الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
الخبز العراقي وحديث الذكريات - الجزء الثالث
كتب أحد العائدين من بلاد الغربة إلى أرض الوطن قائلا: " عدتُ إلى أرض الوطن الأم وأنا في توق شديد لأستعيد ذكرياتي المنقوشة في خاطري. وسرعان ما تبددت الغربة، ودخلتُ في مساومة مع نفسي، وقلت لها: (أنس كل شيء وأبق هنا في أحضان الحياة).. وعلى جانب الطريق رأيتُ امرأة كبيرة السن ومعها امرأة أخرى أصغر وفتاة في مقتبل العمر، ودخان خفيف يتصاعد من المكان، ودققت النظر، فشاهدت ساجًا على مجموعة حجارة من الصوان، وبالقرب منه تَنّورْ. فقلتُ لصديقي: قف هنا، دعنا نشاهد ماذا يفعلون، أنا مغرم بالتَنّورْ، بشكله وتكوينه وطريقة الخبز ووهج النار المتصاعد منه. ورأيت إلى جانب التَنّورْ الكثير من الحطب، وعدة الخبز كالوسادة التي تحمل العجين والوعاء وماء. وسُحرت بكوة التَنّورْ الذي يدخل فيها الوسادة المُحمَّلة بالعجين ويلصق به.
في هذه اللحظة تذكرتُ أمي، ورائحة الحطب على ثياب أمي، ووهج النار المرسوم على ملامحها البيضاء كالحليب، حرائقه على قسماتها، لسعات النار على أصابعها ويديها.
وكنت كما كنت، أرى وجه أمي مثل الزمن الأول والفرح الأول. وكنتُ مغرمًا بالعجين المختمر في الطشت، بالأغطية عليه، وأدرس الانتظار الممل والمتعب، والقلق المرسوم على وجهها وعينها المحدقة في أعيننا، والترقب القلق لنضوج الرغيف.
كان زمن طفولتنا جميلا، بريئا خاليًا من الآلات والتقنيات الحديثة، خاليًا من الهروب المنظم من الطبيعة والبراءة. وكانت سعادتنا كاذبة عندما ودعنا زمن الطبيعة الأمن لندخل في الوحشة والقلق".
لقد كانت ولادتي في محلة العزَّة في منطقة الميدان في الموصل القديمة، وهذه المنطقة مجاورة لمنطقة (الكوازين) والتي تُصنع فيها تنانير الخبز من الطين الممزوج معه التبن وبطريقة فنية جميلة.
والتَنّورْ (الجمع: تَنَانِيْر) من الأفران الطينية التي يُخبز بها الخبز في العراق ودول أخرى في الشرق الأوسط، وكان التَنّورْ من الفقرات الأساسية في أغلب البيوت العراقية.
في مطلع القرن العشرين وحتى عقد الستينات منه كانت اغلب العوائل العراقية تصنع خبزها بأيديها، ولكل عائله عدة العجن (منخل، طشت، سلة، اسطام، ملزقة، ..) إضافة إلى التَنّورْ الذي لا توجد عائله بدونه والذي يكون عادة على السطوح أو في زوايا فسحة البيت، وكانت بعض العوائل تشترك في تَنّورْ واحد.
وكانت المخابز محدودة جدا، وكان أغلبها يُدار من قبل المسيحيين في الموصل؛ وأشهرهم (فرن متي) قرب البريد القديم والذي كان يستخدم الخشب كوقود؛ وفرن (سمعان) في الدواسة والذي انتقل بعد ذلك إلى (حي القادسية). وكان هذان الفرنان من أشهر الأفران المتخصصة بعمل القوزي.
لقد كان من المعيب شراء الخبز أو الصمون من الفرن لأنه يدل على تقاعس أم البيت وإهمالها. وحتى في حالة مرضها فأن جيرانها كانوا يقومون بواجب الخبز لها حتى لا تشتري من الفرن.
لقد كان هناك حطّابين خاصين يُجهزون البيوت بحطب خاص للتَنّورْ، يُعرف باسم (حطب طرفة)، والذي يكون على شكل ربطات. كما يُستخدم خشب الأشجار أو نوى التمر وفضلات الحيوانات لتسخين التَنّورْ وإيصاله إلى درجة الحرارة اللازمة للخبز وللمحافظة على حرارته أطول مدة ممكنة.
وكلمة (تَنّورْ) tannūr تعود إلى فترات ما قبل هجرة الآرية والشعوب السامية في بلاد ما بين النهرين والهضبة الإيرانية، ولهذه الكلمة نفس المعنى في اللغات الفارسية والأرمنية والتركية والكوردية.
يُعد خبز التَنّورْ الطيني من أشهر أنواع الخبز وأجودها، وقد اشتهرت القرى والأرياف بإعداد هذا النوع من الخبز ولا زالت، خصوصًا في العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين وبعض مناطق الخليج العربي.
وفي السنوات الأخيرة غزا التَنّورْ المعدني البيوت، والذي يعمل على الغاز، ذلك لأنه أكثر عملية بالنسبة لربة البيت من التَنّورْ الطيني حيث يمكن نقله بسهولة بعكس التَنّورْ الطيني الثابت. ومن مساوئ التَنّورْ المعدني هو فقدان الخبز إلى المذاق الخاص والنكهة المُميَّزة لخبز التَنّورْ الطيني.
يتم إعداد خبز التَنّورْ من طحين حبوب القمح الكامل مما يكسبه طعمًا مميزًا ولونًا ضاربًا للسمرة، كما يمكن إعداده من خليط من طحين حبوب مختلفة مثل الذرة والشعير والشوفان، وذلك حسب وفرة الموسم أو شحته.
من أشد المنافسين لخبز التَنّورْ حاليا الصمون الحَجَري المنتشر في أرجاء المدن العراقية والذي يتم إعداده في أفران حَجَريَّة كبيرة كانت تستخدم الأخشاب كوقود لها، ثم حل النفط الأبيض (الكاز) محلها.
ملحمة إعداد خبز العائلة:
لقد كانت عملية تهيئة خبز العائلة قبل نصف قرن من العمليات الشاقة، فكانت العوائل تشتري الحنطة بعد موسم الحصاد في بداية الصيف، ثم تقوم بغسل الحنطة وتجفيفها في السطوح. ويتم خزن الحنطة في خزانات معدنية كبيرة في السراديب. ثم يأتي الطَّحان بين الفينة والأخرى ويأخذ كيس من الحنطة إلى ماكنة الطحين ليطحنه. ثم تقوم العائلة بنخل الطحين للاستخلاص النخالة منه، ثم خبزه بالتَنّورْ.
لقد كانت أمهاتنا في الموصل رحمهن الله تخبز الخبز مرة أو مرتين في الأسبوع لعدم توفر الثلاجات والمجمدات آنذاك، وكانت مباراة الخبز تبدأ بسجر التَنّورْ بعد وضع شيء (البعرور) وبعض قطع الخشب وحطب الطرفة الذي يجلبه بائعوه من حافة الشط.
وخلال فترة إشعال النار في التَنّورْ تقوم المرأة بدهن قطع العجين بالدهن ثم وضع السمسم وحبة السوداء وتدوره بالشوبك. وبعد سجر التَنّورْ وبياض لون الطين يتم لصق الرغيف بالتَنّورْ.
وبعد نضج الخبز تفوح منه رائحة زكية ولا أطيب منها. وكان من عادة نساء الموصل إهداء الجيران بعض أرغفة الخبز الحار من باب المحبة وتوطيد العلاقة وإظهار الشطارة.
لقد كانت مباراة الخبز تستغرق سجرتين أو ثلاثة أو أربع، وكانت الناس تستغل سجر التَنّورْ لعمل أكلات شعبية في غاية الروعة.
التَنّورْ والأكلات الشعبية:
لم يكن التَنّورْ في الزمن الجميل مخصصا لخبز الخبز فقط، بل كانت استخداماته متعددة. فكان يُستخدم في شوي (الكليجة) وهي الحلويات الأساسية في العراق في الأعياد، كما كان يُستخدم التَنّورْ في شوي (خبز الرقاق) و (المطبقايات)- وهي نوع من الحلويات المصنوعة من العجين والدهن والشكر. ويُستخدم التَنّورْ كذلك في شوي (عروق التَنّورْ)- وهي أكلة شعبية لا تقل روعة عن (كبة الموصل) الشهيرة، وتُصنع من الجريش والطحين واللحم والبصل وبعض الخضراوات. ويُستخدم التَنّورْ كذلك في عمل الدجاج المشوي بالتَنّورْ والسمك المسكوف في التَنّورْ.
وبعد إكمال ربة البيت ملحمة الخبز، كان رب البيت يقوم بإعداد وجبة سريعة ودسمة وهي (المغيس)، حيث كانوا يثردون الخبز الحار ويضعون عليه قليل من دهن السمن (الدهن الحر) وشيء من الدبس أو العسل ويأكلوه، وكان يفضل هذه الأكلة أصحاب المهن الشاقة لأن وجبة الإفطار من (المغيس) تغنيهم عن كل الوجبات في ذلك اليوم.
لقد كانت هناك فعاليات مُكمِّلة لملحمة الخبز للاستفادة من حرارة التَنّورْ التي تبقى مستمرة بهدوء إلى اليوم التالي. فكان في كل بيت إناء طيني خزفي خاص يشبه (الجرَّة) يسمى (البرمة)، وكان أهل الموصل يستخدمون (البرمة) لطبخ أكلات شعبية مُميزة.
ومن الأكلات التي كان أهل الموصل يطبخونها باستخدام (البرمة):
- القولات: وهي من الأكلات التي كانت تُطبخ في إناء البرمة، وهي عبارة عن تشريب حمَّص مع البصل وعظام ساق (أكواع) الأبقار مع اللحم.
- أكلة (البرمة): تُعد هذه الأكلة من الأكلات الشتوية المميزة جدا، وتُصنع من اللحم والعدس الأسود (غير المقشَّر) مع اللوبيا الحمراء والحبيَّة والحمَّص والبرغل والكمون والفلفل الأسود.
وأذكر في العام 1981 قمتُ بعمل دعوة غذاء لأستاذي المشرف في جامعة مانشستر الدكتور Tong Howell وعائلته، وقد دعوت معه زميلين هناك هما الباكستاني (محمد يار) والبرتغالي (نونس)، واشتريتُ خبز تَنّورْ من مخبز قريب في شارع أوكسفورد.
وكان من ضمن الأكلات التي عملتها لهم (البرمة باستخدام دست بخار). وكانت (البرمة) أول الأطباق المُقدَمة لهم. فلما رءوا لونها البني الغامق لم يقربوا منها. ولكن لما ذاقوا طعمها أُعجبوا بها كثيرا وكانوا دائما يذكروها فيما بعد.
https://www.youtube.com/watch?v=ruMeGhSr7tY
3567 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع