سيرة الوجد والطين

                                                   

                               حاتم جعفر

سيرة الوجد والطين

المقال مهدى الى الفنان جعفر طاعون، فله من بعضه أثراً وعطرا.

للوقوف على تجربة وسيرة أي فنان، كان قد نجح وعلى ما أنبأتنا به اﻷيام التاليات، في بناء عالمه الخاص وفي تشكل ذائقته، سنجد أنفسنا ملزمين بالعودة الى تلك الجذور والى البدايات التي ساهمت ولعبت الدور الأكبر في رسم معالم منتجه الإبداعي وما كانت قد حفرته أنامله وسارت عليه خطاه. مستعرضين أبرز محطاتها، ولا بأس من تناولها بشيء من التفصيل، قارئين أهم المؤثرات والعوامل الداخلة في تكوين عالمه، تحقيقا للهدف المرتجى وأخذاً بالعِبَرْ. فالصبي أو الفتى الذي سيكون مدار حديثنا، هو شخصية إفتراضية ليس الاّ. ولا غرابة إن وجدَ أحدكم في تجربته، ممن له ذات المنحى والإهتمام، بعض من ملامحه أو يكاد.
وللتخصيص أكثر وإختصارا للوصف، وعلى ما رسمته مخيلتنا، فصاحب السيرة التي سنتناولها والتي اخترناها بمحض الصدفة ليس الاّ، لتكون نموذجا في سبرنا هذا، نقول: إنه غضٌ طري العود، لم يكن كأقرانه من حيث البنية ممن يقاربونه في العمر. لكنه في ذات الوقت كان كثير الحركة، شديد الإنتباه، حتى إختلط على زملائه اﻷمر وصعبَ عليهم الفصل والتمييز، بين أن يكون مصدر نشاطه المفرط هذا، أهو عائد لفضول مترافق مع سن الطفولة؟ أم هو توق للمعرفة، أو ربما جاء نتيجة لتظافر العاملين معاً؟.
لم يبلغ بعد العاشرة من العمر عندما قررت إدارة مدرسة عتبة إبن غزوان الإبتدائية، التي كان أحد تلامذتها، القيام بزيارة الى نصب الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، الذي لا يبعد سوى رمية عصا عن المدرسة، وفق قياس بعض كبار السن. وبعد أن دار دورتين أو ثلاثة حول النصب ودون سواه من زملائه، وإذا بالفتى وعلى الرغم من معرفته المسبقة عن طبيعة الزيارة المقررة وما الهدف منها، راح متسائلا وبصيغة بدت كما الذي يريد المزيد من التفاصيل عَمَّا يمثله صاحب هذا المجسم الواقف أمام شط العرب، وبهيئة بدت كما الذي سيحث خطاه بعد قليل لقطع النهر والعبور الى الضفة اﻵخرى مشيا. أو كَمَنْ أقسمَ إنَّ النهر ورغم مهابته وعظمته حين هياجه سيكون ملك يديه أو هو ملك يديه حقا، لا ينازعه في ذلك أحدا!! رَدَّ عليه معلمه والمشرف على تلك الرحلة: أنه واحد من أبرز رواد ومؤسسي الشعر العربي الحر، إن لم يكن سيدها وباني مجدها.
لم يكتفِ الفتى بهذا القدر مما قيل له عن الشاعر، فحين عودته الى البيت، شَرع بالبحث هنا مستفهما هناك، حتى إستقر به الرأي وإرتضى بما جمعه من معلومات، ربما يكون قد إكتفى بها حتى اللحظة، أو هذا ما بان عليه. الاّ أنَّ اﻷمر لم يقف عند هذا الحد بل سيأخذ منحى لم يكن ليتوقعه. فأباه الذي كان يتابع عن كثب، هِمَّةَ وعزم ولده عن بُعدٍ، دخل هو اﻵخر وبما مَلَكَتْ حافظته على خط البحث، مقترحا على ولده المسك بدفتر صغير ليملي عليه اﻵتي: إنه السياب الشاعر بجلالة منزلته ومكانته. إنه إبن جيكور، وهي ليست قريته وموطن ولادته ونشأته فحسب، بل هي هاجسه ومصدر إلهامه وعطاءه، وهي جرحه الذي ظلَّ برفقته ولم يندمل حتى الرمق اﻷخير من حياته. وتُعَدٌ (جيكور)واحدة من أتباع مدينته، الضاربة بعمق التأريخ، لتغطي بظلالها وفيئها بقاعا أرحب مما يظنه البعض أو يخاله، فهي الكريمة والسخية، وأنا (لا زال الكلام للأب) أتحدث هنا عن البصرة الفيحاء.
بعد بضعة أسطر من الكتابة وتحريك حروفها وفق ما تقتضيه جماليات اللغة ونحوها وما كان يمليه عليه أباه، ولعله كان أستاذا للغة العربية أو أحد عشاقها، أسوة ببعض من أبناء جيله في ذلك الزمان، راود الصبي في هذه اﻷثناء إستفسارا آخر، كان قد تولَّد من بين ثنايا الكلام، ولابد من التوقف عنده قبل إنفلاته من ذاكرته: وما الفيحاء يا أبي؟ فردَّ عليه: هي اﻷرض الرحبة الواسعة، الشبيهة والتوئم في ذلك بأخواتها اﻷخريات كالشام وطرابلس، على ما ورَدَ في العديد من المصادر. ثم راح اﻷب مسترسلا، وهي التي ما إنفكت فاتحة أبوابها وأذرعها لزائريها، فمَن دخلها فهو آمن، ومَنْ عاشهاصار جزءا من أهلها وأديمها حتى يصعب إقتطاعه أو فصله عنها. وإذا ما وسنت عينا الغريب وثقُلت أجفانه، فسينام على ضفافها مطمئنا ما شاء له وقتا. وعلى أرضها ومن خيراتها عاشت شعوب وقبائل، ما كان لها أن تحط رحالها ولا لتنعم الاّ على سوادها ومن بركاتها. وهي قبلة المشرقين والمغربين، فكما كانت الكوفة منارة لمن يبغي الهداية والمعرفة، فكانت البصرة أيضا.
في الأيام الموالية بنهاراتها ولياليها، ونصب بدر شاكر السياب والذي كان قد شدَّ إنتباهه وأُعجِبَ به أيما إعجاب، لم يكن ليبرح فكره. فالصبي وبعد أن سمع من أبيه الكثير من طيب الكلام، والتي سيشكلَّ بالنسبة له في القادم من اﻷيام دافعا وحافزا قويا للمضي فيما ينتوي، تجده مقلبا اﻷمر من كل جهاته، حتى ذهب قائلا في سرِّهِ: هل لي أن أصنع مثله، فالقصة كما قال أبي ليست أكثر من طين وأنامل ساحرة وطول أناة، كذلك بعض رؤى ومخيلة وخبرة ستأتيك بعد حين. أمّا عن الخطوة اﻷولى فبالتأكيد ستكون هي اﻷصعب، والمسيرات الكبرى لا تبدأ الاّ من هناك.
أمّا عن النحات نداء كاظم الذي خطط وأشرف ونفََّذَ نصب السياب بدر، ودخل سجل البناة والخالدين من أوسع أبوابها ومنافذها، فلا يزيدنك بشي، وقد تبلغ مصافه ويبلغها غيرك أيضا، إن أصغيتم الى الوصايا وتعلمتم لغة الصبر. آه كم أنت رائع يا أبي، فها انت تفتح لي باب السلوان ﻷطرقه، وتفتح لي باب التوق والتحليق بعيدا نحو عوالم أكثر زهواً وبهاءا. وبعد أن حفظ تعاليم النحت وطقوسها عن ظهر قلب، راح الصبي ذو العشرة أعوام أو ما ينيف، يبحث عمَّن يدله على أجمل الطرق التي ينبغي سلكها وصولا الى تحقيق غايته، كذلك على أفضل المواد وأحسنها، التي ستدخل في صناعة نصب كالذي رآه شامخا على شط العرب.
من محاسن الصدف أن كان صيف ذلك العام مبكرا في حضوره وأشدٌ حرارة عمّا أعتادت عليه مدينته، فما كان على الصبي الاّ أن يأخذ عدته وحلمه ويرتقي بهما سُلم البيت وصولا الى سطحه. وما أن ألقى بهما أرضا، حتى تجده وقد باشر بتنفيذ ما خطط له وعلى نحو من السرعة والسعادة الغامرة. مبتدأً بنحت بعض الوجوه التي يَعدها اﻷسهل واﻷقدر على تنفيذها، واﻷقرب كذلك الى إهتماماته وبما يتناسب مع عمره وملكاته.
فيما بعد وفي القادم من اﻷيام، سيقدم على تكرار التجربة، ليقوم هذه المرة بتكوير كرة قدم، تساوي في حجمها الكرة الحقيقية، والتي دائما ما كان يُحاذر الإقتراب منها واللعب مع أبناء محلته، بسبب جديته المفرطة، وأيضا ما كان يمارس عليه من ضغوط مصدرها أخاه اﻷكبر. ألحقها بعد ذلك وبما تبقى له من طين وعلى إحدى زوايا سطح بيتهم، أن شرع بنصب ونحت ملعبا مصغرا، يتسع لعدد مساوٍ لفريقي مباراة.
بداية كالتي أنف ذكرها لتنطوي حقاً على جانب كبير من اﻷهمية، فقد أحسن التصرف وأصاب الإختيار، ففكرة نحت نصب السياب التي ما إنفكت تساوره، تستدعي الكثير من الدقة والروية والتمكن، لذلك بقي مرجئهاً حتى تحين اللحظة المناسبة ومن بعدها سَتَزِف وتوقدُ الشموع إبتهاجاء. فالصبي لم يزل بعد غير واثق من خطاه، فقد يعثر أو تنزلق قدماه، وربماسيضربه اليأس ويفقد القدرة على مواصلة الحلم.
مع تراكم الخبرة وتزايد الرغبة وتصاعد منسوب الحماسة عنده، وبعد أن شعر بأن الطين بات والى حد مُقنِعٌ طوع يديه، وأن عامل الثقة في إشتغاله أخذ بالتسلل اليه، كذلك تعلم كيفية التعامل معه(الطين) بخفة ومقدرة أعلى، إثر تلك المحاولات العديدة والجدية التي قام بها، فقد قرر الصبي العودة الى فكرته اﻷولى، والتي من أجلها إعتلى السطح وتحمل وزر تلك اﻷثقال من الطين وإعتراضات البعض، ليشرع في نحت رأس السياب، محاولا ما استطاع الإقتراب ومحاكاة ما كانت قد خرجت به أنامل النحات نداء كاظم، وإذا به قد نجح وبما يتناسب وقدرات فتى في ذلك العمر.
بعد مرور قرابة اﻷسبوع وبعد أن يكون قد إطمأن وتأكد من جفاف نصبه، سيضع المجسم على قاعدة أوسع، لإجراء بعض التعديلات والتحسينات الضرورية التي سيكون مؤدّاها الإقتراب أكثر من وجه السياب، من ثم سيتبع ذلك بصبغ المجسم وطليه باللون الذهبي البرّاق. ومن شدة جمال ما جادت به يداه على ما اعتقد وما رآه، فسيقوم بحفظ النصب المذكور في مكان آمن وداخل علبة خاصة، لا يعلم بها إلاّ الله ووالده وثالثهم هو. هذا ما سَيُسرٌ به أثناء إحدى جلسات المصارحة، التي ستجري وقائعها بينه وبين أقرب أصدقائه، وبعد مرور بضع سنين. وعلى ذكر الوالد وللتذكير، فإن ما كان يقوم به صاحب السيرة من خطوات نحو تحقيق هدفه وعلى مختلف مراحل تطوره، لم تكن بمعزل عن التوجيهات والملاحظات المستمرة التي كان يسديها له أباه.
أخاه اﻷكبر وسائر أهل البيت، باتوا ينظرون اليه بعين من الرضا والدهشة، بعد أن تمكن من إنجاز عدد لا بأس به من المجسمات والمنحوتات، والتي لفتت أنظار كل مَن إطلع عليها وخاصة إدارة مدرسته الثانوية التي كان قد دخلها العام الماضي، داعية إياه الى المشاركة في المعارض الفنية السنوية التي دَرَجَت على إقامتها إدارة تربية المحافظة، أسوة بباقي المحافظات، فكان لها ما أرادت. وفي دلالة على مدى تطوره في مجال تخصصه، فقد بات يشار اليه بإعتباره فنانا لا يخطئه كل منصف وذي بصيرة.
وفي واحدة من جولاته وهو على أبواب تخرجه من الثانوية العامة، قرر أن يمتطي دراجته الهوائية، هادفا الوصول الى الطرف القصي من المدينة والمعاكس لمنطقة سُكناه. ما الذي يهدف اليه من جولته هذه، أهي الرغبة في ملاقاة حبيبته التي تسكن هناك وإختطاف لمسة يد، أو أن يحظى بإبتسامة من بعيد، سيغفو على صداها حين يجافيه النوم ويسهد؟ أم هي نزوة فنان حالم؟ أم هي عود الى فضول الطفولة والمرور بنصب السياب، لعقد مقارنة من نوع ما، بين ما جادت يداه، وبين النصب الشاخص؟ لا أحد يعرف.
في طريق عودته الى البيت وقبل أن يحل الليل، قرر إختراق المدينة والتجوال في وسطها وفي شارع دينار على وجه التحديد، ليجد نفسه واقفا عند بوابة سينما الكرنك، متطلعا الى أعلى مدخلها الرئيسي، والتي عادة ما يجري وجذبا للأنظار، تعليق صورة للفلم المقرر عرضه هناك ولمدة أسبوع كامل، إن لم يجرِ تمديده لفترة أخرى، فصادف أن كان العرض هو لفلم ميرامار للكاتب الكبير نجيب محفوظ، المفضل لديه، وهنا سيراوده الشك والرغبة فيما إذا سيدخل قاعة العرض لمشاهة الفلم والذي سيبدأ بعد قرابة نصف ساعة من وصوله، أم سيؤجله الى يوم غد.
في هذه اﻷثناء ومن بعيد بدت تصل مسامعه بعض اﻷصوات المحببة اليه وبإيقاعات موسيقية منتظمة، تدل على دراية وإحتراف عازفيها، لذا قرر أن يركن دراجته الهوائية جانبا، معزفاً عن دخول العرض السينمائي والتوجه نحو المصدر، غير أنه لم يلحق، فالعازفون هم مَنْ أقبل ناحيته، ويبدو كأنهم كانوا على موعد مع روّاد السينما وزوارها، حيث أخذ الناس بالتجمهر والإحاطة بهم، ترحيبا وتهليلا. وبعد أن أنهوا وصلتهم من العزف وإذا بالجموع تزيد من تصفيقها لهم إمتنانا.
مباشرة وبعيد إنتهاء العرض من قبل الفرقة الموسيقية والتي تبين فيما بعد بأنها فرقة الخشابة البصرية الشعبية، الذائعة الصيت وذات الجمهور الواسع والعفوية بأداءها، وإذا برجل خمسيني، بملامح أفريقية، ممتزجة بخفة دم أهل البصرة على ما عُرفوا به، ممسكاً بآلة الناي ليعزف بأنفه وبحركة أنامل، تُنمٌ عن دراية وحرفة، مصحوبة بإيقاعات راقصة لبضعة شباب، تُذَكِّرُ سحناتهم بأولئك الزنجباريون، الذين كانوا قد عبروا وشقوا بقواربهم عباب البحر رغم هيجانه قبل عقود من السنين، ليتخذوا من جنوب العراق وتحديدا عاصمتها الفيحاء، قبلة ومستقراً لهم. وﻷن الفضول ضرب من جديد صاحبنا الذي بات شابا يافعا، حيث راح متسائلا عَمَّن يكون عازف الناي، فقيل له أنه تومان البصري.
وكأي طالب له الرغبة الشديدة في مواصلة مشواره وتحقيق حلمه، فقد دخل أكاديمية الفنون الجميلة في العاصمة بغداد، وهوحامل بين أضلاعه وثنايا ذاكرته رصيدا ليس بقليل من الحفريات والمجسمات، كان آخرها لوحة من الطين مستطيلة الشكل وبعرض لا يقل عن المتر وإرتفاع قد يزيد قليلا عن نصفه. وهي عبارة عن بضعة شباب، بجلابيبهم الشعبية وهم يؤدون رقصة الخشابة. وفي خلفية الصورة، سيظهر شط العرب، ساكنا هادئا كلحظة اﻷصيل. أراد من خلال مجسمه هذا وإن إختلفت التفاصيل واﻷهداف واﻷحجام، وإختلفت كذلك حركة شخوصه وطبيعتها ودلالاتها، أن يوصل رسالة، تشير الى مقدرته على محاكاة نصب الحرية في بغداد.
هذه هي سيرته، والتي كثيرا ما يتقاسم التحدث فيها و بضعة أصدقاء، إعتادوا على مشاركته ليلة كل سبت، في مرسمه الواقع في إحدى مدن شمال العالم البعيد، عالم الثلج والليالي الطوال. يتبادل فيها اﻷنخاب كما يتبادل اﻷوجاع والمسرات وعلى ندرتها. فالحصار والديكتاتورية وحروب العبث و(النيران الصديقة) والعدوة، لم تبق ولم تذر وكانت بالمرصاد لبلده وشعبه وأحلامه، مما إضطره وآخرين ممن هُم على شاكلته، من أخوة الدم والجذر والسلالة الواحدة، الى مغادرة البلد اﻷم، مولين وجوههم الى ما إفترضوه عالما أكثر أمنا وأمانا وسلاما وبرداً، فهل من منفذ يعيد النبع الى أﻷصل والشيخ الى صبواته!!. نتمنى ذلك، فالغربة موجعة، وبلاد الشمس والشرق مسرانا ومأوانا وإن طال السفر.

حاتم جعفر
السويد ــ مالمو

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

836 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع