الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
شعائر الحجّ وعِلْمُ المُحاكاة
يرجع تاريخ الحجّ في الإسلام إلى عهد النبي إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. والحجّ ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهو فريضة على كل مُسلم يقوم بها (مَن استطاع إليها سبيلاً). وتؤدى مراسم الحجّ من الثامن إلى الثالث عشر من شهر ذي الحجّة كل عام في التقويم الهجري، ويتخللها مراسم عيد الأضحى في العاشر من ذي الحجّة.
الابتلاء العظيم:
قصة إبراهيم الخليل عليه السلام ورؤياه بذبح ابنه من قصص القرآن المثيرة، وتحديد (الذبيح)؛ هل هو (إسحاق) أم (إسماعيل) عليهما السلام مسألة فيها اختلاف، إلا أن الراجح أنه (إسماعيل) عليه السلام. والقضية المحوريّة في هذه القصة هي قضية (الابتلاء) أي (الاختبار).
لقد رأى إبراهيم عليه السلام في الرؤيا الأمر بذبح ولده، ورؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى، وكان ذلك في اليوم الثامن من ذي الحجّة. فتروى ولم يُنفذ الأمر. وفي اليوم التالي رأي إبراهيم الرؤيا نفسها؛ فعرف أنه أمر من الله تعالى، وكان ذلك اليوم التاسع من ذي الحجّة. وفي اليوم الثالث؛ وهو يوم العاشر من ذي الحجة، رأي الرؤيا نفسها، فبادر في ذلك اليوم إلى تنفيذ أمر الله تعالى.
علم المُحاكاة Simulation:
علم المُحاكاة من العلوم العصرية، وهو علم مُهَجَّن يرتكز على علم الرياضيات في أصوله، وعلى الحاسوب في تنفيذه. أما تطبيقاته فتشمل شتى المجالات المختلفة، وبخاصة المجالات التقنية والهندسية والعسكرية.
وعلى الرغم من أن علم المُحاكاة محسوب على العلوم الإحصائية، إلا أنه يختلف عنها، كما أن اتجاهه معاكس لها تماما: فالعلوم الإحصائية تبدأ بالبيانات Data لتنتهي بالنموذج الرياضي Mathematical Model، في حين يبدأ علم المُحاكاة بالنموذج الرياضي لينتهي ببيانات ذات مواصفات مُحددة من قِبل المُستفيد.
ومن تطبيقات علم المُحاكاة المهمة استخداماته في المشاريع الاستراتيجية الضخمة مثل إنشاء السدود وشبكات الطرق والمواصلات، كما يُستخدم في إدارة العمليات العسكرية. ومن خلال المحاكاة يمكن الوصول إلى حلول مدروسة بموضوعية وآمنة.
شعائر الحجّ وعلم المُحاكاة:
إن شعائر الحجّ هي عبارة عن مُحاكاة (تقليد) لأحداث حدثت في زمن خليل الرحمن الذي عاش في بحدود (2000- 1700 ق. م) لتعيدها الأجيال جيلا بعد جيل استذكارا لأحداث تلك القصة المثيرة وما تتضمنه من دروس بليغة وعِبر.
يبدأ الحجّ بالنيَّة والإحرام وتعقب ذلك شعائر الحجّ والتي تتسلسل وفق مجريات الأحداث في القصة الواقعية التي عاصرها خليل الرحمن والسيدة هاجر وولده إسماعيل عليهم السلام. وتبدأ شعائر الحجّ بالسعي بين الصفا والمروة؛ والذي هو عبارة عن مُحاكاة (تقليد) لما فعلته السيدة هاجر عليها السلام عندما قامت تبحث عن ماء لوليدها إسماعيل عليه السلام والذي تركته في موضع زمزم. وقد سعت السيدة هاجر سبعة أشواط ذهابا وإيابا، وفي المرة الأخيرة عندما وصلت إلى وليدها وجدت الماء في زمزم يتدفق بين يدية (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 158).
وتنتهي شعائر الحجّ بالنحر؛ وهو مُحاكاة لما فعله سيدنا إبراهيم عندما صدق الرؤيا وأراد تنفيذ ما رآه فيها بذبح ابنه ثم فداءه الله تعالى بذبح عظيم (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات: 107).
أيام الحج:
يبدأ الحجّ من يوم الثامن من ذي الحجّة، والذي يُسمّى يوم التّروية. ويقال أنه سُمي بهذا الاسم، لأن الحجاج يرتوون فيه الماء ويحملوه معهم إلى عرفة ثم إلى مزدلفة. وقيل سُمي بذلك لأن إبراهيم عليه السلام (تروى) وتمهّل ليعلم الرؤيا التي رآها في ذبح ابنه هل هي حُلمٌ أم رؤيا من الله تعالى.
وفي التاسع من ذي الحجّة، يكون يوم عَرَفة ووقفة عرفات. وهناك روايات عديدة في سبب تسمية هذا اليوم بهذا الاسم، منها لتعارف سيدنا آدم على زوجته حواء في هذا المكان بعد خروجهما من الجنة، ومنها أنّ إبراهيم عليه السلام عندما رأى في الرؤيا ليلة عَرَفة ما رآه في ليلة التروية بذبح ابنه، فلما أصبح (عرف) أن ذلك أمرٌ من الله سبحانه وتعالى، فسُمّي ذلك اليوم بيوم عَرَفة.
يُعد يوم عَرَفة من المواقف والمشاهد العظيمة حيث تقف جموع الحجيج في وقت واحد، وفي مكان واحد، وفي لباس واحد، في مشهد يُحاكي يوم القيامة حيث يقف الناس حفاة عراة ليتذكر الحاج بذلك كله يوم القيامة.
ويوم عَرَفة أكمل الله تعالى فيه الدِّين، وأتمّ نعمته على الأُمّة الإسلاميّة حيث نزل قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).
واليوم العاشر من ذي الحجّة يُسمّى بيوم النَّحر، حيث تُنحر الأنعام في مُحاكاة لقصة إبراهيم عليه السلام عندما همَّ بذبح ابنه بعد تصديقه وابنه للرؤيا (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات: 107).
وتُختتم مناسك الحج بعملية مُحاكاة أخرى لِما حدث مع سيّدنا إبراهيم عليه السلام وزوجته وابنه. وقد ذكر هذه القصة الإمام الحاكم في المستدرك والإمام ابن خزيمة في صحيحه عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما والذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فعندما همَّ سيدنا إبراهيم عليه السلام بتنفيذ رؤياه بذبح ابنه اعترضه إبليس في ثلاث مواضع ليصده عن ذبح ابنه، فرماه سيدنا إبراهيم بسبع حصوات في كل من هذه المواضع التي يقوم الحجاج فيها برمي الجّمرات.
قصيدة (إِلى عَرَفـاتِ اللهِ):
تُعد قصيدة (إلى عرفات الله) واحدة من القصائد المرتبطة بموسم الحجّ، إن لم تكن أشهرها. ووراء هذه القصيدة قصة طريفة يعود تاريخها إلى أكثر من قرن.
القصيدة كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي (1868- 1932) عام 1910 وقد أهدها إلى الخديوي عباس حلمي الثاني بن محمد توفيق (1874 - 1944) الذي كان مقربا منه، وقد كتبها شوقي اعتذارا للخديوي بعدما هرب من مصاحبته في أداء فريضة الحج!
تتألف القصيدة من 63 بيتا وقد اختارت كوكب الشرق السيدة أم كلثوم منها 25 بيتا فقط قام بتلحينها الموسيقار رياض السنباطى، لتبقى هذه القصيدة لوحة فنية تُصوِّر حالة الشوق لمن يتمنى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأداء فريضة الحج.
إِلى عَرَفـاتِ اللهِ يـا خَـيرَ زائِرٍ .. عَلَيكَ سَـلامُ اللهِ في عَرَفـاتِ
عَلى كُلِّ أُفْقٍ بِالحِجازِ مَلائِكٌ .. تَزُفُّ تَحـايـا اللهِ وَالبَرَكاتِ
أَرى الناسَ أَصنافًا وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ .. إِلَيـكَ انتَهَوْا مِن غُربَةٍ وَشَتـاتِ
تَساوَوْا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ .. لَدَيْكَ، وَلا الأَقـدارُ مُختَلِفـاتِ
إِذا زُرتَ يـا مَولايَ قَـبرَ مُحَمَّدٍ .. وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظُمِ العَطِراتِ
وَفاضَتْ مِنَ الدَمعِ العُيونُ مَهابَةً .. لأَحْمَـدَ بَينَ السِـترِ وَالحُجُـراتِ
فَقُل لِرَسولِ اللهِ: يا خَيرَ مُرسَلٍ .. أَبُثُّكَ مـا تَـدري مِنَ الحَسَراتِ
شُعوبُكَ في شَـرقِ البِـلادِ وَغَربِهـا .. كَأَصحابِ كَهفٍ في عَميقِ سُباتِ
بِأَيْمـانِهِـم نُورانِ: ذِكرٌ ، وَسُنـَّةٌ .. فَما بالُهُم في حالِكِ الظُلُماتِ؟
https://www.youtube.com/watch?v=KB55MAaymw8
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
تقبَّل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.
465 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع