لنلتزم بتعبيرات التوصيف العلمي ربما تتضح الصورة أكثر. ترى متي بدأت جذور ذلك الاختلاف؟ لعل الإجابة تقتضي أن نعود بالذاكرة قليلا إلى صورة "العالم القديم" العالم قبل أن يئن ويترنح تحت وطأة الكثير من الضغوط المتعددة ذات التأثير القوي على الفرد والمجتمع والعلاقات الإجتماعية.
تؤكد لنا معرفتنا النفسية أن السيادة على الذات تزول عندما تظهر على الناس قوة تأثير الجهد وكثرة الضغوط التي تؤدي إلى التشتت النفسي والإجتماعي وتضعف قيم المجتمع وربما تهشمها، فكما هو معروف أن السيادة الحقيقية الصحيحة على الذات مساوية لحالة الأمان والامن واليسر المادي الاقتصادي وحرية التنقل وكسب الرزق والحياة السلسة بلا خوف مجهول، أو قلق هائم مجهول، وهي بذلك تُكون الطاقة النفسية الفردية والجمعية لأفراد المجتمع موزعة توزيعا منسجمًا بين الكسب بالجهد والعمل، وبين تحقيق الأمنيات في السفر والتنقل والانتقال لغرض العمل أو تغيير بلدان الإقامة والدراسة.
ماذا يحدث في هذا العالم تحت طنين الآنين؟ والمعروف أن طنين الأذن يسبب الازعاج الهادئ، مثل ألم الضرس الذي سينفجر في الألم منتصف الليل، هذا الوصف مقرب لعالم ينهار وعالم يتكون، وتعلمنا في تخصصنا النفسي المعمق أن الجديد يولد من رحم القديم، ويتخلق من خلاله ولكن تساؤلنا لماذا هذا التغيير القسري لعالمنا المعاصر بعد أن قطع شوطا طويلا في تكنولوجيا العصر الحديث؟ رغم أننا نعيب على هذا التطور بانه لم يكن بذلك التطور الهائل فقول العلامة "مصطفى زيور" أن الطب يعرف عن المرض أكثر مما يعرف عن الصحة، وهذه المعلومة أثبتت جدواها في عالمنا اليوم الذي يئن وتتدخل فيه أيدي خفية لإنهياره وبناء عالم جديد في طور التكوين الذي أستند على فكرة مؤداها أن المناخ الغالب هو مناخ أيديولوجي لصفوة حاكمة ممسكة بمفاتيح العالم تحاول أن تفرض أيديولوجيتها على جميع جوانب الحياة الاقتصادية والفكرية والتكنولوجية في الكون بأسره، الدول كلها، ولما كان رجال العلم والفكر والتكنولوجيا هم بشر في نهاية المطاف ويخضعون لسلطة مالك المال والمتحكم فيه بهذا الكون، وفي الاخير صار العلم في خدمة الصفوة دولا كانت أو جماعة، او طبقة، أو فئة إقتصادية تتحكم في مقدرات الامم والشعوب وتحاول تبني عالما جديدا على وفق ما تخطط له وتبني أسسه تحت نير عالم يئن وشعوب تتلظى بالخوف والاضطرابات النفسية المختلفة فضلا عن مخاوف اللقاح ونتائجة، أنه عالم ينهار وعالم يتكون ولكم القرار في القبول والرفض.
1343 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع