د. جابر أبي جابر
الرحالة الروس في بلاد الشام ومصر (القرن التاسع عشر- مطلع القرن العشرين)
تحتوي خزائن المكتبة الحكومية الروسية في موسكو ( مكتبة لينين)، ضمن ما تحتويه من نفائس الكتب ، على كنز طواه النسيان ، يشمل عشرات الكتب ومئات الأبحاث والرسائل التي تركها لنا الرحالة والدبلوماسيون الروس ممن زاروا بلاد الشام ومصر وأقاموا فيها سنوات طويلة خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين . وكان ضمن هؤلاء كتاب وفنانون وعلماء ومستشرقون وعسكريون بارزون دونوا ونشروا ، بعد عودتهم إلى روسيا ، مذكراتهم وانطباعهم وأبحاثهم المتعلقة بالمنطقتين المذكورتين .
ومن دواعي الأسف الشديد أنه، ما عدا بعض الاستثناءات النادرة ، لا يزال القسم الأعظم من هذه المؤلفات خارج نطاق اهتمامات المستعربين الروس والبحاثة العرب ناهيك عن الجمهور العام . فلم يصدر بعد عام 1917 من ضمن هذا العدد الهائل من مذكرات ومؤلفات الرحالة والمبعوثين الروس أية طبعات جديدة باستثناء كتاب قسطنطين بازيلي" سوريا وفلسطين تحت الحكم التركي "، الذي أعيدت طباعته في عام 1962 وصدر مترجماً إلى العربية عن " دار التقدم" بموسكو، ورسائل المستشرق أغاثانغل كريمسكي إلى أهله وأصدقائه خلال إقامته في لبنان والتي صدرت بموسكو بكتاب في عام 1976 تحت عنوان " رسائل من لبنان " .
وفي عالمنا العربي لم تحظ المؤلفات المذكورة بالاهتمام إلا في أواخر القرن الماضي ، إذ نشرت " دار المدى" في منتصف الثمانينات رسائل كريمسكي المذكورة أعلاه بعنوان " بيروت وجبل لبنان على مشارف القرن العشرين ، دراسة في التاريخ الاجتماعي من خلال مذكرات العالم الروسي الكبير أ. كريمسكي" ثم أصدرت كتاب القنصل الروسي العام ببيروت قسطنطين بتكوفيتش " لبنان واللبنانيون" .
ومن المعروف أن المشرق العربي حظي منذ القرن الثامن عشر باهتمام بالغ من جانب المستشرقين والأوساط الثقافية في أوربا باعتباره مركز الحضارات القديمة ومهد الأديان السماوية فضلاً عن كونه يتملك موقعاً جغرافياً مميزاً . وثمة العديد من العوامل، التي عززت هذا الانشغال المتزايد، ومنها حملة نابليون على مصر وتهلهل الدولة العثمانية واشتداد التنافس الأوروبي في مجال السيطرة على طرق التجارة العالمية .
وقد كانت البواعث الدينية ضمن الأسباب التي حدت بالأوساط الأدبية والعلمية والدينية الروسية إلى صب اهتمامها على المشرق العربي وخاصة بلاد الشام حيث مهد السيد المسيح وموطن الرسل والقديسين . فهناك شيدت أولى الكنائس والأديرة ومنها انتشر الدين المسيحي في أنحاء كثيرة من المعمورة خلال القرون الميلادية الأولى . وقد كانت روسيا كما هو معروف، تعتبر نفسها حامية الأرثوذكسية في العالم وتطمح إلى لعب دور مماثل لما كانت تقوم به فرنسا وإنجلترا في هذه المنطقة التي كان المسيحيون العرب يشكلون آنذاك نسبه غير قليلة من السكان .
ولا شك أن الاهتمام بالشرق عامة وبلاد الشام ومصر خاصة قد رافق الحياة الأدبية والفكرية والاجتماعية في روسيا، طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، فقلما نجد أدبياً أو عالماً أو فناناً لم يلتفت بأنظاره إلى حضارات الشرق وآدابه وفلسفته بدءاً من ميخائيل لومونوسوف وانتهاء بنيكولاي غوميليوف .
ومهما كانت الأهداف المباشرة والنتائج النهائية لأسفار وجولات الرحالة الروس في المنطقة العربية فإنهم، عموماً، يختلفون عن كثير من الرحالة الأوروبيين في أمور عديدة ويتسمون ببعض المزايا التي ترفع من شأنهم في الميدان العلمي وتجعلهم أقرب إلى نفوسنا من المنظار الإنساني .
وتجدر الإشارة، قبل كل شيء، إلى أن الرحالة الروس كانوا بغالبيتهم العظمى يتقنون العديد من اللغات الأوروبية الحية، إلى جانب معرفتهم الجيدة باللغتين اللاتينية واليونانية، مما أتاح لهم إمكانية الإطلاع على مؤلفات المؤرخين الأوروبيين القدامى وأعمال المستشرقين والرحالة المعاصرين حول بلاد الشام ومصر قبل مجيئهم إليها ، وكانوا إجمالاً غير متحيزين في مواقفهم من الأديان والمذاهب وفي تقييماتهم للصراعات والنزاعات الدينية والطائفية. ولم يتقوقع معظم هؤلاء في دراستهم وتحليلاتهم ضمن نطاق وجهة النظر الرسمية السائدة ، رغم أن بعضهم كان يشغل مناصب كبيرة أو كان قد أوفد إلى المنطقة العربية بمهمة رسمية .
ومن الشخصيات الروسية البارزة، التي قامت برحلات إلى البلدان العربية، يمكن أن نذكر الكاتب والناقد والدبلوماسي المعروف دمتري داشكوف، الذي كان خلال الأعوام 1829-1832 يشغل منصب وزير العدل في الحكومة القيصرية، وقد زار فلسطين في عام 1820 عندما كان يعمل قنصلاً في السفارة الروسية بالأستانة وتحدث عن أعمال والي عكا عبد الله باشا حيث وصفه بالجزار الثاني نظراً لسياسة البطش والأرهاب التي كان يتبعها .
ويتطرق داشكوف فى كتابه " رحلة إلى فلسطين واليونان " إلى العلاقة القائمة بين ممثلي الطوائف المسيحية في القدس ونشاط البعثات التبشيرية هناك ، فيقول :"إن كل جانب يسعى للاستئثار بالأماكن المقدسة، أما السلطات التركية فتعمل على غرس روح العداء بين المسيحيين لتحقيق مآربها ومصالحها الخاصة ".
وقد رافق داشكوف في رحلته إلى فلسطين الرسام المعروف مكسيم فوروبيوف ، الذي كان من أبرز ممثلي المدرسة الرومانسية في الفن التشكيلي الروسي ، وقام هناك برسم العديد من اللوحات الرائعة .
وتجدر الإشارة، بصورة خاصة، إلى مؤسس الاستعراب الروسي أوسيب سينكوفسكي (1800-1858) ، الذي قام ، خلال العقدين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر، بعدة رحلات إلى بلاد الشام ومصر حيث رسم لوحات جغرافية وإثنوغرافية وأثرية واقتصادية تفصيلية عن هاتين المنطقتين . وقد قابل أثناء إقامته في مصر الخديوي محمد علي باشا وتحدث في مذكراته " ذكريات حول الشرق " عن الأعمال الضخمة والمشاريع العديدة التي قام بها والي مصر الشهير بلهجة لا تخلو من السخرية والنقد .
وأمضى سينكوفسكي أثناء إقامته في سوريا ولبنان وقتاً طويلاً في البحث عن المخطوطات العربية والإطلاع عليها . وتابع دراسته للغة العربية عند العلامة أنطون عريضة في عينطورة، فكان أخر تلامذته من الأوروبيين . وقد ترأس سينكوفيسكي ، طيلة خمسة وعشرين عاماً (1819-1848) قسم اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ ونشر عشرات القصص والحكايات والقصائد العربية، التي ترجمها إلى اللغة الروسية ، مثل" موت الشنفري" و"البدوي" و"اللص" و"معلّقة لبيد بن ربيعة" و" فارس الحصان الكميت" و" عنترة" التي فيما بعد استوحى منها ريمسكي كورساكوف موضوع سيمفونيته الشهيرة "عنترة" .
وفي عام 1830 قام الكاتب الروسي المتخصص في الشئون الدينية أندريه مورافيوف ( 1806-1874) برحلتين طويلتين إلى بلاد الشام ومصر كان هدفهما الرئيسي التعرف على مهد المسيحية وزيارة الأماكن التي يرد ذكرها في الكتاب المقدس. وكان حصيلة هاتين الرحلتين مثمرة للغاية . فقد نشر كتابين تضمنا مشاهداته وانطباعاته حول بلاد الشام ومصر، وهما "رسائل من الشرق" و" رحلة إلى الأماكن المقدسة" . كما وضع مؤلفاً يقع في سبعمائة وخمسين صفحة عن تاريخ مدينة القدس منذ القرن الأول للميلاد وحتى منتصف القرن التاسع عشر . وقام أيضاً، بتأليف مسرحية مستوحاة من أحداث الحروب الصليبية بعنوان " معركة عند ضفاف طبريا أو سقوط الصليبيين " . وكان ذلك أول عمل أدبي روسي تدور أحداثه في بلاد الشام ويتضمن العديد من شخصيات المنطقة . والجدير بالذكر أن الشاعر الروسي بوشكين نشر له الفصل الثالث من هذه المسرحية في مجلته الأدبية " المعاصر ".
وخلال زيارته لمصر التقى مورافيوف بمحمد علي باشا ووصفه بالشيخ الشهير والحاكم الفذ الذي لم يعرف تاريخ مصر سوى القلة من أمثاله ، ولكنه أشار إلى أن الشعب المصري مثقل بأعمال السخرة والضرائب المختلفة ، وهو يرزح تحت عبء الاحتكار القاسي الذي فرضته الحكومة على الزراعة والصناعة والتجارة في البلد ، والذي لا يغني إلا خزينة الباشا .
ومن الشخصيات البارزة ، التي تعرفت بصورة دقيقة على بلاد الشام كان الدبلوماسي الشهير قسطنطين بازيلي . وهو يوناني الأصل وقد درس في مدرسة واحدة بأوديسا مع الكاتب الروسي نيكولاي غوغول . وشغل بازيلي لفترة طويلة ، منصب القنصل الروسي العام في بيروت ( 1839-1853) وخلال إقامته هناك ، اطلع جيداً على مختلف مدن ومناطق بلاد الشام ، وتعرف عن كثب ، على أحوال السكان . وكان شاهد عيان على المنازعات الداخلية الدموية التي عصفت بلبنان خلال الأعوام ( 1841-1845). وقام بجمع الكثير من المصادر والمعطيات التاريخية حول المنطقة. وتجسد ذلك كله في كتاب " سورية وفلسطين تحت الحكم التركي" الذي صدر في أوديسا عام 1862 . وهو كتاب بالغ الأهمية حول تاريخ بلاد الشام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .
ومن العلماء الروس البارزين ، الذين زاروا بلاد الشام ومصر ووضعوا أبحاثاً ودراسات عنها ، كان العالم الجغرافي والجيولوجي بيوتر تشيخاتشوف ( 1808-1890) الذي أرسل إلى سوريا ومصر بمهمات من قبل الحكومة الروسية، وخلال زيارته لمصر تعرف على معالم البلد التاريخية والأثرية وتوجه جنوباً حتى وصل إلى الشلال الأول لنهر النيل .
وفي السنتين ( 1834-1835) ، قام العلامة الروسي ابرام نوروف بجولات عديدة زار خلالها فلسطين ومصر . وقد درس أثناء ذلك بتمعن بالغ ، شتى جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتلك البلاد ، وجمع مواد ومعطيات كثيرة وقيمة للغاية . وقد أسفرت رحلته الأولى عن تأليفه لعدة كتب وهي:" رحلة إلى أرجاء الأراضي المقدسة" و" رحلة إلى مصر وبلاد النوبة و" رحلة إلى الكنائس السبع" إلى جانب المقالة العلمية " دراسة حول جزيرة الأطلنطس" .
ويتحدث نوروف، في كتابة الأول، عن رحلته من مصر إلى فلسطين عبر برزخ السويس والعريش وغزة وإقامته في فلسطين ، وهو يشير ، في معرض تعليقه على مشروع شق قناة السويس ، أكد قائلاً:" أغلب الظن أن هذا الشريان البحري سيعود بالنفع الأكبر على الإنجليز وليس على المصريين، وربما سيؤدي إلى استعباد أوروبا لهذا البلد العريق . وقد كان محمد علي باشا يدرك ذلك تمام الإدراك ، ولهذا عارض فكرة شق قناة السويس ،،.
أما كتابه " رحلة إلى الكنائس السبع" فقد جاء حصيلة جولات المؤلف في مدن فلسطين ومناطق الأناضول، أي الأماكن التي يرد ذكرها مراراً وتكراراً في الإنجيل وأعمال الرسل . ويتضمن هذا الكتاب تأملات حول موضوعات من العهدين القديم والجديد استوحاها المؤلف من خلال مشاهدته للآثار التاريخية وزيارته للأماكن المقدسة . وهنا يشغل حيزاً كبيراً وصف المشاهد الطبيعية والنشاط الاقتصادي والحياة اليومية لسكان المناطق المذكورة .
ومن أبرز رجال الكنسية الروسية الأسقف بورفيريوس اوسبينسكي (1804-1885) الذي كان رئيساً للبعثة الكنسية في القدس في الأعوام 1846-1853 . وقد جاب خلال هذه الفترة العديد من مدن الشام ومصر ولعب دوراً كبيراً في تعزيز نفوذ الكنسية الأرثوذوكسية الروسية في البلدان المذكورة .
ورغم أن أوسبينسكي لم يكن مستعرباً أو ضليعاً باللغة العربية، إلا أنه كان في طليعة الذين لفتوا الأنظار إلى المخطوطات العربية المسيحية، وقد اكتشف العديد من المؤلفين الذين كان قد طواهم النسيان واقتنى مخطوطة من أهم مخطوطات يحيى الأنطاكي التي اعتمد عليها فيما بعد المستشرق الروسي المعروف فكتور روزين في بحثه الشهير " الامبراطور باسيليوس ومدونة يحيي الانطاكي".
ففي مذكراته عن رحلته إلى دير القديسة كاترين، التي صدرت في بطرسبورغ عام 1856 بعنوان " الرحلة الأولى للأرشمندريت بورفيريوس اوسبينسكي إلى دير سيناء "، يتحدث المؤلف عن حياة البدو وتقاليدهم. ويتوقف عند وصف الدير المذكور والممتلكات المختلفة العائدة له وخاصة البساتين وأحراش الزيتون والنخيل .
وفي كتاب " رحلة في أرجاء مصر" يصف أوسبينسكي إبحاره من يافا إلى الاسكندرية وزيارته لمدينتي الاسكندرية والقاهرة وجولاته النهرية ، فيشير إلى " أن الحركة في نهر النيل نشيطة ودافقة اذ تجوبه المراكب الكبيرة والصغيرة ذات الألوان المختلفة ، فها هم صيادو الأسماك يلقون بشباكهم في مياة النهر الخالد ، ويندفع أمامنا مركب شراعي صغير محمل بالقطن، وها هو نوبي أسود حافي القدمين يعَوم بالنهر القدَر الخزفية والجرار المربوطة على شكل عوامة، وهو يقف عليها ويجدف بمجداف دميم .
إن إعمال اوسبينسكي المتعلقة بإقامته ورحلاته في بلاد الشام ومصر ذات قيمة كبيرة لما تتضمنه من وصف مسهب للمدن والأماكن التي زارها ومشاهدات وملاحظات اثنوغرافية وجغرافية وأثرية . وبالإضافة إلى ذلك فقد خصص أوسبينسكي حيزاً كبيراً في مؤلفاته للحديث عن أوضاع الكنسية في بلدان المشرق العربي .
ليست مؤلفات اوسبينسكي مجرد مذكرات لراهب زار الأراضي المقدسة بقدر ما هي أبحاث رصينة لإنسان وثيق الإطلاع وواسع المعرفة أمضى حوالي ثلاثة عشر عاماً في العمل الدبلوماسي بالقدس والتجول في مختلف أرجاء سوريا الطبيعية ومصر .
في عام 1848 زار فلسطين الكاتب الروسي نيكولاي غوغول وتوقف لدى عودته إلى روسيا في بيروت حيث نزل ضيفاً عند صديقه قسطنطين بازيلي القنصل العام الروسي في بيروت الذي رافقه أثناء جولته في فلسطين .
وقد عرض غوغول انطباعاته ومشاهداته خلال رحلته في ثمان رسائل بعث بها إلى أصدقائه في روسيا من القدس وبيروت فضلاً عن الرسائل المطولة التي بعث بها إلى الشاعر والمترجم الشهير فاسيلي جوكوفسكي والتي جاء فيها : أذكر أنني رأيت على جبل الزيتون آثار قدم المسيح التي انغرست في الحجر الصلب على نحو عجيب وكأن هذا الحجر قد استحال ، للحظات من الزمن ، إلى شمع لين ، فبرزت وبوضوح تام نتوءات وقعر الكعب دقيق للغاية . وأذكر أيضاً المشهد الذي انبسط أمامي وسط الربى الرمادية الرتيبة عندما غادرت القدس إذ رأيت تلالاً تعقبها تلال لا نهاية لها ، وعندما فقدت الأمل في أن أشاهد شياً آخر عدا هذه التلال مثلت أمامي الجبال فجأة ، وذلك من وراء أحد التلال وعلى خلفية زرقاء شبيهة بنصف دائرة كبيرة .... ما أغرب هذه الجبال التي كانت شبيهة بأطراف طبق بارز الزاوية . وكانت هذه الأطراف ذات لون أزرق ضارب للحمرة، أما قعره فكان البحر الميت بلونه الأزرق الضارب للخضرة . ولم أر في حياتي مثل هذه الجبال الغريبة، فهي بلا قمم وغير مدببة الأطراف، وقد التقت أعاليها في خط مستقيم لتشكل شاطئاً جباراً، يعلو علواً واحداً على سطح الأرض، ولا يلاحظ فيها تقريباً أي انحدارات أو سفوح جبلية، فهي تبدو وكأنها تشكلت من عدد لا يحصى من الأضلاع ذات التلوينات المختلفة من خلال اللون السديمي السماوي الضارب للحمرة، وكأن هذه التحفة البركانية التي تمثل تراكماً هائلاً للصخور القاحلة تتلألأ من بعيد بجمالها الخارق .
وفي عام 1862، أوفدت الحكومة الروسية العقيد ميخائيل دوختوروف، بمهمة خاصة إلى بلاد الشام ترمي إلى شراء بعض الخيول العربية الأصيلة لاستخدامها في مرابي الخيل الحكومية في روسيا . وقد زار دوختوروف حلب وحماة وحمص وبعلبك وبيروت ودمشق والقدس، وجاءت زيارته إلى بيروت بعد وصول اللجنة الدولية للتحقيق في أسباب مذبحة عام 1860 ويشير دوختوروف في كتابة " رحلة إلى الشرق " إلى التدخل الأجنبي والتناقضات والنزاع بين الدول الأوروبية على النفوذ والسيطرة، و يحمّل إنجلترا وفرنسا المسؤولية المباشرة عن تسعير الخصومات والخلافات بين الدروز والموارنة الي أدت، في نهاية المطاف، إلى مذبحة عام 1860 . وهنا يلاحظ أنه " مهما قيل عن هذه المجزرة فثمة حقيقة دامغة لا جدال فيها، وهي أن التعصب الإسلامي لم يكن وحده وراء هذه الأحداث " .
وفي دمشق قام دوختوروف بزيارة الأمير عبد القادر الجزائري الذي استقبله بحفاوة بالغة وقدم له نصائح عديدة بخصوص أفضل الطرق لانتقاء الخيول العربية الأصيلة واهتم بمعرفة أحوال الإمام شامل والاطمئنان عنه . ويتضح من مضمون الحديث ، الذي دار بينهما ، أن شامل إمام مسلمي داغستان وقائد الانتفاضة على الحكم القيصري كان يتبادل الرسائل باستمرار مع الزعيم الجزائري أثناء الثورة الجزائرية وبعد نفيه إلى دمشق، وأن المراسلات بين الزعيمين المسلمين لم تنقطع بعد فشل حركة شامل ونفيه إلى مدينة كالوغا الواقعة بالقرب من موسكو . كما يتبين في الوقت نفسه أن الحكومة الروسية كانت منذ فترة وجيزة قد منحت الأمير الجزائري وسام النسر الأبيض تقديراً منها للدور النبيل الذي لعبه إبان الفتنة الطائفية بدمشق عام 1860 .
من بين الدبلوماسيين الروس، الذين قضوا سنوات طويلة في بلاد الشام ولم يقتصروا على ممارسة واجباتهم الرسمية المباشرة، كان قسطنطين بتكوفيتش الذي شغل منصب القنصل الروسي العام ببيروت في غضون 27 عاماً ( 1869-1896) وكان واحداً من أبرز القناصل الروس في المشرق العربي خلال القرن التاسع عشر .
لقد جاء بتكوفيتش إلى لبنان في مرحلة تاريخية اشتد فيها الصراع بين الدول الأوربية الكبرى على هذه المنطقة . وخلال إقامته في لبنان جاب مختلف مناطق بلاد الشام واطلع على أحوالها إطلاعاً واسعاً ودقيقاً ، كما جمع مواد كثيرة حول شتى النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية وكانت حصيلة أبحاثة ، نشره للكتابين التاليين : " لبنان واللبنانيون " و" سورية وجبل الدروز " إلى جانب مقالة " النصيرية ومعتقدهم الديني " التي صدرت ضمن " المجموعة الفلسطينية " لعام 1889 .
ويشير بتكوفيتش في مقدمة كتابه " لبنان واللبنانيون" إلى " أن لبنان كان حصناً منيعاً لا للمسحيين وحدهم بل ولجميل الملل والطوائف التي كانت عرضة للملاحقة والاضطهاد . وإن هذه الطوائف ، على تباين أصولها ومعتقداتها كانت تتعايش بسلام ووفاق . ولم تبدأ هناك المشاحنات الداخلية والنزاعات المسلحة إلا عندما شرعت السلطات التركية، عن طريق الدسائس بدلاً من القوة السافرة ، بالعمل على إخضاع جبل لبنان لسيطرتها المباشرة مما أعطى الدول الأوربية فرصة سانحة لتعزيز نفوذها السياسي في المنطقة والتدخل لصالح إحدى الملل المتخاصمة ".
ويؤكد بتكوفيتش " أن سكان جبل لبنان ينتمون إلى عرق واحد وأصيل واحد ولا يتميزون عن بعضهم لا من حيث اللغة ولا ملامح الوجه ولا اللباس . فجميعهم سوريون يتكلمون لغة واحدة هي اللغة العربية " .
وفي مطلع القرن العشرين ازداد توافد المستشرقين ورجالات الأدب والعلم الروس إلى منطقة بلاد الشام ومصر. وقد اتسع نطاق رحلاتهم وجولاتهم ليشمل معظم البلدان العربية . ومن ضمن هذه الشخصيات الفيلسوف فلاديمير سولوفيف والراهب غريغوري راسبوتين والكتّاب ايفان بونين وأندرية بيلي وقسطنطين بالمونت ونيكولاى غوميلوف . وقد اهتم الأخير اهتماماً بالغاً بتاريخ العرب والشعر الجاهلي ووضع المسرحية الشعرية " الرداء المسمم" المستوحاة من سيرة حياة إمرئ القيس والتي تعرض منذ عشرات السنين على خشبة مسارح موسكو .
وكانت حصيلة رحلات بونين سلسلة من القصص والمقالات الأدبية التي أدرجت معظمها في مجموعته القصصية "ظل الطائر" والتي تتضمن الأعمال التالية " ظل الطائر " " وبحر الآلهة" و" الدلتا" و" فلسطين" و" ضوء دائرة البروج" و" الحجر" و"برية الشيطان" و" بلاد سدوم" و" وردة أريحا" إلى جانب القصائد الشعرية العديدة مثل " الراعي" و" السراب" و" الحجر الأسود" و" الإسلام" و" القافلة" و" البدوي" و" معبد الشمس" التي يقول فيها :
أعمدة رخامية ذهبية ست
يكتنفها واد مترامي الأطراف
جبال لبنان المغطاة بالثلوج
وسفح السماء الأزرق
رأيت النيل وأبا الهول العملاق
وتأملت الأهرامات الشاهقة
ولكنك يا بعلبك أقوى وأروع بكثير
أحجار ضخمة
رمادية ضاربة إلى الصفرة
في رمال جرداء
إنها بهجة سنوات الصبا
وجبال لبنان
موشحه بسلاسل الثلوج والصخور
كحلة البطاركة والملوك
حرير الماء الذهبي
اللذيذ كنسيم الجبال العليل
خلال الأعوام 1898-1903 عمل الكاتب الروسي ستبيبان كوندورشكين مفتشاً للمدارس التابعة للجمعية الأمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في بلاد الشام . وقد جاب بمقتضى وظيفته مختلف مدن وأرياف سوريا ولبنان وفلسطين وكتب في تلك الفترة عدة قصص مستوحاة من حياة الحرفيين والبدو والفلاحين نشرها بعد عودته إلى روسيا ضمن مجموعة بعنوان " قصص سورية" . وقد أهدى المؤلف هذه المجموعة إلى الكاتب والمربي الشهير فلاديمير كوريلينكو.
وتبدأ قصة "عند حدود البادية" بالوصف التالي للطبيعة المحيطة بدمشق : " انبسطت سهول الغوطة الخضراء محاطة من ثلاث جهات بالهياكل الصخرية لجبال لبنان الجرداء والحزينة .ولا يغطي هياكلها ذات اللون الضارب إلى الحمرة سوى سديم رقيق للبعد الجنوبي . فلا تلمح هناك أية شجرة أو شجيرة وكأن هؤلاء العمالقة قد نهضوا لتوهم من جوف الأرض ولم تتمكن الطبيعة بعد من أن تكسيهم بحلة خضراء .... وهذه الجبال تقف وحيدة ولكنها تصون سهل دمشق اليانع ابداً وتلاطفه بعطف كبير . فهو ابنها المدلل الذي تمنحه كل قواها وثرواتها وتحميه بأسنمتها من رياح الشمال العاتية وتعطيه كل النداوة التي تأتي بها من البحر الأبيض المتوسط والتي تتجمع قطرة قطرة ودمعة دمعة بين الصخور الجبلية لتشكل نبع نهر بردى الذي يندفع صاخباً من ثغر جبال لبنان الشرقية نحو وادي الربوة . كما أن الشيخ حرمون لم ينس واجبه فأرسل من بعيد نهر الأعوج كهدية إلى السهول الحبيبة . ويتفرع هذان النهران فيما بعد إلى مئات القنوات في مختلف أنحاء دمشق وقرى الغوطة لتسقي بساتيتها وحدائقها ".
" ولكن هذين النهرين الجبليين وفروعهما كلما اتجهت وتوغلت نحو الشرق غدت أضعف أكثر فأكثر. فقد أعطت بساتين الغوطة كل رحيقها وأضحت الآن عاجزة عن مقاومة بادية الشام التي تزحف عليها مما اضطرها إلى التوقف. ولكي تعيق زحف الصحراء لم تجد مفراً من الأنصباب في بحيرات ومستنقعات عديدة وهنا جمعت كافة قواها ووقفت سوراً منيعاً لحماية سهول الغوطة من الرمال الرهيبة " .
في عام 1908 أوفدت كلية اللغات بجامعة سانت بطرسبورج أغناطيوس كراتشكوفسكي بمهمة علمية إلى بلاد الشام ومصر لمدة عامين للتعمق في دراسة اللغة العربية وآدابها والتعرف على نفائس المخطوطات العربية القديمة . وقد طاف كراتشكوفسكي بمعظم مدن الشام ومصر وعمل طيلة العامين في مكتبات حلب ودمشق وبيروت والقدس والاسكندرية والقاهرة. واختلف إلى حلقات العلم المشهورة في معاهدها وجامعاتها ومدارسها . وفي مقدمتها الأزهر الشريف وجامعة القاهرة . وتركت هذه الرحلة انطباعاً عميقاً في نفسه . وقد قابل خلال تلك الفترة قادة الفكر والأدب والصحافة العرب مثل جرجي زيدان وأمين الريحاني ولويس شيخو ومحمد كرد علي وسليم قبعين .
اكتشف كراتشكوفسكي العديد من المخطوطات العربية الهامة التي قام، فيما بعد، بتحقيقها ونشرها في روسيا . ومن هذه المخطوطات "رسالة الملائكة " لأبي العلاء المعري التي وجدها أثناء عمله بمكتبة الأزهر عام 1910 ومخطوطة ديوان الشاعر الجاهلي سلامة بن جندل ومخطوطة " تذكرة أولي الألباب في مناقب الشعراني سيدى عبد الوهاب "
ويتحدث كراتشكوفسكي ن عن رحلته الطويلة في الفصل الثاني من كتابة المعروف " مع المخطوطات العربية " الذي جاء بعنوان " جولات في الشرق – كتب ورجال. فيقول" وصلت إلى بيروت في تموز/ يوليو عام 1908 وهناك واجهتني خيبات أمل كثيرة . فمع أنني أعرف اللغة العربية الفصحى إلى درحة لا بأس بها ، نسبياً .إلا أن ذلك كان قليل المنفعة بالنسبة للتواصل مع أهل البلد الذين يتكلمون باللهجة العامية . وكان الناس في الشوراع يفهمونني بصعوبة وكنت، بدوري، لا أفهم لغة التخاطب السريعة إلا بشق الأنفس .ولكن لابد لي من التكلم فقد كان ذلك أحد أهداف رحلتي . وكان من الضروري أن أحقق هذا الهدف مهما كلف الأمر فقررت الذهاب لمدة شهرين إلى بلدة صغيرة في جبال لبنان حيث لا يمكن أن اسمع أية لغة أخرى غير العربية ...... وهناك وجدت طبيعة جديدة وأناساً أخرين . وقد أعجبني الأهالي وعشت في دنياهم وتباعدت عني الكتب . وهناك سعيت لقضاء وقتي كله بين الناس رغبة في ممارسة اللغة المحكية . وراح ينتابني من جديد صراع نفسي بين حبي للكتب وبين ضرورة اختلاطي بالناس لتعلم لغة الحديث . وقد تخلصت أخيراً من الصعوبات التي كانت تواجهني في التخاطب" .
في عام 1911 زار الأماكن المقدسة وقام بالحج الراهب ذو الحظوة الكبيرة لدى العائلة القيصرية غريغوري راسبوتين . وبعد عودته إلى روسيا نشر انطباعاته عن هذه الرحلة الذي في كتاب صدر في عام 1915 بعنوان " أفكار وتأملات " .
وأشار راسبوتين في مذكراته إلى قيامه بزيارة طرابلس وأعلن أن قلعتها تشبه قلعة القديسين بطرس وبولس في سانت بطرسبورغ . وفي معرض حديثه عن بيروت كتب يقول " إن بيروت تقوم على شاطئ البحر المتوسط وهي تغوص كلها في البساتين ..... في هذه المدينة صارع الفارس الظافر جاورجيوس (مارجرجس) التنين وقتله .
هنا وجدنا بئر ماء وطاحونة وبركة كبيرة مغطاة بالأعشاب ........ إن جبال لبنان بجمالها الآخاذ تدفع المرء نحو الصفاء والطهارة "
ولدى وصوله إلى يافا سجل راسبوتين في مفكرته ما يلي :"إن يافا بلد النبي الياس الغيور التي صنع فيها معجزات كثيرة .... أيها الممجد الياس أننا نتوسل اليك بحرارة أن تتضرع إلى المسيح لكي يمنحنا محبته ورحمته والغبطة الأبدية..... من هنا يمكن الذهاب إلى الناصرة فها هو وادي يافا النضر الجميل جمال الجنة . ليس فى الكون أروع من هذا المكان . يقال في الإنجيل عن وفرة ثمار الأرض . واذا كان الأمر كذلك فها هي موجودة هنا . حتى أنه من غير المحتمل أن نجد في الأرض جنة بهذا الجمال والروعة ..... نوّرنا ببهائك وارحمنا برحمتك يا رب..."
وصلنا إلى المدينة المقدسة أورشليم في الطريق الأمامية . وأول عمل قمنا به هو تأدية الصلوات . ولن أستطيع هنا أن أصف انطباع السعادة القصوى . فإن الحبر عاجز وقد انهمرت الدموع من عيني كل حاج. إنها دموع الفرح ... يا للانطباع الذي تخلقه الجلجثة ! من هذا المكان كانت مريم العذراء تبكي وهم يرفعون يسوع على الصليب . وحين تنظر إلى المكان الذي وقفت فيه تنظر إلى معاناة ابنها الفظيعة، تنهمر دموعك رغماً عنك وترى بعينيك كيف حدث ذلك كله..... يا إلهي كيف حدث هذا الذي حدث : وأخذوا الجسد وأنزلوه، أي حزن وأي نواح ، في المكان الذي سجي فيه الجسد ! يا إلهي لن نأثم بعد اليوم ، خلصنا بآلامك !
لقد ذهبنا إلى نهر الأردن وأنشدنا هناك :عمادك يا رب في نهر الأردن ....، وبعد ذلك غصنا في النهر في المكان الذي عمد فيه الرب.
وكان كل منا يفكر أثناء ذلك بمغفرة الخطايا ...... يا رب طهرنا في مياة الأردن!
4844 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع