راسبوتين والأسرة القيصرية

                                                       

                               د. جابر أبي جابر

راسبوتين والأسرة القيصرية

             

في عام 1904 نال الفلاح السيبيري البسيط غريغوري راسبوتين لدى جزء من مجتمع بطرسبورغ الراقي سمعة المرشد الروحي أو"المبروك" عندما كانت الطبقة الأرستقراطية مشغوفة بمسائل السحر والتنجيم واستدعاء أرواح الموتى. وقد استطاع هذا "التقي" أن يعقد صلات عديدة مع رجال الدين والرهبان الأرثوذكس. وبفضل علاقات الأرشمندريت فيوفان المتشعبة تعرف في أواخر عام 1905 على القيصر نيكولاي الثاني وترك في نفسه انطباعاً إيجابياً عميقاً. وقد قال عنه آنذاك:" تعرفنا على رجل تقي وهو يُدعى غريغوري من أبرشية توبولسك". وبعد ذلك شرع راسبوتين بعلاج وريث العرش الطفل ألكسي من مرض نزف الدم الوراثي (الناعور)، الذي كان الطب آنذاك عاجزاً عن مداواته. وإن مجرد الإيمان بإمكانية تخفيف معاناة ألكسي جعل من راسبوتين على وجه السرعة صديقاً حميماً للأسرة القيصرية. وقد صارت تنسب إليه قدرات سحرية خارقة. فقد كان، في واقع الأمر، شخصية جذابة شيقة لها فعل التنويم المغناطيسي وكان يسحر الناس بكلامه. ومنذ ذلك الحين تقرب من الأسرة القيصرية وصارت علاقته بها وثيقة للغاية وخاصة مع القيصرة الكسندرا فيودوروفنا حيث أصبح، في واقع الأمر، مستشاراً شخصياً لها مؤتمناً على أسرارها. وهكذا تعاظم نفوذه، شيئاً فشيئاً، وبات تدريجياً يتدخل في شؤون الدولة والكنيسة.
وفي الوقت نفسه كان راسبوتين معارضاً عنيداً لدخول روسيا الحرب ضد أية جهة أو دولة. ففي عام 1912 توصل إلى إقناع القيصر بالعدول عن التدخل في حرب البلقان. وقد طالب في عام 1915 بتحسين ظروف تموين العاصمة الروسية بالطحين. كما أعلن في عام 1916 تأييده لخروج روسيا من الحرب وتوقيع معاهدة سلام مع ألمانيا بعد التخلي عن بولندا وبلدان البلطيق.
وكان لابد لعلاقات راسبوتين المميزة مع الأسرة القيصرية من جهة، وسلوكه الاجتماعي الماجن (معاشرة العاهرات وحفلات التهتك ومجالس الشرب الصاخبة)، من جهة أخرى، أن تثير استياء شديداً لدى قطاعات مختلفة من المجتمع، بما في ذلك من جانب أمراء آل رومانوف ونواب مجلس الدوما ومجتمع بتروغراد المخملي. كما أن نمط حياة "المرشد الروحي" لم يكن ينسجم، بالطبع، مع المعايير والتقاليد المسيحية. وقد راجت شائعات شتى حول العلاقة الجنسية بين راسبوتين والقيصرة ألكسندرا فيودوروفنا. وكان لابد لهذه الأمور الواقعية والمختلقة بخصوص سلوكه أن تؤثر على سمعة القيصر وزوجته. وحاول الأشخاص المقربون من القصر مرات عديدة الحديث معه بخصوص التأثير المهلك لراسبوتين، أو على الأقل التلميح بأن قرب هذا الشخص من أسرة القيصر يشوه سمعته وسمعة العائلة الحاكمة بمجملها، وأن ذلك يصب حصراً في مصلحة الأعداء وخاصة في ظروف الحرب. ولكن هذه الأحاديث كانت تنتهي، في معظم الأحيان، بالانتقال اللطيف إلى موضوع آخر أو إلى إقالة هؤلاء الجريئين من مناصبهم في حالات أخرى. ويرى العديد من المؤرخين أنه كان يجري إحياناً تعيين الوزراء بناء على مشورتها بالذات وذلك انطلاقاً من موقفهم تجاه راسبوتين.
على كل حال لم تكن القيصرة قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى تتدخل في شؤون الدولة. ولكن تأثيرها على الجوانب السياسية أخذ ينمو بالتدريج ووصل إلى ذروته في العامين 1915-1916 بعد أن أصبح نيكولاي الثاني على رأس الجيش الروسي وكان يقضي معظم وقته بمقر القيادة العليا للجيش الواقع في ماغيلوف والقريب من الجبهة. فخلال تلك الفترة أخذت القيصرة على عاتقها الإشراف على جزء من أمور الدولة. وقد كانت رسائلها إلى نيكولاي حافلة بالإشارات والتوصيات حول ضرورة تعيين أو عزل الوزراء أو غيرهم من كبار المسؤولين. وكانت هذه النصائح مدعومة في معظم الحالات برأي راسبوتين. ومع ذلك فإن توصيات القيصرة كانت تتصف غالباً بطابع عام وكان القيصر يوافق زوجته الرأي إذا كان ذلك لا يتناقض كثيراً مع موقفه الخاص من هذه المسألة أو تلك.
وفي إحدى رسائله لشقيقه القيصر لمح ميخائيل رومانوف إلى لضرر البالغ الذي يلحق بالبلد عموماً من جراء تصرفات راسبوتين ونفوذه الكبير في البلاط دون أن يذكر اسمه. فأشار إلى" إن الكراهية الشاملة تجاه بعض المقربين إليك وكذلك إزاء الأعضاء في القوام الحالي للحكومة وحدت اليمين واليسار مع المعتدلين. وهذه الكراهية وهذه المطالبة بالتغيير يجهر الناس بهما لدى كل فرصة سانحة. ولهذا أشعر بقلق واضطراب عميقين جراء كل ما يجري حولنا حيث تشهد خيرة الناس وأطيبهم نية تغييرات مدهشة. فإنني ألاحظ من كل الجهات تبدل نمط التفكير لديهم. وهذا ما يثير لدي أشد المخاوف، لا عليك وعلى مصير عائلتنا فحسب، بل وعلى وحدة كيان الدولة أيضاً".
في عام 1912 أصدر الكاتب ميخائيل نوفوسيولوف كراسة بعنوان" راسبوتين وفجوره الغامض" يتهمه فيها بانتمائه إلى فرقة "خليستوفستفو" الدينية وينهال بالنقد اللاذع على كبار رجال الدين في البلد، الذين يؤمنون بقدراته ويدعمونه. والمعروف أن هذه الفرقة تميزت بطقوسها الليلية، التي يجري خلالها أداء الأغاني والرقصات الدورانية ويصل المشاركون فيها إلى حالة النشوة الروحية وهو الأمر، الذي يذكرنا بطقوس أتباع الطرق الصوفية. وفي العام نفسه شرع الراهب ايليودور بنشر عدة رسائل ذات طابع فضائحي بعثتها القيصرة وبناتها إلى راسبوتين. ويرى معظم المؤرخين أن هذه الرسائل مزيفة. وفيما بعد ألف الراهب المذكور كتاباً هجائياً عن راسبوتين المنغمس في المجون بعنوان "الشيطان الأسود" ونشره بعد سقوط القيصرية.
تحولت علاقة الأسرة القيصرية براسبوتين من شأن خاص إلى قضية عامة تمس البلد برمته. ولم تنشر الانتقادات الموجهة لسلوك راسبوتين في صحافة المعارضة فحسب، بل وكذلك في الصحف الموالية تماماً للنظام السياسي القائم. وفيما بعد باتت حربة الحملة الإعلامية المناوئة لراسبوتين ترتد نحو القيصر وزوجته. وقد أوقع صديق العائلة هذا بين نيكولاي الثاني والمجتمع الروسي، كما أنه تسبب في إحداث شرخ عميق بين القيصر والدوما. وتجد الإشارة إلى أن مرض ولي العهد ألكسي كان طيّ الكتمان الشديد ولو عرف المجتمع الروسي بذلك لكان أكثر تفهماً.
في عام 1914 قامت العاهرة السابقة خيونيا غوسيفا في مسقط رأس راسبوتين (قرية بوكروفسكايا) بمهاجمته حيث طعنته ببطنه. ولكنه نجا من محاولة قتله بعد عملية جراحية استمرت عدة ساعات. وكان يُعتقد أنها مدفوعة من قبل الراهب ليودور. وقد أُدخلت هذه المرأة مصحاً عقلياً في مدينة أومسك حتى قيام ثورة فبراير. وفيما بعد اتضج أنه كان وراء هذا المحاولة نيكولاي نيكولايفتش(رومانوف) ووزير الداخلية فلاديمير جونكوفسكي. وبالإضافة إلى ذلك فقد جاء إلى سيبيريا الصحفي بنيامين دافيدسون(وكان على الأغلب من رجال الاستخبارات البريطانية) لإبلاغ العالم عن وفاة راسبوتين.
وفي النتيجة أحدثت ظاهرة راسبوتين استياء كبيراً في النسق العليا من مجتمع بطرسبورغ ووسعت نطاق الاستياء والاحتجاجات في أوساط الشعب بشتى فئاته. كما انتشرت إشاعات تشير إلى أنه يخطط مع القيصرة لعقد اتفاق سلام مع ألمانيا بشكل سري ومنفصل. وانتهى الأمر بنضوج فكرة التخلص من هذه الشخصية المقيتة نهائياً. فجرى قتله في 17 (30)كانون 1/ديسمبر عام 1916 بعد أن استُدرِج إلى قصر عائلة يوسوبوف بحجة تعريفه على زوجة فيلكس يوسوبوف الحسناء ايرينا ومعالجتها نفسياً. وقد دُسّ له السم في بعض أنواع الحلويات والنبيذ، ولكن ذلك لم يؤثر فيه، مما أحدث الارتباك والهلع لدى المتآمرين واضطرهم إلى إطلاق النار عليه فأردوه في النهاية قتيلاً ثم نقلوه بالسيارة ورموه في نهر النيفا. وبعد يومين جرى انتشال جثته من النهر. وقد شارك في هذه العملية الدرامية، إلى جانب يوسوبوف، كل من ابن عم القيصر الأمير الأكبر دمتري بافلوفتش وزعيم اليمينيين المتطرفين في الدوما فلاديمير بوريشكيفتش وضابط الاستخبارات البريطانية" مي-6" أوسفالد رينير. وتبدو المعلومات المتعلقة بهذه العملية متضاربة، إذ أن يوسوبوف بدل إفاداته عدة مرات.
في عام 2004 عرض التلفزيون البريطاني"بي بي سي" فيلماً وثائقياً بعنوان "مَنْ قتل راسبوتين؟" مما جلب اهتماماً مجدداً إلى التحقيق في هذه القضية. فحسب رواية الفيلم كانت فكرة تصفية راسبوتين جسدياً تعود إلى السلطات البريطانية، بينما كان المتآمرون الروس مجرد منفذين لهذا العمل. كما أن الرصاصة الأخيرة، التي أطلقت في جبين راسبوتين، تعود إلى مسدس من طراز "455 webbey"، الذي كان يستخدمه عادة الضباط الإنجليز. ويرى المحققون في بريطانيا أنه جرى قتل راسبوتين بمشاركة فعالة من قبل جهاز الاستخبارات "مي-6" وأن القتلة ضللوا التحقيق لإخفاء الأثر البريطاني. وكان السبب الحافز على تنفيذ هذه العملية يكمن في قلق لندن من تأثير راسبوتين على القيصرة واحتمال إقناع القيصر بتوقيع صلح منفرد مع ألمانيا.
استقبل خبر مصرع راسبوتين بابتهاج بالغ في دوائر أمراء العائلة القيصرية وأوساط مجتمع بتروغراد. وكان يحدو هؤلاء الأمل في أن أمور البلد ستتحسن بعد وفاة هذه الشخصية المقيتة.
ورغم تخلصهم من راسبوتين لم يستطع ممثلو الأرستقراطية الروسية إيقاف الموجة الثورية. فقد استمر الوضع في التدهور. وعقب ثورة فبراير جرى نبش قبر راسبوتين في تسارسكويه سيلو وحرق جثته. وفيما بعد أكد رئيس الدوما الرابعة رودزيانكو في مذكراته على أن اغتيال راسبوتين كان" بداية ثورة فبراير". أما النائب شولغين، وهو أحد المشاركين النشيطين في كتلة التقدميين، فقد أعرب بهذا الصدد عن وجهة نظر مغايرة إذ قال: "في السابق كانوا يحمّلون راسبوتين كافة المصائب، ولكنهم أدركوا الآن أن المسألة ليست في راسبوتين إذ أنه لم يتبدل أي شيء بعد قتله".
اعتبر القيصر مقتل صديق العائلة الحميم راسبوتين تحدياً مباشراً له من جانب المعارضة في الدوما وجزء من دوائر البلاط. ولم يكن بوسعه إلا أن ينعت القتلة رفيعي المقام بالمسوخ. وقد جاء رده على هذا الحادث سريعاً حيث أحدث تغييرات عديدة في المناصب الحكومية العليا إذ قام بعزل جميع، الذين عرفوا بمعاداتهم لراسبوتين أو بتعاطفهم مع فكرة التعاون مع الدوما لإيجاد حل توافقي. وشملت التغييرات وزراء الداخلية والعدل والحربية والمعارف ورئيس الحكومة وكذلك نصف أعضاء مجلس الدولة.
وعليه فقد ذاع صيت راسبوتين في العالم أجمع وبات رمزا لروسيا مثل الفودكا وآلة البلالايكا الموسيقية والماتريوشكا. ورغم أن السلطة السوفيتية اعتبرته مجرد شخص مشعوذ فإنها سعت إلى إخفاء تنبؤاته التي تركها وهي تقع في 11 صفحة. ويؤكد راسبوتين في" وصيته" الموجهة إلى نيكولاي الثاني على أنه ستحدث عدة اتنفاضات ثورية في البلد، ويحذر القيصر من تعرضه مع كافة أفراد عائلته للاغتيال بناء على"طلبية" من جانب السلطات الجديدة.
ومن الملاحظ أنه بحلول الذكرى المئوية لاغتياله ظهرت في روسيا نزعة شديدة لإعادة النظر في تقييم هذه الشخصية الغامضة باتجاه تبرئته من معظم الصفات السيئة الملازمة لسيرة حياته، مثل الشعوذة والاستهتار وحب المجون والفسق والخلاعة، وجعله قديساً معصوماً استشهد كما حصل للعديد من الرهبان والقديسين عبر تاريخ المسيحية الطويل.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

810 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع