د.علي محمد فخرو
العودة إلى مدرسة الالتزام
ظاهرة غزارة الإنتاج الأدبى فى حاضر الوطن العربى كله، شعرا ورواية على الأخص، أصبحت تفرض نفسها، مما يستدعى طرح أسئلة وملاحظات بشأنها. وهى أسئلة ونقاشات ليست بالجديدة، ويتكرر طرحها بين الحين والآخر، ولكن لا تستقر الإجابات على حال مقبول متجذر.
نحن نشير هنا إلى المطلوب من الإنتاج الأدبى: أن يكتفى بأن يكون متجليا جماليا وإبداعا فى عرض نفسه فقط، أم أنه يحتاج أيضا أن تكون له وفيه اهتمامات والتزامات اجتماعية وسياسية يتطلبها واقع الشعوب والمجتمعات التى ينتمى لها الأديب؟
لقد طرح هذا الموضوع بقوة وجدية فى الوطن العربى فى الخمسينيات من القرن الماضى، تأثرا بما طرحه الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر من أن قيمة النتاج الأدبى الكبرى تكمن فى مدى تعبيره عن قضايا وهموم وتطلعات الإنسان ومجتمعه وليس فى جماليته الذاتية. ومن الخمسينيات وحتى الثمانينيات ظلت تلك المدرسة هى السائدة. ولكن عند تراجع المد الاشتراكى والإيديولوجيات الثورية، وبدء صعود النيوليبرالية انعكس الوضع فى ساحة الأدب كما تراجع فى كثير من حقوق التعبير الفكرى والفنى.
الآن وقد تكشف للعالم من حولنا ما طرحته تلك النيوليبرالية من ثقافة مسطحة تنادى بالحرية الفردية الأنانية المهووسة بالاستهلاك المادى والمعنوى النهم، ومن صراعات تجارية مجنونة، ومن إهمال التوازن وسلامة للبيئة، ومن هيمنة لرأس المال على السياسة والثقافة والإعلام.. الآن وقد تكالبت قوى الاستعمار والصهيونية العالمية وأنظمة الاستبداد والفساد على تمزيق الوطن العربى والمجتمعات المدنية فى غالبية الأقطار، وعلى تأجيج الصراعات والمطالب الطائفية والقبلية والمناطقية، وعلى تنفيذ حصارات اقتصادية غير إنسانية على أى قطر عربى لا يقبل بالخضوع لإرادة هذه الجهة الخارجية أو تلك.. الآن وكل هذا يحدث من حولنا وفى حياتنا العربية اليومية، يحق لنا أن نعيد طرح موضوع التزام الأديب والفنان والمفكر والإعلامى ورجل الدين بإدخال الجوانب الاجتماعية والمعيشية للفرد والأخطار القومية الوجودية للأمة والوطن الكبير فى كتاباتهم وخطاباتهم وإبداعاتهم التعبيرية.
توعية الفرد والمجموع بكل ما يحيط بهم، وتجييشهم ضد كل أنواع الأخطار المهددة لمستقبلهم يجب أن يكون جزءا من كل إنتاج ونشاط فى كل حقول الحياة العربية.
هذا لا يعنى إطلاقا التهاون فى الجوانب الجمالية والحرفية الصارمة والمستويات التكوينية العالية، إذ من المؤكد أن الفرد والجماعات يطلبون توفر الجانبين فى كل إنتاج. ولعل أصدق ما يؤكد ذلك، على سبيل المثال، كيف تحفظ وتردد الأجيال، عبر العصور، أبيات شعر المتنبى التى يتحقق فيها جانبا الجمالية والمعانى الفكرية والسلوكية، فى حين يبقى شعره الجمالى فقط غير متداول بنفس الانتشار والاستشهاد.
فى اللحظة الحالية التى تجرى فيها محاولات تمييع الذاكرة العروبية الجمعية، والاستخفاف بالمشاعر والشعارات القومية الوحدوية، وتجييش كل ما يشوه التاريخ ويؤجج الصراعات، أصبحت الحاجة ملحة للعودة إلى مدرسة الالتزام تلك من أجل مساندة الوعى الفردى والجمعى وتنشيطة لمواجهة حملات إعلامية وثقافية هائلة تسعى إلى إدخال الجهل واليأس والاستسلام فى أذهان وقلوب وأرواح شابات وشباب الأمة العربية.
إنها مسئولية تاريخية يتحملها أصحاب الفكر والأدب والفن والإعلام.
500 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع