د . جابر أبي جابر
مكسيم غوركي : بين استقلالية الأديب وإغراءات السلطة
دور الأدب في عهود الاستبداد بروسيا
في مطلع القرن الثامن عشر استطاع القيصر بطرس الأكبر كسر طوق العزلة، الذي فرضته روسيا على نفسها تجاه أوروبا، من جراء اختلاف مذهبي يعود تاريخه إلى منتصف القرن الحادي عشر عندما وقع الانشقاق النهائي بين الكاثوليكية (كرسي القديس بطرس في روما) والأرثوذكسية ( بيزنطة) . وقد تسنى لهذا القيصر إنجاز إصلاحات كبيرة شملت داخلياً طبقة البويار الإقطاعية والكنيسة الأرثوذكسية وبعض المجالات الأخرى. كما قام بطرس الأكبر بفتح " نافذة" واسعة على الغرب فاستفاد ،إلى حد كبير، من خبرات انجلترا وألمانيا وهولندا وفرنسا وإيطاليا في شتى الميادين وخاصة التعليم وبناء السفن والعمارة والفنون العسكرية .
وعلى الرغم من هذا كله بقيت روسيا خلال مرحلة طويلة تعاني من نظام القنانة المستعبد للفلاحين، الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من السكان. كما استمرت هيمنة الحكم الملكي المطلق الذي ركّز جل اهتمامه على توسيع نطاق الإمبراطورية الروسية إلى أكبر قدر ممكن .
ومما لا شك فيه أن حملة نابليون بونابرت على روسيا في عام 1812 وملاحقة القوات الروسية لجيوشه ثم دخولها باريس لعبت دوراً ملحوظاً في إحداث نوع من التوعية السياسية والفكرية ضمن أوساط الضباط والجنود الروس بعد تعرفهم على بعض بلدان أوروبا الغربية مما دفعهم فيما بعد إلى القيام بمحاولة لإسقاط النظام القيصري في بداية عهد القيصر نيقولا الأول (كانون الأول/ ديسمبر عام 1825). وكان مصير أغلبية المشاركين بهذه المحاولة الإعدام أو النفي إلى سيبيريا ، ولكن بعد اعتلاء الكسندر الثاني عرش روسيا ( 185ـ 1881) شهد البلد إصلاحات بارزة حيث صدر قانون الإصلاح الزراعي، الذي أدى إلى إلغاء نظام القنانة وتحرير الفلاحين. كما تمّ إنشاء نظام قضائيّ جديد مبدئياَ مماثل للنظام المعمول به في أوروبا والمتضمن استحداث هيئة المحلفين في المحاكم. ومع ذلك فإن التطور السياسي الاجتماعي لروسيا كان آنذاك يسير بخطوات بطيئة بالمقارنة مع التطور في ميادين العلم والصناعة والثقافة .
عانى سكان روسيا الأمرّين من الحكم الملكيّ المطلق المتمثل في غياب الدستور والبرلمان والأحزاب والتنظيمات السياسية العلنية وغيرها مما يسمى حالياً بمؤسسات المجتمع المدني. وهذه العوامل بمجملها ألقت على كاهل الأدباء مسؤولية اجتماعية جسيمة نظراً لما تتصف به المؤلفات الأدبية من خصوصية متميزة. فبوسعها أن تتضمن مواقف احتجاجية غير مباشرة إزاء السلطة أو فضحاً مبطّناً للظواهر السلبية المتفشية في المجتمع وأجهزة السلطة. وقد أصبحت الأعمال الشعرية والنثرية والمسرحية، إلى جانب الألوان الفنية الأخرى، الوسيلة الوحيدة تقريباً لتصوير معاناة الفئات المسحوقة من سكان الإمبراطورية الروسية والتعبير عن تطلعات وآمال النخبة المثقفة في البلد. ومما له بالغ الدلالة أن الأدب الروسي استمر في الضلوع بهذه المهمة خلال العهد السوفيتي على الرغم من أن القيادة الشيوعية كانت مهتمة للغاية بتسخير الأدب والفن من أجل تمجيد أبطال ثورة أكتوبر والحرب الأهلية والتغني بإنجازات البناء الاشتراكيّ ومباركة "الخطوات التاريخية" لقادة الحزب والدولة.
وفي ظل الأوضاع الاستبدادية المذكورة آنفاً كان المصير المأساوي على مدى القرنين الماضيين يرافق معظم الكتاب والشعراء الروس والسوفيت. فمنهم من لقي حتفه في مبارزة فردية كبوشكين وليرمنتوف، ومنهم من قضى سنوات طويلة في السجون والمنفى السيبيري مثل دوستويفسكي وشيفتشينكو وتشرنيشفسكي، أو اختار الانتحار مثل راديتشيف وتوتشيف ويسينين وماياكوفسكي وتفسيتايفا وفادييف، أو كان مصيره الإعدام أو الموت بالسجن في ظل النظام الشيوعي مثل غوميليوف وبابيل ومندلشتام وبيلنياك، فضلا عن كوكبة من الكتاب الروس البارزين، الذين اضطروا بعد ثورة أكتوبر إلى مغادرة الوطن والعيش في المهجر، مثل نابوكوف وبونين وبالمونت وميرجكوفسكي وغيبوس وزايتسيف بالإضافة للذين هربوا أو أبعدوا إلى الغرب في عهد بريجنيف مثل أكسيونوف ومكسيموف وبرودسكي وسولجنتسين. أما غوركي فقد كانت مأساته مختلفة إلى حد كبير ومتميزة جداً .
غوركي : بدايات الإبداع الأدبيّ والنضال الثوريّ
ارتبط غوركي منذ صباه بالحلقات والأوساط الثورية وكان اختياره لهذا الطريق أمراً اعتيادياً بالنسبة لإنسان من شاكلته حيث لم تعد لديه ملامح طبقية واضحة. كما أن النخبة المثقفة في روسيا كانت آنذاك في غالبيتها مشبَعة بالأفكار الثورية. ولهذا فقد كان انضمامه إلى صفوفها مسألة حتميّة. وكانت البيئة الاجتماعية لروسيا تبدو له حشداً فظيعاً من حالات الجور والتعسف والاضطهاد. وعندما كان يحلم بحدوث هزات هائلة تدكّ صروح النظام القيصري كان ينقاد بذلك وراء مثله الأعلى المتّسم بنزعة فوضوية لا تعترف بوجود أية قيود لحرية الإنسان. ولهذا لم يكن بمقدور غوركي أن يرغم نفسه على الالتزام بمذهب سياسيّ معين إذ أنه لم ينتسب، في واقع الأمر، إلى أي حزب أو تنظيم سياسي رغم أنه كان ينتمي شكلياً إلى الجناح البلشفيّ من حزب العمال الاشتراكيّ الديمقراطيّ الروسيّ .
لقد أدخل غوركي إلى الأدب الروسيّ شخصية جديدة تتمثل في الإنسان الجوال المتشرد الحافي. وأدى ظهور هذا النموذج الأدبيّ الجذاب إلى تمجيد مُبدِعه. ولكن من الخطأ الفادح اعتبار النموذج المذكور صورة للبروليتاري الأوروبيّ الغربيّ. فالمعروف أن غوركي كتب قصصه القصيرة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر عندما كانت الطبقة العاملة الروسية قد ظهرت لتوها. وطبعاً لم يكن لديها آنذاك تقاليدها الراسخة أو مؤسساتها القوية. فإن الفتيان الريفيين، الذين تركوا قراهم النائية وانتقلوا للعيش في المدن، كانوا عادة يفقدون كل صلة لهم ببيئتهم القديمة ومحيطهم السابق ولكنهم، في الوقت نفسه، كانوا عاجزين على الاندماج في الوسط الاجتماعي الجديد. ويبدو أن بهجة هؤلاء الناجمة عن انعتاقهم من قيود الوسط الريفي ورتابته وحصولهم على نوع من الحرية في المدينة قد امتزجت بمشاعر الاحتقار تجاه كل ما كان يستوجب في الماضي الاحترام والتقديس .
ولم يكن لدى هذا "البروليتاريّ" الجديد، الذي نشأ على أنقاض العلاقات الاقتصادية القديمة، مشاعر دينية قوية وفي حال توفرها كانت تتلا شى بفعل تأثير الحياة الدنيوية للمدينة المتشبعة بالنزعة المعادية للمؤسسات الدينية. وهذا الإنسان الجديد وجد نفسه بعد تخليه عن تقاليد الفلاحين الروس في كنف مجتمع لم يتبلور بعد. ولم يعد هذا المجتمع يتقبل جديا الدين أو أية قواعد أو معايير أخلاقية أخرى .
فهذا الإنسان الحافي والمتشرد قادر على الإتيان بعمل نبيل. ولكن بوسعه، من جهة أخرى، أن يرتكب عملاً شريراً دون أي تردد. لقد كان هذا النمط من الناس نموذجاً روسياً خاصاً انتشر على نطاق واسع في تلك الحقبة الزمنية، التي بدأ فيها غوركي حياته الأدبية. غير أن هذا النموذج بقي خارج اهتمامات الكتاب الروس، الذين وجهوا أنظارهم إما نحو الفلاح أو نحو الشرائح العليا من المجتمع الروسي. والمعروف أن حياة الفلاحين ومصائرهم شغلت حيّزاً كبيراً من اهتمام معظم كتاب وشعراء روسيا وانعكس ذلك الاهتمام، بصورة ملحوظة، على مؤلفاتهم . وقد أضفى بعضهم مسحة شاعريّة وطابعاً مثالياً على حياة الأرياف بينما كان آخرون يصوّرون ذلك بألوان قاتمة. وهكذا فإن النموذج الجديد الذي ابتكره غوركي أصبح اكتشافاً خاصاً به وكان من وحيه وإلهامه .
في عام 1898 ظهرت أول مجموعة قصصية لغوركي في مجلدين من القطع المتوسط وسرعان ما لقيت نجاحاً منقطع النظير فأصبح متشرد الأمس كاتباً شهيراً. وتعتبر هذه المجموعة بالذات التحفة الأساسية لمؤلفات غوركي من وجهة النظر الأدبية البحتة. ويشير العديد من النقاد إلى أنه لم يتسنَّ لغوركي في المراحل اللاحقة تجاوز التألق الرائع لأعماله المبكرة المتميزة بسلاسة الأسلوب وطراوة الألوان وغزارة الصور الفنية وكمالها. ففي هذه المؤلفات يمتزج التوقد الرومانسيّ والخيال الوثّاب بالإحساس المرهف والنظرة الثاقبة إلى الواقع. ولكن فيما بعد أصبح أسلوبه ثقيلاً إلى حد ما إذ استبدل السرد التلقائيّ الطبيعيّ بجهود عنيدة تستهدف،في أغلب الأحيان، البرهان على مصداقية فكرة ما. ولم يعد غوركي ذلك الطائر الطليق الصداح، الذي عهده القارئ سابقاً، إذ انجرّ إلى دوامة الصراعات السياسية والفكرية التي كانت تهز البلد قبل ثورة أكتوبر. فدأب في كثير من الأحيان إلى إقحام الإيديولوجية الشيوعية، التي كان يفرضها عليه أصدقاؤه الجدد، في مؤلفاته الأدبية من شعر ونثر وأعمال دراميّة. وتُستثنى من ذلك مسرحية "الأعداء" حيث أن الكاتب كان يسعى عبر تناوله لشخصية ابنة شقيق صاحب المصنع، المشغوفة على نحو رومانسي بالأفكار البلشفيّة الثوريّة، إلى توجيه انتقاداً مَبَطّناً لجماعة لينين باعتبارهم أشخاصاً متأثرين بالأفكار الماركسية المجردة وبعيدين كل البعد عن الواقع الموضوعيّ الملموس للطبقة العاملة الروسية والمجتمع الروسي عموماً.
غوركي وصراعه مع البلاشفة بعد ثورة أكتوير
------------------- -----------------------
جرت العادة خلال الحقبة السوفيتية على اعتبار مكسيم غوركي كاتباً بروليتارياً ومؤسساً للأدب السوفيتي ولمذهب الواقعية الاشتراكية. فهو شاعر الثورة والمبشر بقدومها ومؤلف رواية "الأم" المكرسة لنضال الطبقة العاملة الروسية في مطلع القرن العشرين . وسادت هذه التصورات حول الدور الثوري لغوركي على الرغم من أن لينين، شأنه شأن بليخانوف، انتقد في حينه قبل ثورة أكتوبر رواية "الأم" ولم يثنِ إلا على جانب واحد منها وهو أنها كتاب مفيد ملائم لحاجات الحركة الثورية الروسية .
ولم يعكر صفاء هذه اللوحة الزاهية، التي رسمتها الأوساط الرسمية السوفيتية لغوركي، سوى الإشارة إلى نزوة عابرة جرت عقب الثورة الروسية الأولى (1905ـ 1907). وقد اتسمت تلك الفترة بانشغاله في "البحث عن الله" ونزوعه إلى "الماركسية الدينية" فضلاً عن خلافاته ونقاشاته المستمرة مع لينين، الذي كان يسعى لإرجاعه إلى "حظيرة " البلاشفة وإرشاده إلى "جادة الصواب" .
كانت سيطرة لينين والبلاشفة على السلطة بروسيا في أكتوبرعام 1917 تمثل بحد ذاتها " تجربة مأسوية مرفوضة" بالنسبة لجميع ممثلي الحركة الاشتراكية الروسية المعتدلين، الذين كانوا يؤكدون باستمرار على ضرورة اجتياز البلد للمرحلة البرجوازية الديمقراطية قبل الانتقال إلى تحقيق النظام الاشتراكي وذلك نظرا لأنه، حسب اعتقادهم، لم تكن تتوفر بعد المقدّمات الضرورية للثورة الاشتراكية. ومن هذه الاعتبارات بالذات كان غوركي يقيّم ثورة أكتوبر البلشفية ويرفض الاعتراف بها رفضاً قاطعاً.
فعشية ثورة أكتوبر أشار غوركي في صحيفة " نوفايا جيزن" ( الحياة الجديدة)،التي كان يقوم بتحريرها في بتروغراد، إلى أنه "لا مكان للثورة الاجتماعية بروسيا في ظل الظروف الراهنة إذ أنه من غير المعقول أن نجعل بجرة قلم 85 بالمائة من سكان البلد الفلاحين وأمثالهم مواطنين مؤمنين بالعقيدة الاشتراكية. زد على ذلك أنه يوجد ضمنهم ملايين من الأقوام الرحل غير الروس، الذين يعيشون في ظروف ما قبل الإقطاعية". وعقب حدوث ثورة أكتوبر كتب غوركي في صحيفته قائلا: "ينبغي على الطبقة العاملة الروسية أن تفهم بوضوح أن لينين يمارس تجربته على أجساد العمال ودمائهم. فهو يعمل كباحث كيميائي ولكن بفارق واحد وهو أن الكيميائي يستخدم في تجاربه المادة الجامدة الميتة ويعطي عمله نتائج مفيدة لحياة الناس بينما يجري لينين تجاربه على الناس الأحياء ويقود الثورة نحو الهلاك المحتوم . وينبغي على العمال السائرين وراء لينين أن يدركوا تمام الإدراك أن الطبقة العاملة تخضع لتجربة قاسية ستؤدي إلى إبادة خيرة قواها وصفوة ممثليها وسيوقف لمدة طويلة التطور الطبيعي للثورة الروسية". وبعد عدة أشهر من صدور هذه المقالة أقدمت السلطات البلشفية على إغلاق جامعة شانيافسكي الشعبية بحجة رواج " آراء مغايرة" في أوساط المدرسين. وقد كان رد فعل غوركي على هذا الحدث عنيفاً حيث كتب يقول في صحيفته المذكورة : " لم يكن في وسعنا أن نتوقع شيئاً آخر من سلطة تخشى النور والعلنية، سلطة جبانة ومعادية للديمقراطية. وهذه السلطة تقوم باضطهاد العمال وتبعث بحملات تأديبية إلى المناطق الريفية لقمع حركات وانتفاضات الفلاحين.... لقد أصيب لينين وتروتسكي وأعوانهما بعدوى السلطة المُهلِكة. ويشهد على ذلك موقفهم المشين من حرية التعبير ومجمل الحريات العامة، التي ناضلت القوى الديمقراطية في روسيا من أجلها طيلة عقود عديدة. ويلاحظ أن المتعصبين العميان والمغامرين الطائشين، الذين فقدوا ضمائرهم، يندفعون نحو ما يسمى بطريق الثورة الاجتماعية. إنه، في واقع الأمر، طريق الفوضى الذي سيؤدي إلى هلاك البروليتاريا وانتكاسة الثورة".
ومن جهة أخرى لم يقف البلاشفة مكتوفي الأيدي إزاء الانتقادات اللاذعة لممارساتهم السياسية من جانب شخصية كبيرة كغوركي. فقد بدأت تظهر على صفحات البرافدا وبعض الصحف البلشفية الأخرى مقالات ومواد عديدة تتضمن اتهامات مباشرة لغوركي تشير بأن صحيفته باعت نفسها للإمبرياليين والإقطاعيين وأصحاب البنوك والبرجوازيين. وقد كانت لهجة هذه المقالات مهينة جداً بالنسبة للكاتب الذي كان اسمه رمزا للثورة ليس في روسيا وحدها فحسب بل وفي العالم أجمع .
والجدير بالذكر أن سيرة حياة "بشير الثورة" الكاتب البروليتاري مكسيم غوركي ومؤلفاته الأدبية كانت منذ مطلع القرن العشرين موضع اهتمام فائق لدى ممثلي الفئات المتنورة والأوساط الأدبية في مصر وبلاد الشام والمهجر (في الأمريكيتين) وفي ضوء ذلك تُرجمت إلى اللغة العربية عشرات القصص والأعمال النثرية الأخرى إلى جانب بعض القصائد الشهيرة مثل " أنشودة الصقر". ونشرت هذه المؤلفات في مجلات وصحف عديدة مثل ملحق "الهلال" وصحيفة "روح العصر" (القاهرة) ومجلة "الطليعة" (دمشق) وصحيفة " الإخاء" (نيويورك) . وقد أصبح غوركي في العقود 3 ـ 6 من القرن الماضي الكاتب المفضل لدى اليساريين العرب ونبراساً هادياً لمعظم الكتاب التقدميين. وليس من قبيل الصدفة أن الأغلبية الساحقة من أعماله الأدبية كانت قد ترجمت إلى العربية ونشرت بحلول منتصف الخمسينات. وللأسف الشديد لم تكن الأوساط العربية المثقفة مطّلعة على مواقف غوركي من البلاشفة والسلطة الشيوعية خلال فترات طويلة من حياته. وكان يسود الاعتقاد أن ثمة انسجاماً وتناغماً واضحين بين الكاتب البروليتاريّ والسلطة الثورية في الاتحاد السوفيتي، التي كانت تدّعي بأنها تسعى إلى تحقيق المساواة بين أفراد الشعب الكادح، وتعمل على بناء مجتمع عادل خال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان .
وبما أن صراحة غوركي ومواقفه الجريئة الرافضة لثورة أكتوبر وتصرفات قادتها باتت تقض مضاجع السلطة وتشكل، أكثر فأكثر، خطراً بالغاً عليها، نظرا لما لغوركي شخصياً من تأثير كبير على القراء، فقد أقدم البلاشفة على إغلاق صحيفة " نوفايا جيزن"، التي كانت في تلك الفترة الصحيفة الوحيدة في روسيا القادرة على أن تقول "الحقيقة الأخرى" وذلك بفضل "حصانة" غوركي. ولم يتمكن صاحبها فيما بعد من نيل الموافقة على استئناف صدورها رغم توجّهه بطلب المساعدة في هذه المسألة إلى لينين شخصياً .
لقد أسفر أسلوب تحقيق الاشتراكية عبر قمع الحريات الأساسية لمواطني روسيا السوفيتية إلى طرد وهجرة العديد من زعماء الأحزاب الثورية والتقدمية الروسية، الذين ساهموا بقسط وافر في الإطاحة بالنظام القيصري، مثل زعيم جناح المناشفة مارتوف وكبار شخصيات حزب الاشتراكيين الثوريين تشيرنوف وسافينكوف وكيرينسكي. كما أن الكثيرين من أصدقاء غوركي اضطروا إلى الهجرة من البلد ومنهم المغني الأوبرالي الشهير شاليابين والناشر المعروف غريجيبين .
كان غوركي طيلة عشرات السنين يتغنى بالحرية. ولذلك فإنه عندما قام البلاشفة بإسقاط أول حكومة ديمقراطية بروسيا في أكتوبر عام 1917 سارع إلى مناشدة القوى الديمقراطية جمعاء للتلاحم من أجل الحفاظ على ثورة شباط (فبراير)، التي شكلت ظاهرة فريدة من نوعها في التاريخ، نظرا لأنه رحبت فيها كافة فئات المجتمع وشرائحه. ولكن آماله بهذا الخصوص تحطمت كلياً في السادس عشر من كانون الثاني/يناير عام 1918 عقب قيام السلطة الجديدة بحل الجمعية التأسيسية وطرد النواب الذين جرى انتخابهم بعد ثورة أكتوبر بأسبوعين في أول انتخابات عامة بالبلد حيث عجز البلاشفة عن نيل أغلبية الأصوات.
لقد كان غوركي يحلم بسعادة البروليتاريا وبالعمل الحر الطليق المفجّر لطاقات العمال الإبداعية. فهل أُصبح العمل في "روسيا الفراعنة " الاشتراكية، حسب تعبير الكاتب الفرنسي رومان رولان، حراً طليقاً ؟ مما لاشك فيه أن غوركي قرّر بكل حزم أن يكون مدافعاً عن الانتليجنسيا الروسية وحاميا لها من سطوة الحكم البلشفي. وكان يتطلع إلى إحداث نهضة عظيمة للثقافة وسمو الروح البشرية، ولكنه وجد نفسه شاهد عيان على اضطهاد الروح والعقيدة وتجاهل العقل والضمير .
في أواخر عام 1921 غادر غوركي روسيا السوفيتية متوجها إلى إيطاليا بقصد العلاج . وقد كان العلاج، في حقيقة الأمر، ذريعة وليس سببا فعلياً وأساسياً لسفره، إذ اضطرّ الكاتب إلى استخدام هذه الحجة من أجل الخروج من البلد، الذي كانت سلطاته تقوم بتضييق الخناق على المثقفين حتى وإن كانوا من الرفاق السابقين. وتؤكد الناقدة الأدبية نينا بربيروفا في مذكراتها على أن الدواعي الحقيقية لسفر غوركي لم تكن في ظهور حاجة ماسة إلى إجراء جلسات علاجية وإنما ترجع إلى أنه لم يستطع قبول دور الممثل الصامت في الثورة وحصر نشاطه ضمن نطاق بعض الأعمال التنظيمية في الميدان الثقافي فضلاً عن التشفع المتواصل لدى السلطات البلشفية للملاحقين والمضطهدين من الأدباء والعلماء والفنانين، الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم لم يعلنوا تأييدهم لثورة أكتوبر .
غوركي في المهجر: من كابري إلى سورونتو
------------------------------------------------
رحل غوركي عن البلد لنفس الأسباب، التي ستؤدي بعد شهور معدودة (في خريف عام 1922 ) إلى هجرة كبار المفكرين والعلماء وأساتذة الجامعات مثل المفكر بيرديايف والفيلسوف فروم ومصمم الطائرات ومخترع الهليكوبتر(لاحقاً) سيكورسكي. ففي غضون بضعة أسابيع اضطر إلى مغادرة البلد حوالي 20 بالمائة من المثقفين الروس. وفي هذا العام بالذات بدأ غوركي بإصدار مجلة "بيسيدا " الثقافية الفصلية في برلين حيث كان يقيم عشرات الآلاف من المهاجرين الروس. وقد شارك في إصدار هذه المجلة الكاتب والباحث الأدبي المعروف فكتور شكلوفسكي، الذي أصبح فيما بعد مؤسس المدرسة الشكلانية في علم النقد الأدبي. وكان شكلوفسكي قد هرب من ملاحقة البلاشفة، الذين اتهموه بالارتباط مع الاشتراكيين الثوريين .
لقد تجلّت الفكرة الأساسية، التي استوجبت إصدار مجلة كهذه، في إتاحة الفرصة للكتاب والشعراء والنقاد الباقين بروسيا السوفيتية للتخلّص من الرقابة الرسمية وتجاوز رؤساء التحرير الحزبيين لكي ينشروا في المجلة المذكورة أعمالهم التي كانت تخلو، بالطبع، من أية تهجمات على الحكم البلشفي، ولكنها كانت، في الوقت ذاته، بعيدة عن وصاية هذه السلطة وإرشاداتها .
غير أن السلطات السوفيتية وقفت بالمرصاد لهذه المجلة إذ لجأت إلى شتى الوسائل والذرائع من أجل عرقلة دخولها إلى البلد مما دفع غوركي إلى رفض التعاون مع دور النشر والمجلات السوفيتية إن لم يسمح بتوزيع مجلته في روسيا .
وخلال تلك الفترة أي في غضون عام 1922 كانت تجري في موسكو محاكمة المناشفة والاشتراكيين الثوريين. وقد أثار ذلك في نفسه شعوراً مريراً وخيبة أمل كبيرة نظرا لاعتقاده الراسخ بأنه يجري الإعداد لعملية سفك دماء جديدة تشمل رفاق الأمس . وكان غوركي يعرف معرفة اليقين أن هؤلاء المتهمين ساهموا بقسط جليل في قضية الثورة الروسية وأن الكثيرين منهم تعرضوا للسجن والنفي أبان العهد القيصريّ .
وقد دفعته الأخبار المتعلقة بمحاكمة الرفاق القدامى في الحركة الثورية الروسية إلى أن يبعث رسالة للكاتب الفرنسي أناتولي فرانس يطلب فيها منه أن يساعد هؤلاء من خلال التوجه إلى السلطات السوفيتية بطلب ملح من أجل إعادة النظر في قضيتهم. والمعروف أن هذه المحاكمة تركت انطباعاً سيئاً لدى العديد من القوى اليسارية في أوروبا الغربية وخاصة ضمن أوساط المثقفين مما أدى إلى ابتعادهم تدريجياً عن روسيا السوفيتية بعد أن كانوا قد استقبلوا ثورة أكتوبر بحماس منقطع النظير. وليس من قبيل الصدفة أن انسحاب رومان رولان من الحزب الشيوعي الفرنسي جاء في عام 1922 بالذات.
كانت حياة غوركي في المهجر خلال الأعوام 1921 ـ 1928 مفعمة بالتناقضات. وثمة سؤال هنا يطرح نفسه بإلحاح وهو : أي موقف كان ينبغي عليه اتخاذه من المهاجرين الروس ونشاطهم السياسي الرامي إلى فضح ممارسات الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي؟ فبالنسبة له ككاتب بروليتاري كان الوقوف ضد السلطة السوفيتية الرافعة راية الثورة البروليتارية يعني التخلي عن ماضيه الثوري بصورة تامة. كما أن وضعه في المهجر بعد ثورة أكتوبر اختلف، إلى حد بعيد، عما كان عليه الأمر أثناء العهد القيصريّ حيث كان يعيش في إحدى الفيلات بجزيرة كابري. ففي ذلك العهد كانت إقامته في الخارج مُحاطة بهالة المواجهة وروح التصدي البطوليّة والتحدي العلني للحكم الملكي المطلق. أما الآن فنجده عاجزاًعن مخاطبة السلطة البلشفيّة بنفس اللهجة القاسية التي كان يخاطب بها الحكم القيصري . ومع ذلك فإن غوركي كان، في واقع الأمر، مهاجراً ولو أنه لم يكن يرغب في الاعتراف بذلك. كما لم يُنظر إليه في الاتحاد السوفيتي كمهاجر .
في علاقاته مع المهاجرين الروس كان غوركي متحفظاً إلى حد ما . فهو من جهة لم يبتعد عنهم ومن جهة أخرى ، لم يكن يلجأ إلى مغازلتهم . ومن المفارقات العجيبة أن غوركي، الذي ندّد مراراً أثناء وجوده في روسيا بممارسات القمع والإرهاب من جانب البلاشفة في سنوات الحرب الأهلية ووقف بحزم ضد تحطيم الثقافة الروسية " القديمة " ، أصرّ على التزام الصمت عندما وجد نفسه حرّاً طليقاً في المهجر وارتأى أنه من الأفضل أن يفكر وحده في مصير روسيا ومأساتها . ففي الكراس، الذي نشره ببرلين تحت عنوان " حول الفلاحين الروس " عمد إلى تبيان أسباب انحراف الثورة عن مسارها وابتعادها عن الحلم المشرق الذي كان يراود أجيال الديمقراطيين الروس .ولكن هذا الكراس أثار الاستياء والغضب في أوساط المهاجرين وفي روسيا السوفيتية على حد سواء فوجد نفسه في وضع لا يحسد عليه. وقد كانت التهجمات تنصب من كل حدب وصوب . كما أن لهجة السلطة في موسكو أصبحت أكثر حِدّة بعد أن اتخذ غوركي موقفاً واضحاً من محاكمة المناشفة والاشتراكيين الثوريين .
واحتاج الأمر إلى عدة سنوات لكي يَبِتَّ غوركي بصورة تامة وواضحة في موقفه غير البسيط من ثورة أكتوبر والبلاشفة. وتدل على ذلك مقالاته ورسائله التي كتبها خلال العشرينات . فغالبا ما تظهر فيها فكرة إنشاء "أممية للمثقفين" أو "محكمة ضمير" من أجل قطع الطريق على ممارسة السلطة للأعمال القمعية والتنكيل ضد المواطنين. وتجلى هذا الطرح على نحو واضح في الموقف الذي اتخذه غوركي من السجال الدائر بين رومان رولان وهنري باربوس على صفحات المجلات والجرائد الفرنسية في أواخر عام 1922 ومطلع عام 1923.
ففي رسالته المؤرخة في 20 كانون الثاني ( يناير) عام 1922 يعرب غوركي عن موافقته التامة على ما جاء في رد رولان على باربوس وهو الرد الذي نشرته مجلة "الفن الحر" البلجيكية (العدد الأول، عام 1922). وقد أوضح غوركي قائلا : "إن محور جوابك على باربوس يكمن، حسب اعتقادي، في تقييمك للمبدأ المكيافيلي الذي ينص على أن الغاية تبرر الوسيلة. أية غاية يا ترى؟ فهل المقصود بذلك تأمين الظروف التي من شأنها أن تتيح تربية وإعداد أناس طيبين وأذكياء وأقوياء وشرفاء؟ يبدو من الواضح لي ومنذ فترة طويلة أن الوسائل المستخدمة حالياً لخلق مثل هذه الظروف تؤدي في واقع الأمر إلى نتائج عكسية تماماً. ومنذ الأيام الأولى لثورة أكتوبر كنت أدعو إلى ضرورة الالتزام والتمسك بالجانب الأخلاقي في النضال السياسيّ. وكانوا يقولون لي أن هذه نظرة ساذجة وغير قابلة للتحقيق بل ضارة كذلك ... لا يوجد اشتراكيون حقيقيون ولا يمكن أن يظهر مثل هؤلاء قبل أن يغرس المبدأ الأخلاقي في وعيهم وقبل أن يصبح هذا الجانب قوياً مثل الدين في فجر نشوئه. وهذه الأفكار ليست وليدة اللحظة الراهنة وإنما هي ثمرة معاناة وتأملات طويلة الأمد ولهذا فقد كلفتني ثمناً باهظاً. إنها تجعلني ملزماً أن أعبر عنها بتلك اللهجة الحادة والقطعية" .
و يتابع غوركي حديثه في نفس الاتجاه ضمن رسالة أخرى موجهة إلى رولان (21 نيسان/ أبريل عام 1922 ) حيث يقول : " لا أشعر بأية رغبة في العودة إلى روسيا. فهناك لم يكن بوسعي ممارسة الكتابة الأدبية حيث كنت مضطرّاً لإضاعة وقتي في الترديد المتواصل لعبارة "لا تقتلوا ". ولذلك فإنني لن أعود إلى روسيا وقد أصبحت أشعر بنفسي، أكثر فأكثر، إنسانا بلا وطن" . ومع ذلك كان غوركي يشعر في المهجر بوحدة قاسية. وقد أكد على معاناته الشديدة من هذه الوحدة في رسالته إلى رولان المؤرخة في 2 كانون الأول / ديسمبر عام 1922 إذ قال : " لقد أصبحت الحياة صعبة جداً يا صديقي العزيز وخاصة في الليالي عندما تجد نفسك مرهقاً من كثرة القراءة ولا تتمكن،في الوقت نفسه، من النوم . فهناك في الوطن يحارب الشيوعيون وتهب العواصف الثلجية فتغمر الثلوج الأرض وتطمر الناس كثبان الكلمات الدعائية لصحف السلطة والخطابات والعبارات الرنانة. إنها كلمات رائعة من حيث الشكل والصياغة ولكنها باردة كالثلج . فعندما يكون التعصب بارداً نجده أكثر برودة من الصقيع. ومع ذلك فإنني معجب بالتوتر المدهش لإرادة زعماء الشيوعية الروسية بل أشعر أحياناً بالأسف لكوني غير متفق معهم بخصوص أسلوب التعامل القمعي مع رجالات الثقافة والفكر ولن أوافقهم على ذلك أبداً" .
في 21 كانون الثاني/ يناير عام 1924 توفي زعيم الثورة البلشفية ومؤسس الدولة السوفيتية فلاديمير لينين . وقد كانت أواصر الصداقة المتينة تربط لينين بغوركي على الرغم من الانتقادات اللاذعة التي وجهها الكاتب البروليتاريّ إلى صديقه الحميم عقب ثورة أكتوبر وفي السنوات اللاحقة. وتجدر الإشارة إلى أن لينين كان تقريباً الصديق الوحيد لغوركي ضمن الزعماء البلاشفة الذين كان معظمهم يَكِنّ مشاعر العداء لهذا الكاتب وفي طليعتهم تروتسكي .
لقد حل خبر وفاة لينين كالصاعقة على غوركي ليحدث على الفور انعطافاً ملحوظاً في موقفه من لينين وروسيا الثورية وكذلك في تطلعاته الفكرية. ويتخلل الأسى العميق رسالته إلى رولان المؤرخة في 3 آذار/ مارس عام 1924 حيث يقول: " أجل أيها الصديق العزيز، لقد كانت وفاة لينين ضربة قاسية بالنسبة لي، ناهيك عن كونها تشكل خسارة فادحة لا تعوض بالنسبة لروسيا ... لقد كنت أحبه. وكان حبي له يمتزج دائما بنوع من الغضب. وكنت أتحدث معه بلهجة شديدة وأنتقده بدون رحمة" .
كان غوركي يعقد آمالا كبيرة على لينين بخصوص لجم جماح نزعات البطش الاستبدادية تجاه ممثلي الانتلجنسيا الروسية "القديمة" وتخفيف حدة مشاعر الكراهية نحو الروس والثقافة الروسية عند سادة البلد الجدد الذين كان اليهود يشكلون غالبيتهم العظمى .
في عام 1924 انتقل غوركي إلى بلدة سورينتو السياحية فاستأجر هناك إحدى الفيلات الجميلة الواقعة على شاطئ خليج نابولي. وفي هذا الركن الهادئ أمضى سبع سنوات مفعمة بالعمل الإبداعي الدؤوب والغزير.
وهناك كتب غوركي مجموعة كبيرة من أبرز مؤلفاته الأدبية مثل ثلاثية "حياة كليم سومغين" وقصة "أسرة أرتامانوف" ومسرحية "ايغور بوليشتشوف وغيره" ومقالة" ف. أ. لينين". وفي الوقت نفسه كان الوطن يذكٍّرَه بنفسه يومياً من خلال عشرات الرسائل التي كان يبعثها إلى غوركي بدون انقطاع أصدقاؤه القدامى وأدباء معروفون وكتاب ناشئون وعمال وطلاب وأعضاء في منظمة الشبيبة الشيوعية ( الكمسومول) .
لقد أصبحت شخصية غوركي وحياته في سورينتو موضع اهتمام بالغ في الاتحاد السوفيتي وخارجه. وكان يطرح التساؤل التالي : لماذا لا يعود الكاتب إلى بلده ؟ وهل أن مسألة العلاج هي التي تحول دون ذلك وتبقيه في أوروبا ؟
وأصبحت مسألة عودة غوركي إلى الاتحاد السوفيتي تُطرح على بساط البحث بحدة أكثر فأكثر. وكانت صحف المهاجرين الروس والصحافة الغربية عموما تسعى إلى تضخيم الخلافات القائمة بين غوركي والسلطة السوفيتية .
وتتجلى الأسباب الحقيقية، التي دعت غوركي فيما بعد إلى مهادنة السلطة السوفيتية والتصالح معها، في طبع الكاتب وعالمه الداخلي المعقد والمتناقض للغاية. فقد رسم غوركي لنفسه صورته " المثالية" الخاصة كشاعر الثورة والبروليتاريا، التي يختلط فيها الوهم بالواقع. ومع أن الثورة نفسها جاءت بعيدة عن تلك الثورة، التي ابتدعها خياله الخصب، فإن مجرد التفكير في احتمال فقدان هذه الصورة و" تشويه سيرته " الرومانسية الثورية كان أمراً لا يطاق بالنسبة له. فالمال والسيارات والبيوت كانت أموراً قد تهِم الناس المحيطين به. أما هو فكان يحتاج إلى شيء آخر تماماً. وفي نهاية المطاف باع نفسه، كما يقول صديقه الشاعر المهاجر خوداسيفتش، ولكن ليس لقاء المال وإنما للحفاظ على الوهم الرئيسي في حياته. فمهما كانت طبيعة الثورة فهي قادرة على أن تضمن له مجد الكاتب البروليتاري العظيم وتوفر له بعد الوفاة رقعة صغيرة في جدار الكرملين تحتضن رفاته. وبالمقابل كانت الثورة تطلب منه السكوت عن أخطائها وتمجيد منجزاتها .
على كل حال فإن قرار غوركي بالعودة إلى الوطن جاء بعد تردد طويل. وقد غلبه الحنين إلى الوطن والشعور بالمسئولية تجاهه فضلاً عن آلاف الرسائل، التي تلقاها من المواطنين السوفيت العاديين من عمال وكولخوزيين وطلاب وكومسموليين. وكان هؤلاء يدغدغون مشاعره ويناشدونه العودة إلى الوطن. وفي واقع الأمر كانت السلطات الشيوعية وراء تنظيم هذه الحملة.
العودة النهائية إلى الوطن
-----------------------
في عام 1931 عاد غوركي إلى الاتحاد السوفيتي ولقي لدى وصوله استقبالا حافلا على الصعيدين الرسميّ والشعبيّ. وخلال الشهور الأولى بعد عودته كان غوركي يميل إلى مدح وتمجيد الوضع القائم إذ سره جداً مرأى المصانع والمعامل التي أعيد بناؤها أو المبنية حديثاً بالمقارنة مع حالة الدمار والخراب التي كانت سائدة في مطلع العشرينات. ومما لا شك فيه أن روسيا السوفيتية لم تعد ذلك البلد المضطرب والمتهيج الذي عرفه أبان الحرب الأهلية، التي دارت رحاها بين الحمر والبيض، بين الشيوعيين المدعومين، بصورة رئيسية، من قبل ممثلي الأقليات من يهود وبولنديين وجورجيين وبين المعادين لثورة أكتوبر من الروس أساساً، الذين عقدوا آمالهم في سحق الثورة على تلقي المساعدة من جيوش الدول الغربية ( فرنسا وبريطانيا إلخ .) .
لقد أصبحت روسيا بعد حوالي عشر سنوات من انتهاء الحرب الأهلية أشبه بمصر الفراعنة، حسب تعبير رولان، حيث كان الشعب ينشد ويغني أثناء تشييده للأهرام. ففي الثلاثينات قام ملايين العمال والسجناء السياسيين المنفيين ببناء عدد كبير من المشاريع الضخمة في الاتحاد السوفيتي كالسدود والقنوات والمجمّعات الصناعية. وفي ظل هذه الأجواء غمرت غوركي الأحاسيس الجياشة وغرق في دوامة التصفيق الحار والهتافات الشعبية ووجد نفسه محاطاً باهتمام ورعاية أعضاء الحكومة الستالينيّة ومشبعاً بالمديح والإطراء ومغموراً بآيات العناية والحفاوة. وقد أصبح غوركي ، شاء أم أبى، واحداً من الرموز الأساسية لـ " الانتصارات الستالينية". وتكريماً له فقد أطلق اسمه على السفن والطائرات والشوارع والمسارح وكذلك على مدينة نيجني نوفغورد العريقة، التي وُلِد وترعرع فيها، فصارت "غوركي" على الرغم احتجاجه الشديد بهذا الصدد.
وخلال الحفل الرسمي المكرّس للمناسبة المذكورة، والذي أُقيم في أيلول / سبتمبر عام 1932، أكد الرقيب الصارم والمشرف النشيط على الثقافة السوفيتية أندريه جدانوف أن مدينة التجار القديمة ذات الطبائع والعادات الهمجيّة ستزول من لائحة التاريخ لتحل مكانها مدينة غوركي الاشتراكية الجديدة.
وقد أثلجت صدر غوركي اللقاءات العديدة مع القراء والاستقبال الحافل، الذي كان يلقاه على الصعيدين الرسميّ والشعبيّ. وكانت مقالاته ورسائله في تلك الفترة حافلة بالتفاؤل السطحي والاعتزاز الخادع. وبالإضافة إلى ذلك مارس الكاتب في السنوات الأخيرة من حياته نوعاً من النقد الذاتي تجاه المواقف، التي كان يشغلها تجاه البلاشفة، منذ اندلاع ثورة أكتوبر في عام 1917 وحتى عودته النهائيّة إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1931. وإذ أعاد النظر في تقديراته وتنبؤاته التشاؤمية الواردة بمجموعة مقالاته" أفكار سابقة لأوانها"(عام 1918) فإنه بذلك شطب أهم ما عبّر عنه آنذاك بقناعة راسخة وألم عميق . لقد تخلى عن إدانة العنف الثوري في أشكاله المتطرفة ناسياً دعواته إلى عدم إسقاط القيم الإنسانية العامة في العمل السياسي انطلاقاً من اعتبارات طبقيّة معينة وإلى الحفاظ على قواعد السلوك والأخلاق البسيطة والأزليّة.
ويبدو أن أجواء القسوة وعدم التسامح، التي كانت تفرضها القيادة الستالينية في شتى نواحي الحياة، تركت بصماتها الواضحة على مواقف وتصرفات غوركي. فإن الكاتب، الذي كان في السنوات السابقة يدافع بحماس منقطع النظير عن رجالات الثقافة في الاتحاد السوفيتي ويسعى إلى حمايتهم من سطوة القمع والإرهاب، أصبح يعترف بعدالة التنكيل القضائي، الذي تعرضت له جماعة " الحزب الصناعيّ". وقد استحسن ذلك في رسائله إلى رومان رولان التي تعود إلى منتصف الثلاثينات .
كما أنه وقف إلى جانب حملة نزع ملكية الفلاحين الميسورين ( الكولاك) وصوّر بألوان زاهية وعلى نحو مثالي للغاية عملية الإشاعة القسرية للنظام التعاونيّ الزراعيّ المتمثل في إنشاء الكولخوزات والسوفخوزات رغم أن هذه العمليّة أودت بحياة ملايين الفلاحين ونشرت المجاعات خاصة في أوكرانيا .
فهل كان يغمض عينية ويصم أذنيه كيلا يرى ولا يسمع ما من شأنه أن يعكر صفوه ويكدر مزاجه؟ إنه استسلم ، على الأرجح، إلى ضرب من الشعور الكاذب بالواجب والمسؤولية الذي كان يرغمه على التزام الصمت ويجعله يعاني ويتألم صامتاً كيلا يلحق أي ضرر أو أذى ببلده كما كان يتوهم .
على كل حال فإن غوركي كان ابن عصره إذ لم يستطع التخلص من الأوهام التي وقع في أسرها الكثير من معاصريه . ويبدو أنه لم يكن مقيداً بالإرهاب الستاليني فحسب، بل كذلك بهالة التبجيل والتقديس للشخص الذي كان يتزعم البلد . ولكن هذا الشعور كان يتحول شيئاً فشيئاً إلى نفور غامض تعيّن عليه أن يخفيه. وفي الفترة الأخيرة من حياته كان غوركي يعاني من حالة انفصام نفسي وازدواجية روحية بفعل موقفه المعقد والمتناقض من السلطة البلشفية. وكان ذلك يمثل بالنسبة له مأساة حقيقية .
وفي عام 1933 أعرب رومان رولان في مفكرته عن شكِّه بمدى صحة الصورة البَهيّة عن الاتحاد السوفيتي التي يرسمها له في رسائله صديقه الحميم مكسيم غوركي . وقد كتب بهذا الخصوص ما يلي : " هل أن الأمور هناك تسير على ما يرام كما يخبرني غوركي ؟ إنني أشعر أنه ثمل حقاً بهذا الجو المفعم بحماسة العمل والبناء بينما لا تصل إلى مسامعه آلام الناس ومعاناتهم المريرة. لقد ارتمى غوركي في أتون الثورة الروسية ناسياً كل شيء. وبعد العديد من الوثبات وخيبة الآمال وحالات التمرد الذاتي، التي كان صداها يصل إلى مسامعي في رسائله، نجده قد كرس نفسه كليا لخدمة الفكر اللينينيّ ـ الستالينيّ. وقد أدخل عليه كل حماسه وتفاؤله وانصهر ذلك في بوتقة واحدة مع حماس العمال وبناة الخطة الخمسية الكبرى. ومع هذا يبدو لي أن أنيناً حادّاً منبعثاً من أعماق كيانه يسعى إلى إسكات هذه الجوقة الصاخبة". ولكن رومان رولان توصل عام 1935، بعد أن التقى شخصياً بغوركي في موسكو، إلى استنتاج مفاده أن صديقه الروسيّ مُطلَّع على كثير من الأمور وأن في نفسه حزن دفين وشجن عميق .
لقد أفلح ستالين في استغلال شهرة غوركي وشعبيته من أجل وضع حد لحالة التشرذم السائدة آنذاك في أوساط الكتاب والنقاد الأدبيين السوفيت، إذ كان معظمهم موزّعين على عدد من المجموعات والحلقات الأدبية والنقدية الصغيرة. ولم يكن من السهولة بمكان تسخيرهم على الوجه الأكمل لخدمة الإيديولوجيا السوفيتيّة الرسميّة. ولكي يتسنى للسلطة ضبط نشاطهم وتوجيههم إلى "جادّة الصواب " كان لا بد من جمعهم كلهم ضمن اتحاد عام للكتاب. وقد لعب غوركي دوراً فعّالاً في الأعمال التحضيرية الخاصة بعقد المؤتمر الأول للكتاب السوفيت عام 1934، وقام شخصياً بإدارة جلسات المؤتمر المذكور وساهم بقسط وافر في صياغة قراراته . وقد تكللت جهود القيادة السوفيتية وغوركي بالنجاح حيث تم وضع أسس المذهب الرسميّ للأدب والفن في الاتحاد السوفيتي الذي سُمِّي بمذهب الواقعيّة الاشتراكيّة .
وبينما كان ستالين يسعى في تلك الفترة باندفاع شديد إلى أن يكون الشخصية الوحيدة في البلد، التي تتمتع بالهيبة والسلطان والاعتبار على الصعيد السياسيّ، وذلك من خلال عزل زعماء ثورة أكتوبر وأبطال الحرب الأهلية من مناصبهم الحكوميّة والحزبيّة ثم تصفيتهم جسدياً فقد استطاع ، من جهة أخرى، أن يجعل من غوركي المفوَّض فوق العادة للشؤون الثقافية في الاتحاد السوفيتي وتحويله من فنان مُبدِع إلى " صنم ثقافي" ضخم .
في 18 أيار / مايو عام 1935 وقعت كارثة جوية في الاتحاد السوفيتي حيث سقطت الطائرة العملاقة "مكسيم غوركي" ذات الثمانية مُحرِّكات التي كانت تعتبر آنذاك أضخم طائرة في العالم. وقد كانت هذه الطائرة بالذات تُستخدم من أجل الدعاية للإنجازات "العظيمة" التي تحققت في البلد بفضل " أسلوب الحياة السوفيتي". ولكن هذا لم يكن كافياً بالنسبة لستالين، الذي توصل إلى أن يجعل من غوركي نفسه آلة دعائية هائلة، ولكنها بأجنحة حيّة وخفّاقة. وهذه الآلة أصبحت تستخدم مثل " طائر النوء " الذي يطلق عادة إلى السماء في أيام الاحتفالات الطقسيّة الرسميّة .
وهكذا فإن الكارثة، التي لحقت بالطائرة العملاقة" مكسيم غوركي "، جاءت رمزاً لتلك الكارثة الحقيقية التي تعرضت لها آمال هذا الكاتب البروليتاري الشهير في بناء مجتمع عادل ينعم أفراده بالحرية والمساواة والحياة الكريمة.
4762 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع