العراقيون والچاي ..الجزء الثالث

                                                     

              الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

    


العراقيون والچاي.. الجزء الثالث

الچاي إدام الفقراء، حيث تتخذه العديد من الطبقات الفقيرة بوصفه مادة غذائية أساسية (إدام). وتذكر المصادر أن المُصلح الإسلامي الكردي التركي بديع الزمان سعيد النورسي (1876-1960) كان غذائه الأساسي معظم حياته (الچاي والخبز).

من المناظر الجميلة التي صادفتني في تركيا بائعات الچاي في الأسواق، وهنَّ شابات يافعات أنيقات ويعملون بكل جديَّة ونشاط وصواني الچاي بأياديهن ويلبون طلبات الزبائن بتقديم الچاي على الطريقة العراقية بالاستكان.

ففي قلب أسواق مدينة أسكي شهير التركية، في منطقة موازية لشارعها العريض هناك جزرة مزروعة بالأشجار والورود وفيها العديد من المساطب للاستراحة، وكان أحد المحلات يقوم بتجهيز شابات وشباب بأقداح الچاي فيقومون بيعه للناس. سألتُ أحد الباعة، وهو عراقي اسمه حسن، عن آلية البيع فقال: أنهم لا يعملون باليومية، بل يتقاضون 25 ليرة مقابل كل 100 ليرة من الچاي المُباع، أي 25% من الدخل اليومي للبائع، عندها عرفتُ السبب في نشاط واندفاع أولئك الباعة في عملهم.

يُسمى ( الچاي خمر الفقراء)، والمواطن العراقي يفضل الچاي على الأكل احيانا، ويخاطب الشاعر الشعبي الچاي قائلا: (سكران بمحبتك مايوم أنا صاحي). ويقول أحد العراقيين: "عند زيارتي لإحدى الدول العربية، كانت مشكلتنا هي عدم توفر نوعية جيدة من الچاي، فذهبتُ أسال عن نوعية جيدة من الچاي، فقال لي صاحب المحل: تقصد چاي بالبريق (عراقي)، فقلتُ له نعم.. فحصلت على نوعية جيدة بسعر باهض، وطيلة فترة مكوثنا كنا نشرب من ذلك الچاي".

يقول الباحث الأكاديمي (أحمد الناجي): العراقيين عرفوا الچاي بعد الاحتلال البريطاني عام 1914، وقد انفرد في بيعه أحد العطارين في محلة الحيدرخانه المطلة على شارع الرشيد، وشيئا فشيئا اتسع نطاق تجارته وانتقل إلى بقية المدن العراقية.

ويقول آخر: لقد أصبح العراق من البلدان الأولى في استهلاك الچاي على الرغم من حداثة دخوله إليه أيام الاحتلال البريطاني. أما قبل ذلك أيام الحكم العثماني، فقد كان موجودا لكنه قليل جدا وفي البيوت الميسورة فقط ويتم تناوله في المناسبات والأعياد.

ويشير آخر إلى أن المقاهي كانت تستخدم القهوة فسميت كهاوي، وحين انتشر الچاي وحل الچاي محل القهوة أصبحت تسمى (چاي خانه)، وبذلك غدا الچاي الشراب السحري المفضل لدى عامة الناس، فهو صديق الصغار والكبار.

ويذكر الشيخ وهاب المرشدي رواية طريفة عن الچاي. ففي عشرينات القرن الماضي زار وفد من أهالي الريف أحد الأعيان فقدَّم لهم الچاي ولم يكونوا على معرفة سابقة بهذا المشروب. وبعد أن وُضعت أمامهم استكانات الچاي ظلوا صامتين لا يعرفون كيف يشربونه. وبعد فترة برد الچاي فطلب المضيف تغييره. وعندما لاحظ أن ضيوفه مستمرون في صمتهم بادر إلى تحريك الملعقة الصغيرة داخل الاستكان، وأخذ يشرب منه، فعمل الضيوف مثله. وعند خروجهم سألوه عن المشروب، فقال لهم انه الچاي.

هناك مقولة شعبية تقول: (في الإسكان يُكرمُ المرءُ أو يُهان)!، حيث أن للچاي قيمة اجتماعية في الحياة اليومية في المجتمع العراقي، يُقاس به درجة احترام أي زائر ومستوى تقديره ومكانته!؟ حتى أن أي ضيف زائر لا يُقدَم له (استكان) چاي؛ يعد ذلك نقصاً في الحفاوة والترحيب وربما (تجاهلاً) جراء عدم الاكتراث وعدم التكريم بـ (استكان) چاي في الأقل.

اشتهرَ الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي (1863-1936) بطرائف نادرة، واعتاد الزهاوي أن يأخذ من زوجته السيدة زكية هانم صباح كل يوم (يوميته) قبل ان يذهب إلى المقهى التي تحمل اسمه حتى اليوم في شارع الرشيد ببغداد (مقهى الزهاوي).

وكان الزهاوي يحرص على ان تكون (اليومية) (خردة) تضعها له السيدة هانم في كيس صغير ليسهل عليه توزيع (آناتها) (المفردة: آنة وقيمتها أربعة فلوس) ثمناً لما يشربه تلاميذه من محبي شعره الذين يلتفون حوله في المقهى.. وبذلك كان الزهاوي واحداً من أشهر العراقيين بـ(الوير): فالوير عادة شعبية عراقية وهي أن يقوم المتقدم في الحضور إلى المقهى بدفع ثمن الچاي للذي يجيء متأخراً؛ والغاية من ذلك إظهار الكرم وتقوية أواصر المحبة.

وشهد شاهد من أهلها:
تحدث لي صديق متقاعد عن تاريخ دخول الچاي إلى مناطق جنوب الموصل، وبالتحديد منطقة الشرقاط وما جاورها، وهي مناطق عشائرية. ويذكر أن الچاي قد دخلها في خريف ١٩١٨ وذلك عندما تقدَّم لوائي الخيالة ٧ و١١ من الإنكليز من منطقة بيجي وعبروا الفتحة باتجاه الحويجة، ثم عبروا الزاب الأسفل باتجاه قرية (هيچل كبير) الواقعة على الضفة اليسرى لنهر دجلة مقابل سايلو الجرناف شمال الشرقاط ١٠ كم، وذلك لقطع خط انسحاب القوات العثمانية في آخر معركة من معارك الحرب العالمية الأولى. وعند عسكرتهم في إحدى روابي قرية (هيچل كبير) والمتخذة الآن مقبرة للقرية تركوا عند رحيلهم (مادة سوداء) طعمها مُر قدَّموها إلى حيواناتهم لتأكلها، وقد احتفظ أحد رجالات القرية بصندوق خشبي من هذه المادة وقال: لعل يأتينا يوم ونعرف سر هذه المادة!! وبعد فترة عمل بعض الناس مع الإنكليز في حفريات الآثار وعرفوا سر المادة السوداء (الچاي) ولكن بنطاق محدود.

من القصص اللطيفة في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي أن رجلا يدعى (دانوگ) ذهب مع مجموعة من الرجال للعمل مع الإنكليز في شق الطرق الجبلية في مناطق (كلي علي بيگ)، وكان (دانوگ) مُدمنا على الچاي، فجمع معه كمية من الچاي (صرة) على أمل النزول إلى السوق قبل نفاد الذخيرة، لكن سوء الأحوال الجوية وهطول الثلج حال دون ذلك. وقد قُطعت الطرق ثلاثة أشهر ونفدت كمية الچاي، مما حدا بدانوگ أن يضع الماء في القوري يوميا ويسخن الماء من دون الچاي ويبكي، فانتشرت قصته بين الناس.

وبعد فتح الطرق نظم أحد المرافقين لدانوگ قصيدة بالشِعر الشعبي تُعبِّر عن حالة (دانوگ) واشجانه، ومما قاله فيها:

لغير الله ماطخ راسي ودانوگ
معتق شوگ البگلبي ودالنوگ
معاني الطيب والنكهه يدانوگ
جفن والچاي ماضله اطعمى

الچايجي وسرُّ مهنة:
في أسواق العراق هناك أماكن مخصصة لعمل الچاي، حيث يقوم أشخاص يُطلق عليهم (الچايجيه) بعمل وتوزيع الچاي على المحلات التجارية فضلا عن المواطنين الذين يشربونه وقوفا. كما أن هناك أماكن واسعة يُطلق عليها اسم الچايخانه (الچاي خانه) لشرب الچاي وسماع الأغاني وممارسة الألعاب الشعبية مثل الطاولي والدومينا.

وتجدر الملاحظة أن لكل چايجي (سر مهنة) في عمل الچاي. ويكمن (سر المهنة) في اختيار نوعيات معينة من الچاي من حيث الطعم واللون، وإضافة الماء الفاتر أو الساخن في القوري وكذلك في اختيار نوعية الفحم التي يتم تخدير الچاي عليه.

أذكر في السبعينات كان هناك چايجي مشهور في شارع نينوى في الموصل اسمه حازم، وكان يُخدِّر الچاي على فتات الفحم الناعم، وكانت الناس تُلقبه (مَلِك الچاي) وتأتي إليه الزبائن من مناطق أخرى. وفي أحد الأيام جاءه زبون قديم قد أفلس؛ فأخذ يغني أغنية فيروز بعد أن حوَّرها:

أسقني الچاي وغني ... فالچاي سرّ الوجودْ
وأنين الچاي يبقى ... بعد أن تفنى النقودْ

كما أذكر مرة جاء ضيف عتيق إلى محل كنت أشتري منه الچرزات، فطلب له چاي. وبعد أن أكمل الضيف شرب الچاي جاء الچايجي لأخذ الإستكان البوش، فقال له الضيف: ما أروع هذا الچاي!! قل لي أي نوع من الچاي تستعمل؟ فأجابه الچايجي: والله عمو أنا أخلط عشر أنواع من الچاي حتى يطلع بالمستوى المطلوب.

بين العجوز السوداء (القهوة) والچاي:
الچاي والقهوة وسيلة مثلى لبدء يوم جديد، ولجلسة مريحة في مقهى، أو حتى أثناء العمل. بعضنا يفضل الچاي والبعض الآخر يفضل القهوة.

يحتوي المشروبان على نسب عالية من مضادات الأكسدة، وكل منهما يحتوي على أنواع معينة من هذه المضادات، بل إن تلك الموجودة في الچاي الأسود مثلاً، تمنع تطور سرطاني القولون والرئة، وتلك الموجودة في القهوة تحمي من سرطاني الجهاز الهضمي والكبد، وفق موقع "هيلثلاين" الطبي.

ويحوي الچاي على مادة التانين التي تؤثر سلباً على امتصاص العظام للحديد، بينما تخفض القهوة تدفق الدم إلى القلب. لكن الچاي يتفوّق على القهوة بكثرة الفوائد على الضرر: "ثماني فوائد للچاي مقابل خمس للقهوة"، مقارنة بثلاثة أخطار لكل منهما.

كان الأستاذ ذو النون يونس الشهاب (1920-1990) من المولعين بشرب الچاي فدعا صديقه الشاعر سعيد إبراهيم قاسم النعيمي (1920-2003) لترك شرب القهوة فقال:

لا تشرب القهوة يا صاحبي ... فإنها مجلبة للسقامِ
بل اشرب الچاي وذق طعمه ... تجده أصفى من (كؤوس المدامِ)

فردَّ عليه صاحبه الشاعر سعيد النعيمي قائلا:

وقهوة مذاقها عنبر ... شهى من الچاي وكأس المدامِ
كأنها البلسم يا صاحبي ... هل يُترك البلسم عند السقامِ
فإنها من عهد آبائنا ... حبيبة مؤنسة في الظلامِ

    

القس ميخائيل عزيزة والشيخ بشير الصَّقال واستكان چاي:
في بداية الستينات من القرن الماضي كان القس ميخائيل عزيزة يهم بالدخول إلى بيته في محلة (الساعة) في أيمن الموصل، فتعرض لاعتداء من أحد المغرضين، فلم يحرك ساكنا، ولم ينبس ببنت شفه وسارع للدخول إلى بيته دون أن يتكلم.

أحد أبناء المحلة شاهد العملية من شباك بيته فأوصلها إلى الشيخ بشير أفندي الصَّقال (1906-1986م). وفي خطبة الجمعة؛ ومن على المنبر صاح الشيخ الصَّقال: بالأمس قام أحد الذين لا يمتون للإسلام بصلة بفعلة شنيعة ألمتنا جميعا نحن أهل الموصل، حيث فعل كذا وكذا بالأب الفاضل والكاهن الوقور القس ميخائيل عزيزة، ونحن هنا ومن هذا المنبر نعتذر لأخينا وأبينا العالم الكبير، ونقول للفاعل: إنك قد رميتنا شخصيا بما رميت به الأب عزيزة وعليك أينما كنتَ الآن أن تأتي معنا لزيارة بيت الأب ميخائيل عزيزة للاعتذار منه. وبعد ساعة كان الشيخ الصَّقال ومجموعة من المصلين يقفون في باب بيت الأب ميخائيل ويعتذرون منه جميعا، ودارت استكانات الچاي بينهم وهم يتحدثون كأخوة وأهل.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

500 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع