الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
الخبز العراقي وحديث الذكريات - الجزء الثاني
بعد نشرنا للجزء الأول من هذه المقالة كتبتْ الأخت الفاضلة (شذى القيسي) منشورا جميلا عنوانه (خبز أمي)؛ قالت فيه: "لم يكن يخطر في بالي أن يتحول تَنّور الطين الذي يقبع في زاوية مهملة من بيتنا إلى صورة فولكلورية، تشد الناس بحنين إلى الأمس القريب، لكن عودة اتقاده من جديد في داخل البيوت بات أمرا بعيدا عن تفكير المرأة العصرية، والاعتماد على الجاهز من دون عناء أو تعب ودوخة رأس، والاتكال على ما تقدمه الأفران بأشكالها المتعددة الحجرية والاوتوماتيكية.
وتحت هاجس العجز والكسل، بتنا نتقبَّل ما يجود علينا صاحب الفرن من رغيف لا يشبه خبز أمي من حيث الشكل والطعم والمذاق والرائحة.
تَنّور أمي كان يُعطِّر المكان برائحة شواء لا تقاوم، تلتقط خبزها بمهارة فيخرج (حار وطيب ومگسب)، فيه العافية. وبروحها الطافحة بالكرم تُسارع في دعوة الموجودين لتناوله، مطمئنة أن رغيفها يشبع كل الأفواه.
أتذكر تلك الأيام الخوالي فترتد الذاكرة إلى صورة بائع (الصمون) القريب من دارنا وهو يعد ما يبيعه بحذر، وعادة ما يكون رغيفه شاحبا وخفيفا وماسخا، مثل عصرنا.
قبل أن تعجن أمي طحينها تُسمي (باسم الله) فينتفخ بركة، وبدل أن تضع الخميرة، تسكب امنياتها: (ربي أشبع كل جوعان). وكانت تتوق أن يظل تَنّورها متَّقدا لتشبع كل جياع الأرض!!
أمي بسواعدها الترفة الرقيقة، كانت تتبارى مع ألسِنة النيران كي ينضج خبزها ويتورَّد ويصبح شهيا فيه كل العافية. وكانت لا تنسى صغيراً ولا كبيراً: فكان لأصغرنا حصة (الحناية) وهي الرغيف الصغير.. ".
نعم ذلك التَنّور البسيط المصنوع من الطين أصبح الآن صرحا شامخا في مخيلاتنا ونتوق إليه لأن بصمات أمهاتنا الغاليات لا تزال منقوشة عليه.. رحم الله أمهاتنا اللائي كنَّ قد جعلنَّ من أنفسهنَّ شمعات أنارت طريق حياتنا.
لقد تفنن العراقيون في تنويع أنواع الخبر حسب الظروف وحسب المواسم. فهناك خبز الصاج الذي يُخبَز على الصاج الحديدي بسهولة وبدون عناء. وكان لهذا الخبز دورا فاعلا أيام الحصار الظالم وأيام الحروب حيث طوَّر الناس فكرة خبز الصاج إلى إستخدام الصوبة النفطية داخل البيت بدل الوقود الخشبي تجنبا للقصف.
وهناك خبز الرقاق الذي يُخبَز بالتنور أو بالصاج ويكون له حضوره الخاص في فصل الصيف مع الباميا ومع الجبن البلدي، وقد استعاد الآن خبز الرقاق شيئا من مكانته بعد أن تم إنتاجه صناعيا على شكل قطع مستطيلة وليس دائرية كما كان سابقا لتكون تعبئته أسهل.
لم تكن في السابق هناك مخابز كثيرة في المدن العراقية كما نراه اليوم، بل كانت كل عائلة تقوم بإنتاج الخبز بيتيا. وكانت حنطة (الصابر بيك) و (لمانية) مشهورة بجودة خبزها.
من المناطق المشهورة في الموصل بخبز التَنّور: (دجة بركة) و (راس الكور) و (باب الجديد)، حيث كان الخبز على شكل (براشين) و (مُصَبَّع) و (مَطلْ) ويستخدم للتشريب وللمشويات.
لقد كانت نساء الموصل تتبارى في خبزها، وتتفاخر بالخبز الذي تخبزه، فتقوم بإهداء الجيران بعض أرغفة الخبز الحار لتبيان شطارتها وعدالتها.
وكان للطفل الصغير خصوصية خاصة عندما تخبز الأم في التَنّور، فتعمل له رغيف صغير في وجهه السمسم والبيض؛ يسمى في الموصل (الحنّوني) وفي بغداد (الحناية)؛ وأعتقد الكلمة مشتقة من (الحنان). وكان الطفل يفرح بهذه الخصوصية له ويعتز بها كثيرا.
الخبز في عالم الشِعر والأدب:
قيل لأعرابي: لقد أصبح رغيف الخبز بدينار، فأجاب: "والله ما همَّني ذلك ولو أصبحت حبة القمح بدينار.. أنا أعبد الله كما أمرني، وهو يرزقني كما وعدني".
وقال الشاعر في خبز التَنّور:
أحـب الخـــبز فاشـــترى تَنّوراً ...على الســطح ركبـــه بلا نــــورا
جُمع الحشائش والأخشاب لأجـــله .... فــــوق السطوح فكاد أن ينهارا
لقد كتب شاعر النيل حافظ إبراهيم (1872-1932م) قصيدة (أَيُّها المُصلِحونَ ضاقَ بِنا العَيـشُ) يصف فيها الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الشعب المصري، ومما جاء فيها:
أَيُّها المُصلِحونَ ضاقَ بِنا العَيــشُ وَلَم تُحسِنوا عَلَيهِ القِياما
عَزَّتِ السِلعَةُ الذَليلَةُ حَتّى باتَ مَسحُ الحِذاءِ خَطباً جُساما
وَغَدا القوتُ في يَدِ الناسِ كَالياقوتِ حَتّى نَوى الفَقيرُ الصِياما
يَقطَعُ اليَومَ طاوِياً وَلَدَيهِ دونَ ريحِ القُتارِ ريحُ الخُزامى
وَيَخالُ الرَغيفَ في البُعدِ بَدراً وَيَظُنُّ اللُحومَ صَيداً حَراما
إِن أَصابَ الرَغيفَ مِن بَعدِ كَدٍّ صاحَ مَن لي بِأَن أُصيبَ الإِداما
أَيُّها النيلُ كَيفَ نُمسي عِطاشاً في بِلادٍ رَوَّيتَ فيها الأَناما
لقد تمددت الشطرة (يخال الرغيف في البعد بدرا) من هذه القصيدة الشهيرة لتصبح ديوانا كاملا، هو (كتاب الخبز) للشاعر كريم عبد السلام، والذى ينحاز فيه بوضوح إلى من يعرفهم، ويحبهم ويكتب عنهم، مجسدا علاقة لا مثيل لها في أي شعب بين (الرغيف) والبشر.
وللشاعر الكبير محمود درويش (1941- 2008) قصيدة مؤلمة عن الخبر عنوانها (قصيدة الخبز) يقول فيها: "إنا نحب الورد لكنا نحب الخبز أكثر... ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر..."، فالخبز في معانيه الماديّة والرمزيّة أشبه ما يكون بالأرض والأم: إنّه الأمن وضمان دقات القلب وتنفس الرئتين.
لقد عَقَّبتْ الشاعرة والكاتبة وأستاذة علم الاجتماع في الجامعة التونسية الدكتورة آمال موسى على قصيدة محمود درويش قائلة: "والخبز: كلمة قليلة الحروف كثيرة المعاني، وصفه درويش في قصيدته بكونه معجزة، وهو شأن يومي إلى درجة أن كل شيء يتكرر بشكل يومي نقول عنه: لقد صار الخبز اليومي". ثم تعرج الدكتورة إلى موضوع (الأمن الغذائي) فتقول: " نتحدث عن الخبز بمناسبة إحياء العالم غدا اليوم العالمي للخبز أو كما يسميه البعض اليوم (العالمي للغذاء). ونحن نفكر في الخبز، فإننا نفكر في أقصر الطرق التي تحقق لنا الأمن... أي نفكر في الحياة. فمن يضمن الخبز يضمن الرمزي، ومن استبد به الجوع فقد تمّ استبعاده من صناعة المعنى وتشكيل الرمزي.
نعم الخبز ليس كل شيء ولكن الخبز هو أول الأشياء. لا معنى للأشياء التي تعقبه دون وجوده. بالخبز يكتب الإنسان قصته، وفي الخبز غالبية فصول رواية الإنسان في الحياة".
ثم تقول الدكتورة موسى: "كل العالم يلهث وراء الثروة من أجل الخبز: هناك من يعجز عن توفير رغيف وآخرون بالكاد يوفرونه والبعض الآخر يمسكون بما بعد الخبز وأكثر منه.
أليس الخبز هو محرك التاريخ؟ كيف حال خبز العرب اليوم؟ هل نعيش أزمة خبز بالمعنى الضيق والواسع للخبز؟ هل ضمانات خبز الغد موجودة؟".
ثم تجيب الدكتورة موسى قائلة: "يبدو لي أن مشكلة الخبز التي ازدادت تعقيداً خصوصاً في البلدان التي عرفت الثورة والأخرى التي تعيش صراعات أهلية، تؤكد تأزم مسألة الأمن الغذائي التي أصبحت في مهب الصراعات ومشاكل الإرهاب؛ ذلك أن الأزمة الاقتصادية ينتج عنها تدريجياً وحسب مستوى الأزمة مشكلة في الأمن الغذائي الذي يجعل سيناريوهات الاحتجاج والثورة مفتوحة على مصراعيها".
وتختتم الدكتورة موسى حديثها بخلاصة مفادها: " إن معالجة الأمن الغذائي ومشكلة الخبز مفتاح رئيسي لمعالجة مشاكل الثقافة والعقل العربي.. ذلك العقل الذي لا يشتغل كما يجب ومعدة جسده تتضور جوعاً".
ومن القصائد الشهيرة المنسوبة لشيخ الموسيقيين العرب الملا عثمان الموصلي (1854-1923م) أغنية (يام العيون السود ماجوزن انا) والتي غناها وأبدع فيها ناظم الغزالي (1921-1963).
فبعد أن يتفنن الشاعر في وصف الحبيبة وحبه لها وجمال خدَّيها وعذوبتهما؛ يصل إلى أجمل أبيات القصيدة التي سحرت الناس في داخل العراق وخارجه عند قوله:
من ورى التَنّور تناوشني الرغيف ... يا رغيف الحلوه يكفيني سنه
فأي رغيف هذا الذي يكفي سنة كاملة، وأي كلام جميل هذا الذي كنا نسمعه في الزمن الجميل!
https://www.youtube.com/watch?v=Box3O1jicLc
3804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع