الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
مصطفى الصابونچي: نموذج وطني مُمَيَّز
مصطفى محمد باشا الصابونچي (1888-1954م) نموذج فذ للمواطن الصالح، وهو أيضا نموذج للوطني المخلص الغيور على بلده وأمته، كما أنه نموذج للمثقف اللامع، وهو كذلك نموذج للعقلية التجارية الجبارة، فضلا عن كل هذا وذاك فهو نموذج فذ للميسور السخي الذي شملت أعماله جوانب مختلفة من المجتمع.
ولد مصطفى الصابونچي في الموصل سنة 1888، وهو ابن محمد باشا الصابونچي (1844-1916) من عشيرة الخوالد، وهو الشخص الوحيد الذي يحمل رتبة الباشوية من السلطان العثماني بين رجالات الموصل آنذاك، ومن وجهاء الموصل الذين برزوا في ميدان التجارة والادارة والسياسة.
رُزق مصطفى الصابونچي بعدة أبناء: نجيب مصطفى الصابونچي؛ حسيب مصطفى الصابونچي؛ أديب مصطفى الصابونچي؛ وتوفيق مصطفى الصابونچي إضافة إلى خمسة بنات فاضلات.
ومصطفى الصابونچي هو جد المهندسة المعمارية العراقية/ البريطانية العالمية الشهيرة زَها حديد (1950-2016) لأمها، وقد ورثت زَها حديد الهندسة المعمارية من جدها مصطفى الصابونچي، وسنفرد مقالة تفصيلية لفخر العراق زَها حديد.
لقد كان مصطفى الصابونچي مهندسا معماريا ومن أعيان الموصل وكبار تجارها. وكان شخصية فذة مشهود لها بالوطنية ومواقفه المناهضة للاحتلال البريطاني، ويقترن اسمه مع العديد من الأعمال الخيرية في الموصل.
لقد أسهم مصطفى الصابونچي في النشاطات السياسية في الموصل، ويشير الدكتور عبد الفتاح على يحيى إلى أن: (جمعية العلم السرية المؤسسة في الموصل سنة 1914 كانت تدعو الصابونچي إلى حضور اجتماعات هيئتها الادارية للأخذ ببعض آرائه في المسائل الوطنية).
وبعد تشكيل الحكومة العربية في دمشق سنة 1918 تحرك الوطنيون في الموصل من أجل تشكيل حزب قومي عربي يناضل ضد المحتلين الإنكليز، وكان من ضمن هؤلاء سعيد ثابت وداؤد الجلبي ومصطفى الصابونچي.
وبعد تشكيل الدولة العراقية اختير الصابونچي ليكون عضواً في لجنة انتخابات المجلس التأسيسي لمكانته ولقربه من القيادات الوطنية من جهة ولنفوذه الكبير لدى الحكومة.
لقد اختار مصطفى الصابونچي طريق التجارة، وكانت له علاقات وثيقة مع رجالات السياسة من الرعيل الأول، وله مواقف مشهودة ضد الاحتلال البريطاني، كما كان له اتصال مع الحركات الوطنية التي كان يمدها بالمساعدات المالية في نضالها الوطني. لقد ابعدته سلطات الانتداب البريطاني من الموصل إلى بغداد ولكنه استمر في اتصالاته مع قادة الثورة العراقية وشيوخ جنوب العراق وأصبح محل اقامته مجمعاً للمعارضين. ولما عاد إلى الموصل استقبل استقبالاً شعبياً لم تشهد له الموصل مثيلا.
لقد كان لمصطفى الصابونچي، إلى جانب نشاطه السياسي، أعمال وطنية وخيرية كثيرة. وقد شارك في تأسيس جمعية الدفاع عن فلسطين وتبرع بمبالغ كبيرة لشراء الأسلحة للمجاهدين الفلسطينيين بعد عام 1948.
لقد كان للصابونچي دوره في تأسيس أول غرفة تجارية في العراق، هي غرفة تجارة الموصل 1884 كما ارتبــط اسمه بالحركة العربية القومية التي ناوأت العثمانيين سراً. كما كان عضواً في مجلس إدارة ولاية الموصل بين 1895 و 1911.
عقلية صناعية جبارة:
لقد امتلك الصابونچي ثقافة متطورة، وكان هاجسه خدمة وطنه. وكان لسفره الدائم واطلاعه على ما يجري في الدول المتقدمة أثر في اتجاهه نحو بناء صناعة وطنية. فانشأ سنة 1928 معملاً باسم (منتوجات معمل الصابونچي الوطنية) والذي كان مخصصاً لإنتاج المنسوجات والملابس الرجالية والنسائية.
وفي سنة 1929 استورد معملاً لتقطير العطور، وقد أطلق على بعض عطوره اسماء عديدة منها (عطر ياسمين). وأسس معملاً لإنتاج السكائر من التبوغ العراقية، وقد حملت سكائره أسماء منها (سكائر عروسة) و (سكائر فاطمة رشدي). وقد نظم كاتبه ومحاسبه الشاعر المعروف (بطرس أدمو) قصائد في التغني بسكائر الصابونچي.
وكان للصابونجي معمل للبسكويت وآخر للخزف الصيني وثالث للتريكو. كما أسس معملاً لصداري طالبات وطلاب المدارس، وأنشأ محلجاً للأقطان ومعملاً لطحن الحبوب وآخر للدباغة، فضلا عن معامل للنسيج والكبريت والاسمنت.
وحين شعر الصابونچي بحاجة العراق إلى مشروع صناعي لإنتاج الزيوت النباتية التي كان يستوردها وتستنزف أثمانها ثروات البلاد، اتفق مع خته محمد حديد وجعفر أبو التمن وكامل الخضيري وآخرين علي انشاء شركة الزيوت النباتية العراقية المحدودة التي باشرت اعمالها سنة 1939، وكانت تلك الشركة من المشاريع الرائدة والتي تعرف اليوم بالمشاريع المختلطة، وكان للمصرف الصناعي حصة في رأسمالها.
لقد وضع الصابونچي لنفسه اهدافاً وطنية اقتصادية سعى الى تحقيقها من خلال إقامة صناعة حديثة وتحسين إنتاجها وحمايتها من منافسة المنتوجات الأجنبية، كما دعا الحكومة إلى تشجيع الصناعة الوطنية ومنحها الاعفاءات والتسهيلات اللازمة وشجع الاهالي على الاستثمار في مشاريعه ورفع شعارات منها: اخدموا أنفسكم وبلادكم، احفظوا دراهمكم بشرائكم منتوجاتكم الوطنية ولا حياة لبلاد تذهب دراهمها للخارج ولا تعود.
مصطفى الصابونچي يقوم بإنارة شوارع الموصل:
لمصطفى الصابونچي فضل في إنارة شوارع الموصل، وقد حدث ذلك في العام 1921 حينما اشترى بعض المولدات من الجيش البريطاني ونصب الأعمدة ومدَّ الاسلاك الكهربائية على حسابه الخاص والتي انارت بعض الشوارع والبيوت، وقد تعاقد مع البلدية على ذلك.
لقد عُثر على وثائق تشير إلى أن مصطفى الصابونچي قدَّم طلباً إلى رئيس بلدية الموصل عام 1921 ذكر فيه أنه يريد نصب مولدات ( لأجل استحصال قوة كهربائية في مقابل ماكنتنا مؤسسة له في محلة الشيخ عمر). وأضاف أنه يفعل ذلك لأن الكهرباء (من أسباب العمران والخدمة العمومية). وقد وافقت البلدية على الطلب شريطة أن يقوم بوضع (مصابيح مجاناً تقوم بتنوير الأزقة وذلك بنسبة خمسة بالمائة من القوة التي يقوم بتوليدها).
مصطفى الصابونچي يُرسل بعثة دراسية:
لقد أرسل الصابونچي عام 1943 عدداً من شباب الموصل إلى القاهرة للدراسة في جامعة الأزهر على نفقته الخاصة. وقد نشرت مجلة المصوّر (القاهرية) في عددها الصادر في 2 أيار/مايو 1943 وتحت عنوان: ( بعثة عراقية في جامعة الأزهر) جاء فيها: "وصلت أخيرا بعثة مكونة من الشبان العراقيين، قدموا للالتحاق بالجامعة حيث يدرسون مدة ثلاث سنوات على نفقة السيد مصطفى جلبي الصابونچي أحد أشراف الموصل ومن كبار المحسنين العراقيين، وهذه هي المرة الأولى التي توفد فيها مثل هذه البعثة على نفقة شخص واحد ولمثل هذه المدة وعدد هؤلاء الطلاب العراقيين 7 سبعة، وقد أدوا الامتحان وبعد موافقة فضيلة الأستاذ الأكبر قُبلوا في كليات الشريعة وأصول الدين واللغة العربية.. وقد سبق لهؤلاء أن تلقوا دراسات دينية في العراق بالمدرسة الفيصلية بالموصل وبعضهم من حملة شهادة الثانوية ".
كما نشرت المجلة إلى جانب الخبر صورة جماعية لأعضاء البعثة العراقية مع شرح للصورة جاء فيه: "أعضاء البعثة، وقد ظهر في الصف الأول من اليمين الأساتذة: صالح الحاج أحمد (المتيوتي)، محمد محمود الصوّاف (رئيس البعثة)، عبد الله الشيخ مصطفى، وقف خلفهم محمد علي الياس العدواني، وعبد الرزاق عبد الرحمن، وعبد الله عمر صالح، ومحمد عبد الله الحسو".
لقد برز هؤلاء السبعة في ميدان الوعظ والتدريس والخطابة والشعر والأدب والصحافة والتربية، كما تبوء الشيخ محمد محمود الصوّاف (1915-1992) فيما بعد مكانة مرموقة في المجال الدعوي وشارك في حرب فلسطين، ثم هاجر إلى السعودية وعمل مستشارا للملك فيصل آل سعود.
ردهة الصابونچي:
لقد ورد في وثيقة محفوظة في ملفات محافظة نينوى أن المستشفى الملكي قد ضاق وأصبح لا يستوعب من المرضى إلا 250 مريضاً، فكثرت طلبات رئاسة الصحة المطالبة بتوسيعه، ولكن وزارة الصحة عجزت عن ذلك لعدم توفر التخصيصات المالية. فتقدَّم مصطفى الصابونچي سنة 1949 بطلب توسيع المستشفى الملكي وانشاء ردهة فيه على حسابه الخاص.
وقد تم إنشاء الردهة وأُفتحت في 9 شباط 1951 واستمرت تلك الردهة تقدم خدماتها للمجتمع طوال أكثر من ستة عقود. لقد كان لهذا العمل الإنساني الجليل أثرا تحفيزيا للوزارة فأنشأت سنة 1954 ردهتين للأمراض الباطنية، وقد مُنح الصابونچي؛ من دون علمه؛ وسام الرافدين تقديراً لذلك. وبقيت تلك الردهة في المستشفى الجمهوري (الزهراوي) تحمل اسمه ولغاية سقوط الموصل سنة 2014 حيث تدمَّرت المستشفى بالكامل.
أعمال خيرية أخرى:
لقد قام مصطفى الصابونچي بإنشاء وبناء وتجديد وترميم الكثير من الأبنية في الموصل، منها:
• الجامع النوري الكبير: حيث اشرف على البناء وتم توسيعه واستخدم في البناء الجديد الرخام وبنى فيه أربع منائر أخرى على حسابه الشخصي، وكان هذا عام 1363 هـ /1944 م.
• أنشاء مدرسة مصطفى الصابونچي في قلب أيمن الموصل وبجوار مبنى المحافظة، وقد خَرَّجت هذه المدرسة الآلاف المؤلفة من الطلبة من ضمنهم شخصيات كان لها أدوار مهمة في العراق.
• قام بأنشاء وتعمير العديد من الجوامع: جامع الصابونچي، جامع شيخ مجول، جامع الإمام إبراهيم، جامع الشيخ حنش، قبة مدرسة يونس النحوي، ضريح المؤرخ الكبير ابن الأثير الجزري.
لقد ساهم مصطفى الصابونچي بنشاطات كثيرة على الاصعدة العمرانية والانسانية ودعمه للعوائل وتقديمه المساعدات المالية للطلبة وتبرعاته السخية لتعمير المساجد والمراقد والجوامع والمستشفيات، كل هذه الاعمال ظاهرة للعيان، ولا زالت الناس تذكر هذا الرجل وجهوده الأصيلة، وتتمنى أن يحذوا الأغنياء حذوه في هذه الأيام الصعبة التي يعاني فيها الكثيرون من أبناء العراق.
لقد استمر مصطفى الصابونچي على نهجه الإنساني حتى وفاته يوم 17 آب سنة 1954 مخلصاً لوطنه ساعياً من اجل تقدمه ونهضته. وقد دُفن رحمه الله في مقبرة خاصة ملحقة بمسجد الإمام إبراهيم في شارع النبي جرجيس.
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
650 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع