شارع الذكريات ١٣ – هجرتي من العراق

                                                  

                      د. ديفيد (خضر) بصون

شارع الذكريات ١٣ – هجرتي من العراق

أهدي هذا الحلقة من شارع الذكريات لكل من سعى إلى التحرر من الاستبداد والاضطهاد بمغادرة موطنه الأصلي

قبل خمسين عامًاً، الأحد 9 كانون الثاني 1972، استقلت لأول مرة في حياتي طائرة - رحلة BOAC التي انطلقت من كراتشي وتوقفت في بغداد في طريقها إلى لندن. هكذا تركت جحيم العراق، ولم أعد أبدًا مرة أخرى.

خلفية
بعد حرب الأيام الستة في حزيران (يونيو) 1967، عندما دحرت إسرائيل جيوش وسوريا والأردن مجتمعة، أصبح اليهود المتبقون في الدول العربية، ولا سيما الراديكالية منهم، كبش فداء.
في ذلك الوقت، كان يحكم العراق حكومة قومية برئاسة رئيس الوزراء طاهر يحيى ورئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف. كان عدد اليهود العراقيين آنذاك حوالي 3500 عاش معظمهم في بغداد والبصرة مع عدد قليل جدًا من العائلات في مدن أخرى. بعد فترة وجيزة من الحرب، بدأ اضطهاد يهود العراق مجدداً - اصبحت المنازل واعمال العمل تحت المراقبة المستمرة، وتم فصل الهواتف من دور السكن، وتم تجميد الحسابات المصرفية أولاً ثم السماح بسحب محدود فقط لا يكفي للمعيشة، ولم يُسمح لخريجي مدرستنا الثانوية بالالتحاق بالجامعة، اما تراخيص الاستيراد فقد تم إلغاؤها أو عدم إعطائها. طُرد الرجال من وظائفهم، ولم يعد يُسمح للعائلات بالانضمام إلى النوادي الاجتماعية والرياضية واستولى الجيش على نادي الطائفة – ملعب مناحيم دانيال. سُجن عشرات الرجال وعُذبوا. ثم بعد ذلك بأشهر، تم إطلاق سراح العديد من المسجونين ولكن بقيت كل الاجراءات والقيود ألتعسفية الاخرى بما في ذلك القيود على السفر أكثر من 5 كيلومتر من البيت وضرورة إبلاغ السلطات الأمنية والحصول على إذنهم مسبقا.
في تموز 1968، بعد انقلاب حزب البعث على نظام عبد الرحمن عارف، تدهور وضع يهود العراق للأسوء. كانت الرئاسة والحكومة بقيادة أحمد حسن البكر من الجناح العسكري للحزب لكن الرجل القوي كان صدام حسين من الذراع المدني للحزب. لإظهار القوة وتخويف المعارضين المحتملين وكذلك الشعب بشكل عام، بدأت الحكومة باضطهاد تركز على أضعف مكون في المجتمع العراقي - اليهود. اعتقل يهود من البصرة وبغداد وألقي بهم في السجون وعذبوا. ثم زعمت الحكومة أنها ضبطت حلقة تجسس لإسرائيل وتحت التعذيب مات بعض السجناء، واعترف آخرون بالتهمة المفبركة. حكمت محكمة كنغر برئاسة العقيد المهرج علي هادي وتوت على 9 يهود بالإعدام شنقاً في منتصف كانون الثاني 1969.
ضرب الرعب يهود العراق في صباح يوم 27 كانون الثاني (يناير) 1969، عندما عُرضت جثث تسعة يهود أبرياء، تم شنقهم في السجن قبل ساعات قليلة، في ساحة التحرير في بغداد وساحة أم البروم في البصرة مع جثث خمسة أبرياء آخرين أحدهم والده يهودي، اثنين مسيحيين واثنين مسلمين (فقط لإظهار أن المهزلة لم تكن موجهة ضد اليهود حصراً). هتف حوالي نصف مليون عراقي هتافات مؤيدة للحكومة ورقصوا بأهازيج وتناولوا طعامهم في ساحة التحرير في ذلك اليوم الرهيب والجثث معلقة. حضر أعضاء من الحكومة هذا العرض لآكلي لحوم البشر وألقوا خطابات ثورية تأجج الجماهير وتؤكد نيتها استئصال الطابور الخامس (اليهود). وبالرغم الاحتجاج العالمي استمرت الحكومة وعناصرها الأمنية على مدار العامين التاليين، بإعدام وقُتل وتعذيب اليهود وبحلول ربيع 1973 بلغت حصيلة الاعدامات والقتل قرابة الخمسين من رجال ونساء. أدرك اليهود أنه لا يوجد أمل في العراق لكنهم كانوا محاصرين، ومستعدين للخروج من العراق، متى سنحت الفرصة.
الهروب من العراق إلى ايران عبر كردستان العراق

كانت الحكومة المركزية في بغداد في حالة حرب مع الأكراد في شمال العراق في جولات متقطعة في كل الأنظمة منذ حصول العراق على الاستقلال. في ربيع عام 1970، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار وتوقفت العمليات العسكرية الواسعة النطاق. أصبح شمال وكردستان العراق مفتوحان "للسياحة " وكان اليهود حريصين على السفر إلى الشمال للاستجمام بعد رفع االقيود على السفر الداخلي ولاستكشاف طرق وكيفية الهروب.
في حزيران 1970 تمكنت عائلة يهودية (عائلة فؤاد سودائي) من الفرار إلى إيران سالكة طريق وعر وصعب وخطر جدا وسرعان ما تبعها في أشهر الصيف عشرات الأفراد والعائلات بمساعدة مهربين أكراد (معظمهم عبر أربيل ثم إلى حاج عمران ومنها عبر الحدود). تركوا دورهم بما فيها يحملون حقيبة ملابس واحدة. استمرت عمليات الهروب حتى منتصف أيلول حين تم اعتقال عدد كبير من اليهود رجال ونساء وأطفال كانوا في كردستان ينتظرون الهروب. أعيدوا إلى بغداد وسجنوا في مركز يعود للبهائيين. تم الإفراج عنهم لاحقًا بعد دفع كفالة كبيرة جدًا رتبها المحامي اليهودي العراقي يعقوب عبد العزيز (الذي اختُطف عام 1972 ولم يُعثر على جثته أبدًا).
استؤنف الهروب خلال أشهر الشتاء القاسية عبر السليمانية ثم إلى الحدود الإيرانية، وبعدها توقف لأشهر قليلة وفي صيف عام 1971 استؤنف الهروب مرة أخرى بشكل جدي وأكثر تنظيماً بمساعدة الأكراد وبالتنسيق بين إسرائيل وإيران (حيث سمحت إيران لهم بالبقاء بضعة أسابيع حتى تتم المعاملات لنقلهم الى إسرائيل او لدول اخرى لمن استطاع على تأشيرة دخول).

قصتي مغادرة العراق

مع هروب العديد من أصدقائي وعدم وجود مستقبل في العراق، كنت أيضًا حريصًا على الهروب، لكن مع كون والدي معروفًا ومترددًا في المغادرة بشكل غير قانوني، كنت خائفًا من تعرضه للاعتقال وللأذى ان هربت، لذلك انتظرت مع إحباطي المتزايد كل يوم. الآن اجتمعت العديد من الأحداث معًا.
أولا - أنهيت دراسة الهندسة الكيميائية في كلية الهندسة جامعة بغداد عام 1970. تقدمت إلى جامعات في إنجلترا في 1971 لدراسة الماجستير على أساس أنها قد تساعد في مغادرتي. لم أكن أتوقع أن يتم قبولي لأن جامعة بغداد رفضت تزويدي بشهادة التخرج لكوني يهوديًا. لكن بناءً على توصيات من رئيسة القسم الدكتور سهام المدفعي رحمه الله ومن محاضرين آخرين ومدير مدرستي. تم قبولي للدراسة للحصول على درجة الماجستير في عدة جامعات في انكلترا.
ثانيا - في موازاة ذلك، تمكنت مدرستي الثانوية – اعدادية شماش حيث كنت أدرّس من إعادة تنشيط برنامج تمويل المنح الدراسية للطلاب اليهود العراقيين في إنكلترا للذين كانت ادارة المدرسة. توصي بهم. كان البرنامج مفتوحًا للطلاب اليهود العراقيين المختارين في الخمسينيات وأوائل الستينيات، لكن توقف في عام 1964 بسبب منع سفر اليهود في عهد عبد السلام عارف المعروف بعدائه لليهود. تم ارسال اوراقي عن طريق السفارة البريطانية بعد طلب خاص من رئيس الطائفة الموسوية (اليهودية) آنذاك للمساعدة - ربما من الخوف من ان تعترض السلطات العراقية الرسالة. تم اعلامي بعد عدة أسابيع ولفرحة الجميع أن المسؤولين عن إدارة صندوق المساعدة في إنكلترا والذين لم يستلموا طلب كهذا منذ أكثر من ثمان سنوات، بموافقتهم على منحي منحة للسنة الدراسية 1971-1972 متى تمكنت من الوصول إلى إنجلترا.
ثالثا - في صيف عام 1970، أقنعني والدي بمنحه فرصة لاستخدام علاقاته السياسية / الصحفية لمحاولة الحصول على جواز سفر وعدم اضطراري إلى الهروب. في تلك الفترة، كان في حكومة أحمد حسن البكر وزيران من الأصدقاء الحميمين لوالدي - عزيز شريف وصالح اليوسفي. كان والدي يعرف شريف، والذي كان وزيراً العدل في الحكومة، منذ منتصف الأربعينيات حين أسس شريف حزب الشعب. وبعد اندماج هذا الحزب مع حزب الاتحاد الوطني برئاسة عبد الفتاح إبراهيم (حيث كان والدي عضواً). عين والدي رئيس تحرير جريدة الوطن الناطقة بلسان الحزب الجديد. بعد حل هذا الحزب انضم شريف للحزب الشيوعي العراقي وأصدر أيضًا مجلة ليبرالية يسارية تسمى "الثقافة الجديدة" حيث نشر والدي مقالات فيها. في أوائل عام 1970، تمت دعوة شريف للانضمام إلى حكومة البعث كممثل "للقوى الديمقراطية الوطنية" من المتعاطفين مع الأحزاب الديمقراطية الليبرالية والشيوعية.
في آذار 1970، تم التوقيع على ما يسمى بـ "اتفاق آذار" بين حكومة العراق والقوات الكردية برئاسة مصطفى البرزاني. انتخب صالح اليوسفى عن الحزب الديموقراطي الكردستاني ليكون في الحكومة وزيرا بدون حقيبة. تعرف والدي على اليوسفي في نهاية الخمسينيات حين أسس جريدة التآخي باعتبارها الناطقة بلسان الحزب وكان والدي صديقًا له وللعديد من الشخصيات السياسية والفكرية الكردية. كتب والدي في جريدة التآخي في أوائل الستينيات وأيضًا بعد أن توقف عن العمل كصحفي متفرغ بعد انقلاب 1963 ضد عبد الكريم قاسم.
على حد علمي، طلب والدي من الوزيرين التوسط لدى الحكومة (كان سعدون غيدان وزيراً للداخلية) نيابةً عنه / عني للسماح لي بالسفر إلى إنجلترا لمواصلة دراستي. طلب الوزيرين كان على أساس أن والدي، رغم كونه يهوديًا عراقيًا، فهو وطني عراقيً خدم بلده بإخلاص وعانى من السجون والابعاد، وبقي في العراق بعد أن غادر معظم اليهود. حصل ابنه الآن على قبول في جامعات في بريطانيا ويود السفر للدراسة العليا.
حسب ما ذكرت اعلاه لم تمنح جوازات سفر لليهود منذ عام 1964 باستثناء حالات نادرة جدًا مثل عائلة الدكتور كرجي ربيع، شاؤول ساسون خضوري ابن الحاخام الأكبر وزوجته، (شاؤول كان قد سجن وتعرض للتعذيب في قصر النهاية لمدة عام) وعدد قليل من اليهود المسنين المعروفين بعلاقاتهم القوية. لذا، فإن القدرة على الحصول على جواز سفر ليهودي شاب كان في ذلك الوقت من رابع المستحيلات.
كانت المرحلة الأولى في التقديم على جواز سفر هي الحصول على موافقة مديرية الامن العام برئاسة الجزار سيئ السمعة ناظم كزار على افتراض عدم وجود "ملف" خاص بك في الدائرة. افترض بعد وساطة عزيز شريف وصالح اليوسفي أن وزير الداخلية سعدون غيدان أعطى تعليمات لمديرية الامن وبناءً على ذلك، أعطت المديرية موافقتها في أوائل أيلول 1971. كان خبرًا كبيرًا أن يحصل شاب يهودي على هذه الموافقة. كانت المرحلة التالية بعد موافقة الامن إرسال الملف إلى وزارة الداخلية وفي غضون أيام قليلة تتم الموافقة بصورة روتينية. ثم بعدها ينتقل الملف إلى إدارة السفر والجنسية لإصدار جواز سفر. لذلك انتظرنا بفارغ الصبر وبدون فكرة ان هناك مشكلة في الأفق، للحصول على موافقة وزارة الداخلية. مرت أسابيع دون أخبار، وأخيراً بعد أكثر من 3 أسابيع، رفضت الوزارة الطلب. كان ذلك مفاجأة وصدمة غير متوقعة.
عدنا إلى الامن وبعد أسبوع أخبرونا ان الموافقة قد تمت ولم يطرأ شيء جديد لسحب الموافقة. انتقلت الأوراق مرة أخرى إلى وزارة الداخلية وبعد أسابيع قليلة اخبرُنا برفض وزارة الداخلية للمرة الثانية. في هذه الأثناء، بدأت دورة درجة الماجستير في جامعة مانشستر وكان علي أن أكتب لهم لإبلاغهم بالتأخير وطلب التأجيل الذي وافقوا عليه.
في نفس الوقت مع هروب أكثر من 50٪ من يهود العراق (لا نعرف العدد الدقيق)، يبدو أن الحكومة العراقية توصلت إلى نتيجة مفادها أنه سيكون من الأسهل السماح لليهود بالمغادرة بشكل قانوني والحصول على ممتلكاتهم بعد مغادرتهم ولكي تدعي الحكومة انها لا تنتهك الأعراف الدولية بالتمييز. على اي حال أصبح اليهود في أوائل السبعينيات مسالة ثانوية حيث بدأ صدام بتصفية منافسيه قبل انفراده بالسلطة في نهاية السبعينيات. بدأت السلطات العراقية ببطء في منح الموافقة للحصول على جوازات سفر لليهود العراقيين المسنين ثم للآخرين بما في ذلك الشباب (طالما أنهم ليسوا على القائمة الممنوعة - عبر نفس المراحل التي وصفتها سابقًا)
لكن فيما يتعلق بي، لم تكن هذه الموافقة وشيكة. اعصابي واعصاب الوالدين كانت مرهقة. والدي كان يشعر بتأنيب الضمير لعدم "استطاعته تنفيذ ما وعد به". عدنا للمرة الثالثة إلى مديرية الامن، وكان ردهم أن "ما هي مشكلتك، لماذا تعود إلينا" - لقد تمت الموافقة وهذه المرة الثالثة. وحسب ما أتذكر ومن الوثائق في حوزتي الظاهر ان عزيز شريف او صالح اليوسفي عرض الموضوع على سعدون غيدان ثانية فأعطى موافقته وعلى أثرها كتبت وزارة الداخلية الى مديرية الجنسية العامة (شعبة الهويات) في 23 تشرين الثاني تشعرها بموافقتها ولكن حين راجعنا شعبة الهويات ابلغتنا بانه يقتضي الامر ان تكتب هذه الشعبة الى وزارة الداخلية مجددا لاستطلاع رأيها بسبب وجود عدم موافقة سابقة هذا على الرغم من موافقة الوزير!
هكذا استمرت العراقيل. وبعد مضي أكثر من ثلاثة أسابيع لم نسمع من وزارة الداخلية. فقررنا بعد ذلك أنه لا جدوى من الاقتراب من وزارة الداخلية بنفس الطريقة التي تعاملنا بها من قبل. ما جعل الأمور أسوأ بالنسبة لي من الناحية النفسية أني الآن في شهر كانون الأول وبداية الشتاء القاسي في شمال العراق حيث من الصعوبة والخطورة الهروب عبر جبال كردستان. كنت مثل طائر مسجون في قفص.
رابعا – وما زاد الطين بلة هو أنني كنت قد مُنحت تأشيرة دخول إلى بريطانيا حتى دون الحاجة إلى جواز سفر. هذه قصة قصيرة أخرى تستحق أن اذكرها. كانت الحكومة البريطانية تعلم أن أي يهودي عراقي يتمكن من مغادرة العراق. بأي وسيلة، لن يعود، وبالتالي سيطلب اللجوء كلاجئ، لذا أوعزت للقنصلية البريطانية في العراق بعدم منح أي تأشيرة دخول لأي يهودي عراقي. يجب أن تأتي التأشيرة مباشرة من وزارة الداخلية في لندن بوجود كفيل يضمن قدرته ومسؤوليته المالية. لذلك، طلب رئيس الطائفة من السفارة البريطانية إرسال طلبي لمنحني تأشيرة دخول، عبر البريد الدبلوماسي مع الأوراق اللازمة، الى الرابطة الأنجلو يهودية التي كانت تدير صندوق منح الطلاب اليهود بحيث تكون هي الكفيل والضامن (مع جمعية اللاجئين اليهود). في ذلك الوقت، لم يكن معروفًا لي أي من المنظمات اليهودية ستقدم لي المساعدة. لقد اكتشفت أمر الرابطة الأنجلو يهودية عندما فتحت رسالة مختومة على متن رحلتي من العراق أعطيت لي قبل أيام قليلة مع ارشادي ان لا افتح الظرف الا بعد ان أكون خارج العراق. بعد ثلاثة أسابيع من هذا الطلب أعلمت بالحصول على تأشيرة دخول الى بريطانيا.
والان יلعودة إلى القصة الرئيسية، كنت قد فقدت الامل وغاضب جدا بعد حصولي على تأشيرة الدخول لبريطانيا. اذكر كيف كان لدي قلادة ذهب على رقبتي كتب عليها شداي بالعبرية وهي احدى أسماء الله. خلعت هذه القلادة واعطيتها لوالدتي قائلا لدي كل ما يحلم به أي شاب - قبول في أرقي الجامعات في بريطانيا، منحة دراسية، تأشيرة دخول ولكني ممنوع من السفر ولا طريق للهروب. لماذا يفعل الله ذلك؟ أنا اشبه بشخص جائع أقف في باب غرفة فيها منضدة عليها الذ المأكولات لكن مسموح لي النظر اليها فقط.
قررنا أن أكتب رسالة موجهة إلى وزير الداخلية سعدون غيدان في 15 كانون الاول ارفع فيها قضيتي وملتمسا رحمته وهذا ما فعلته. ولكن كيف نضمن حصوله عليها. الآن، جاء دور أشجع امرأة عرفتها - والدتي (ربما مثل الأمهات الأخريات). قررت أن تأخذ الرسالة وتحاول تسليمها شخصيا للوزير!!. ذهبت إلى الوزارة وانتظرت مغادرة غيدان. وبعد عدة ساعات من الانتظار في طقس كانون الاول البارد، رأت سيارة الوزير تغادر البوابة فقفزت أمامها وأوقفتها. قفز الحراس برشاشاتهم لكن الوزير أدرك أنها امرأة كبيرة السن نسبيا، فأخفض نافذة السيارة وسأل عن الأمر. دفعت والدتي الرسالة أمام وجهه وقالت له ان هذه رسالة من نجلها خضر سليم البصون للموافقة على منح جواز سفر له. فأجاب: "أتذكر اسمه ورد قبل أشهر في مجلس الوزراء ووافقنا على استصدار جواز سفر له". ردت والدتي بشجاعة: نعم ولكن وزارتكم ترفض الطلب. وبوجه غاضب قال "شنو = ماذا " وأخذ الرسالة ووقع موافقته.
الآن بالطبع لا يمكن لأحد في الوزارة أن يرفض، لذلك جاءت الموافقة في غضون أيام في 21 كانون الأول واعتقدنا أن القصة انتهت. من الجدير بالذكر اننا اكتشفنا ما كانت المشكلة في الوزارة. ما علمنا أن موظفًا بمنصب واطئ وضع العقبة ليُظهر لليهود الآخرين أن بإمكانه إيقاف حتى طلب قوي مثل طلبي، لذا من الأفضل أن يدفعوا له الرشوة. أمي لعنته وبعد أشهر تعرض لحادث سير أدى إلى كسر رجليه ولم يستطع السير بعدها.
أخذت والدتي الملف الذي يتضمن موافقة الامن ووزارة الداخلية إلى إمديرية السفر والجنسية وبعد ايام في 25 كانون الأول أصدرت مديرية السفر موافقتها وصدر لي جواز سفر في 27 كانون الاول 1971. على الرغم من أن جواز السفر كان ساريًا لمدة عامين، إلا أنه كان في الواقع لمدة 3 أشهر لليهود، ومن هنا أتت مشكلة الحصول على التأشيرات. ذهبت إلى القنصلية البريطانية قبل أيام قليلة فقط من غلقها على أثر اندلاع نزاع مع الحكومة العراقية وتمكنت من الحصول على ختم تأشيرة الدخول على جواز السفر.
حجزت على السفر في 2 يناير 1972 - رحلة BOAC التي تبدأ في كراتشي وتتوقف في بغداد ثم إلى لندن. قررت والدتي بما انه مسموح لي بأخذ 200 دينار فقط وبما اننا لا نعرف ما سأحصل عليه في إنجلترا من مساعدة مالية، تجهيزي ب 4 حقائب مليئة بالملابس والعديد من الأشياء الضرورية وغير الضرورية حتى لا أحتاج إلى إنفاق المال على أي شيء ربما "للسنوات العشر القادمة!". أخذت أيضًا كتبي الجامعية والعديد من الأشياء الشخصية بما في ذلك مجموعة الطوابع والصور وما إلى ذلك. قرر والدي إرسال بعض كتبه معي استعدادا لرحيله في المستقبل. إجمالاً أرسلنا يوم السبت 1 كانون الثاني حوالي 120 كيلوغرام !! من الأمتعة غير المصحوبة.
ودعتُ أصدقاء الطفولة القلائل المتبقين الذين لم يغادروا العراق واثنين من أصدقائي الجامعيين. في صباح يوم الأحد الثاني من كانون الثاني 1972، ألقت أمي الماء ورائي في الحديقة الأمامية (عادة عراقية تعني السفر والعودة بالسلامة) وغادرت مع العائلة إلى مطار بغداد. لكن عند مكتب التفتيش، حدثت أكبر مفاجأة وصدمة. ضابط الأمن المسؤول عن التدقيق، أخذ جواز سفري، ونظر إليه، ثم نظر إلى بعض الأوراق واختفى مع جواز السفر لما بدا لي زمن طويل – ماذا الآن؟.بعد أكثر من نصف ساعة ظهر مرة أخرى ليقول إنني ممنوع من مغادرة العراق - ماذا؟. قال نعم ا لدينا حظر سفر لمهندس ولد في 2 ايلول1949 بكل موصفاتك اسمه خضر سليم البصوم - خطأ شائع (وليس البصون)، لكن رغم الخطأ في هجاء اسمك من المؤكد انه انت. ثم قال إن التأخير مصدره عدم فهم كيف حصلت على جواز السفر في 27 كانون الأول بينما كان اسمي مدرجًا في "قائمة ممنوع السفر" في مذكرة صادرة في 16 كانون الأول. فسألنا من المبادر بالمذكرة فأخبرنا ان طلب الممنوعية صدر من جامعة بغداد.
عدت الى المنزل ونحن لا نصدق ما حدث – وصلت اللقمة الى البلعوم كما يقال وتوقفت هناك. تحققنا في اليوم التالي حول موضوع طلب جامعة بغداد حظري من السفر. اكتشفنا ان الجامعة تطلب قبل الموافقة على الغاء الممنوعية أن أجد كفيلاً أو أدفع 1000 دينار – 250 دينار عن كل سنة دراسية. كان هذا لأنني حصلت على تعليم جامعي مجاني. عادةً الخريج يخدم 4 سنوات في وظيفة حكومية (كوني مهندسًا كيميائيًا يعني مصنعًا) وبعد ذلك ليس عليه دفع أي مبلغ. ولكن الوظائف لم تكن متاحة لليهود وكنت أعمل بالفعل في مدرستنا الخاصة كمدرس. الان علينا حل هذه المشكلة ولم نكن نملك مثل هذا المبلغ لدفعه في فترة قصيرة.
تعهدت بدفع المبلغ كاملا بأقساط شهرية قدرها عشرين دينار "لأخلالي بتعهد الخدمة" وكفلتني والدتي بكفالة تضامنية بمبلغ ألف دينار وتمكنا من العثور على كفيلة تكفل والدتي – زميلة لها في المدرسة حيث كانت تعمل. هكذا تمكنا من رفع الحظر على سفري في 4 كانون الثاني 1972 (تم حظر اسمي في أكثر من 40 نقطة عبور). بعد مغادرتي العراق بدأت والدتي بدفع الأقساط الشهرية وعندما استعد والديّ للسفر في تموز 1973 دفعت والدتي المبلغ المتبقي لزميلتها - حوالي 600 دينار حتى لا تتحمل زميلتها أي مسؤولية في حال أرادت مغادرة العراق ولكي يرفع عنها أي حظر للسفر.
حجزنا مرة أخرى الرحلة إلى لندن في 9 كانون الثاني 1972 - قبل 50 عامًا. في ذلك الصباح منعت والدتي من رمي الماء ورائي بقولي إنني لا أريد العودة! حلقت الطائرة في الهواء في منصف الصباح ولم كنت أصدق أنني على متنها بالفعل. كنت أخاف ان في الدقيقة الأخيرة سوف يتم منعي وحتى فكرت ان الطائرة ستعود الى المطار. بعد 20 دقيقة من التحليق، جاءتني المضيفة حيث كنت جالسًا في الدرجة الاقتصادية، بعد أن اشتريت تذكرة رخيصة كطالب. عاد الخوف للحظة لكن المضيفة أخبرتني أنها تقوم بترتيب المقاعد وسألتني ان كنت أرغب في الانتقال إلى الدرجة الأولى! يا لها من مفاجأة بالطبع قلت نعم - ربما ابتسم لي الحظ أخيرًا. جلست بجانب رجل فرنسي يعمل في شركة نفط إيراب. وبما أنني أعرف الفرنسية، أخبرته أنها المرة الأولى التي أسافر فيها بالطائرة ولكن ليس أكثر.
نظرت من النافذة ورأيت مسطحًا مائيًا كبيرًا. سألته ما هذا، وإذا كنت أتذكر بشكل صحيح، فقد كان الثرثار. بعد حوالي ساعة من الرحلة، رأيت جبال وسألته مرة أخرى أين نحن، فقال إننا عبرنا الحدود العراقية وهذه جبال تركيا. وهنا صرخت شكرا للرب. نظر إلي بوجه متفاجئ ومتسائل. عندها فقط، أدركت أنه لا توجد فرصة لإعادتي قسراً إلى الجحيم الذي غادرته. فأخبرته بقصتي.
سأواصل بقية القصة حول وصولي إلى إنجلترا في حلقة أخرى.

   

      

   

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

977 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع