د. جابر أبي جابر
بيريا – ذراع ستالين اليمنى
ولد لافرنتي بيريا بجورجيا عام 1899 في عائلة فلاحية فقيرة تنحدر من إقليم مينغريليا. وبعد تخرجه من المدرسة الإعدادية توجه إلى باكو حيث انتسب إلى معهد متوسط للهندسة المعمارية. ومنذ عام 1916 عمل في المقر الرئيسي للشركة النفطية التبعة لعائلة نوبل السويدية. وفي العام نفسه أصبح عضواً في حلقة ماركسية غير علنية وكان أمين صندوقها. وعقب ثورة شباط/فبراير عام 1917 انتسب إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. وفي شباط عام 1918 عمل في منظمة البلاشفة بمدينة باكو سكرتيراً لسوفيت نواب العمال. ومع احتلال القوات التركية للمدينة انتقل للعمل السري حتى استعادة السلطة السوفيتية هناك (نيسان/ أبريل عام 1920). ولكن، من جهة أخرى، لا يزال الغموض يكتنف بداية حياته السياسية حتى الآن. فثمة دلائل عديدة حول خدمته خلال العامين 1919- 1920 في جهاز مكافحة الجاسوسية التابع لجمهورية أذربيجان الديمقراطية وانتسابه إلى حزب" مساواة". وبعد أن استتب الأمر للسلطة السوفيتية في اذربيجان أرسل بيريا إلى جورجيا في ربيع عام 1920 التي كان يحكمها آنذاك المناشفة. وسرعان ما اكتشف أمره واعتقل هناك لفترة قصيرة ثم طرد من البلد إلى أذربيجان حيث عمل في الأجهزة الأمنية.
وفي أواخر عام 1922 نقل للعمل في جورجيا بعد سقوط السلطة المنشفية فيها حيث عيّن في منصب نائب رئيس جهاز التشيكا (الشرطة السرية السوفيتية) لدى الحكومة الجورجية. وبعد فترة وجيزة شغل منصباً إضافياً وهو رئيس القسم الخاص لجيش جنوب القوقاز. وفي عام 1924 شارك مشاركة فعالة في سحق انتفاضة المناشفة ومنح لقاء مساهمته الهامة وسام الراية الحمراء للاتحاد السوفيتي.
وخلال الفترة الواقعة بين العامين 1929 و1931 شغل منصب رئيس الجهاز الأمن السري في جورجيا الذي أصبح يسمى " غي بي أو"( الإدارة السياسية الحكومية) ثم أصبح وزيراً للداخلية في الجمهورية(عام 1927). وقد بذل آنذاك قصارى جهده للقاء ستالين، الذي بات يأتي إلى أبخازيا للاستجمام. وبعد محاولات عديدة تسنى له مقابلة الزعيم السوفيتي في تشرين1/أكتوبرعام 1930. وفي عام 1932 شغل منصب السكرتير الاول للحزب الشيوعي الجورجي. وخلال المؤتمر السابع عشر ( كانون الأول/ ديسمبر عام 1934) انتخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. وفي حقبة التطهيرات الستالينية الكبرى قام بيريا بحملات اعتقالات وتصفية للعاملين في الأجهزة الحزبية والأمنية كما طالت الحملة أوساط المثقفين الجورجيين من كتاب وشعراء وفنانين. وكان من ضحايا هذا البطش البلاشفة البارزون. ولم يعد للبلاشفة القدماء الناجون من الإعدام أي دور في الحياة السياسية للجمهورية. فقد ساد المجتمع الجورجي جو من عدم الثقة والرعب.
في عام 1938 انتقل بيريا إلى موسكو حيث تولى منصب النائب الأول لوزير الداخلية نيكولاي ييجوف المسؤول عن التصفيات الجسدية الفظيعة، التي شهدها الاتحاد السوفيتي خلال العامين 1937-1938، وراح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين السوفيت وعلى رأسهم " الحرس اللينيني"، الذين كان معظمهم من قادة الحزب والدولة. ومنذ الأسابيع الأولى لمجيء بيريا إلى وزراة الداخلية، التي كانت آنذاك تسمى "المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية"، هبطت وتائر الاعتقالات الجماعية وجرى الإفراج عن عشرات الآلاف من المعتقلين. وبعد إعفاء ييجوف من منصبه في أواخر تشرين2/نوفمبر عام 1938 حل بيريا محله. وفي العام نفسه أصبح بيريا عضواً في رئاسة مجلس السوفيت الأعلى للاتحاد السوفيتي. وفي عام 1940 أشرف على عملية اغتيال صانع أكتوبر ومؤسس الجيش الأحمر ليون تروتسكي في المكسيك حيث أن الاستخبارات الخارجية السوفيتية كانت آنذاك تابعة لوزارة الداخلية. وفي العام نفسه عندما قرر ستالين التخلص من زهاء 22 ألف ضابط بولندي ، الذين أسروا أثناء اجتياح الجيش الأحمر في أيلول/سبتمبلا عام 1939 للأراضي البولندية الشرقية، تولى بيريا تنفيذ التـدابير الخاصة بإعدامهم في منطقة كاتين ومناطق أخرى. والجدير بالذكر أن الاتحاد السوفيتي لم يعترف بقتلهم إلا في آخر مرحلة البيريسترويكا (عام 1990).
كما شغل بيريا في الوقت نفسه منصب المستشار الدائم للأركان العامة السوفيتية. وعلى العموم كان في سنوات الحرب العالمية الثانية ينفذ بنجاح كافة المهام، التي تكلفه بها قيادة البلد، والمرتبطة بتسيير الاقتصاد الوطني أو شؤون الجبهة والقضايا الأمنية. ففي عام 1942 قاد عمليات الدفاع عن القوقاز ضد القوات الألمانية المحتلة.
خلال الأعوام 1943-1944 أشرف بيريا شخصياً على عمليات الترحيل العقابي لشعوب القوقاز الصغيرة وتتار القرم إلى كازاخستان وقيرغيزيا وأوزبكستان. وقد هلك في الطريق حوالي ربعهم من جراء البرد القارس والجوع والأمراض. وكانوا ينقلون في عربات قطار مخصصة للمواشي. ومن هؤلاء المهجّرين القرشاي والشيسان والإنغوش والبلقار والأتراك المسخيت. وقد اتهمت هذه الشعوب بالتعاون مع المحتلين الألمان ومقاومة السلطة السوفيتية.
بعد 14 يوماً من قصف الأمريكان لمدينة هيروشيما بالقنبلة الذرية وقع ستالين مرسوماً بتشكيل لجنة خاصة للإشراف على الأعمال المتعلقة باستخدام الطاقة الذرية (المشروع الذري). وقد أصبح بيريا مديراً إداريا لهذا المشروع. ويرجع اختياره لهذه المهمة الحساسة إلى خبرته الواسعة في الإشراف على المشاريع الصناعية وتعبئة النوارد البشرية اللازمة بالإضافة إلى اطلاعه الواسع على شبكات التجسس السوفيتية في الولايات المتحدة. فقد استدعى المشروع ضخ معلومات كثيرة عبر عملاء الاتحاد السوفيتي هناك بخصوص مشروع مانهانتن الذري الأمريكي. وقد تسنى لبيريا تأمين كافة المعلومات الضرورية لتصميم القنبلة الذرية السوفيتية. وبفضل ذلك استطاع السوفيت تصنيع هذه القنبلة في غضون فترة وجيزة نسبياً - حوالي أربع سنوات (1945- 1949).
في منتصف عام 1951 لفق ستالين كعهده "قضية المنغريليين" الموجهة في واقع الأمر ضد بيريا. والمقصود هنا قادة الأجهزة الأمنية والقضائية في جمهورية جورجيا المنحدرين من إقليم منغريليا. وقد اتهم هؤلاء بالنزعة الانفصالية والسعي لسلخ الجمهورية عن الاتحاد السوفيتي. وحتى وفاة ستالين كان بيريا أكثر الزعماء السوفيت قلقاً على مصيره مما جعله، حسب اعتقاد العديد من المؤرخين والباحثين، يفكر في طريقة ما لقتله. ويرى الباحث المهاجر عبد الرحمن افترخانوف أن وفاة ستالين الغامضة جاءت نتيجة تآمر قام به أربعة زعماء وهم بيريا ومالنكوف وخروشوف وبولغانين , ويشير إلى انه خلال الجلسة الموسعة للجنة المركزية للحزب، التي عقدت عقب المؤتمر التاسع عشر، اتهم ستالين، بين المزح والجد، مولوتوف بالتجسس لصالح الولايات المتحدة ووجه إلى فوروشيلوف تهمة التجسس لمصلحة بريطانيا وزج بالسجن زوجتيهما اليهوديتين. ورغم ذلك فإن مولوتوف افتتح الجلسة واختتمها فوروشيلوف. ويدل ذلك، في اعتقاد الباحث، على أن المكتب السياسي قد اختارهما وليس ستالين. وهذا يؤكد بكل وضوح على أن أعضاء هذه النخبة شقوا عصا الطاعة بينما كانت سلطة ستالين في السابق تقوم على الطاعة المطلقة من جانب أولئك الذين يسيرون آلة السلطة. والمعروف أنه لم يكن لدى النخبة االسوفيتية الحاكمة قبل الحرب أي شعور بالتضامن الجماعي فيما بينها لإنقاذ أحد أو بعض ممثليها. ولذلك استغل ستالين هذا الوضع في طريقه إلى بسط سلطته الفردية المطلقة وتصفية جزء كبير منها.
وفيما يتعلق بالأسباب التي أدت إلى وفاة الزعيم السوفيتي فإن العديد من الباحثين يرجحون احتمال ضلوع بيريا ومالنكوف وخروشوف في موته خلافاً للرواية الرسمية القائلة بأن الوفاة تعود إلى إصابته بنزيف دماغي. على كل حال فإن عدم إسراع هؤلاء الزعماء باستدعاء الأطباء على الفور قد يكون بجد ذاته سبباً كافياً لحدوث الوفاة. ومن الأمور التي تلقي ظلال الشك على بيريا دوره الرئيسي في إقالة سكرتير ستالين الشخصي ألكسندر بوسكربشيف واعتقال رئيس حراسته الجنرال نيكولاي فلاسيك قبل بضعة شهور من وفاة الزعيم السوفيتي. على كل حال فإن ابنة ستالين سفيتلانا ألليلويفا حمّلت بيريا كامل المسؤولية عن التقاعس الذي جرى بالنسبة لمسألة إسعاف والدها.
وعند سرير ستالين بدأ الزعماء السوفيت بتوزع المناصب والصراع على خلافته. وقد توجه بيريا آنذاك برفقة مالنكوف إلى مكتب ستالين في الكرملين حيث فتح الصندوق الحديدي هناك وأخرج منه عدداً كبيراً من الأوراق والوثائق التي كانت تشكل خطراً كبيراً عليه وكذلك على مالنكوف وبقية أعضاء المكتب السياسي. وعقب وفاة الزعيم السوفيتي على الفور حصل بيريا على منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية بعد أن تم ضم وزارة أمن الدولة إليها. ومنذ الأيام الأولى لتوليه الوزارة قام بيريا باستبدال جميع وزراء داخلية الجمهوريات الاتحادية بوزراء من أتباعه بالإضافة إلى تبديل كوادر أمنية من الحلقات الوسطى. وقد سارع إلى اتخاذ إجراءات محمومة في مجالات عديدة سعياً منه إلى إصلاح الاتحاد السوفيتي. والملفت أن أعضاء المكتب السياسي ساندوا بصمت هذه الإجراءات خوفاً من إثارة استياءه بعد أن حصر في يده سلطة واسعة. وخلال ذلك كان بيريا أكثر الزعماء السوفيت نشاطاً وتحمساً للعمل نظراً لسعيه إلى تولي السلطة العليا في البلد حيث كان من أبرز الطامحين لزعامة الاتحاد السوفيتي. ولكنه، مع ذلك، كان يدرك تمام الإدراك أنه بعد الجرائم ،التي ارتكبها في عهد ستالين، لم تعد لديه الفرص الكثيرة لتحقيق ذلك حيث أن زملاءه يخافونه والشعب يكرهه. كما أن السياسيين الأجانب ينظرون إليه كوحش فظيع. وحيث أنه كان شخصاً ذكياً فقد ابتكر طائفة من الخطوات، التي بوسعها ان تمحي كل ماضيه الأسود، إذ اعتزم إجراء إصلاح حقيقي للنظام السوفيتي.
وكان بيريا يعتقد أن الصراع على السلطة يمكن أن يصبح ناجحاً في حال توفر الدعم من الأسفل. وللحصول على الشعبية اللازمة في أوساط السكان كان لا بد له من إنجاز عدة تدابير سياسية هامة. وبين ليلة وضحاها انسلخ بيريا عن ماضيه الدرامي الثقيل وشرع في إظهار نفسه شخصاً إنسانياً رقيق المشاعر تجاه المواطنين المظلومين. فقد أكد على ضرورة إطلاق سراح جميع المعتقلين والمحتجزين في معسكرات التأديب والسخرة والامتناع عن استخدام العمل القسري حيث اعتبره أقل كفاءة وإنتاجية وجدوى من العمل الحر المأجور. كما أدان الشوفينية الروسية وتسلطها على بقية شعوب الاتحاد السوفيتي وندد بإرغام الأقوام الأخرى على دراسة اللغة الروسية والتحدث بها وجعلها اللغة الرسمية الوحيدة. كما أشار إلى ضرورة الانفتاح على الغرب وعدم الاعتراض على توحيد ألمانيا.
وفي هذا السياق صدر في 27 آذار/مارس عام 1953 بناء على اقتراحه قرار السوفيت الأعلى "حول العفو العام"، الذي شمل حوالي مليون و 200 ألف من نزلاء معسكرات الاعتقال. وفي مطلع نيسان/ أبريل عام 1953 وافقت قيادة الحزب على اقتراح بيريا القاضي بالإفراج عن الأطباء اليهود المتهمين بالتجسس والسعي لاغتيال رجالات الدولة السوفيتية. فأغلق على هذا النحو ملف "قضية الأطباء". كما قام بإخلاء سبيل عدد كبير من الأشخاص المسجونين لأسباب سياسية بدءاً من زوجة مولوتوف بولينا جمتشوجينا وانتهاء بالمتهمين في "قضية المينغريليين" و" قضية القوى الجوية". وطالب بالتوقف عن تنفيذ مشاريع ستالين الضخمة المستندة إلى أعمال السخرة. وخلال آذار- حزيران (مارس- يونيو) من عام 1953 قدّم بيريا اقتراحات عديدة لإصلاح منظومة الشرطة والأمن السياسي. وتضمنت هذه الاقتراحات نقل معسكرات الاعتقال من دائرة اختصاص وزارة الداخلية إلى وزارة العدل، وإعادة النظر في القضايا الملفقة. وقد بادر بيريا أيضاً إلى إصلاح منظومة أمن الدولة فأصدر قراراً بمنع "أساليب التحقيق المشوهة للقوانين السوفيتية" بما في ذلك إبطال استخدام وسائل التعذيب، رغم مشاركته شخصياً قبل ذلك ببضعة أشهر في تعذيب المعتقلين بسجن سوخانوفو الواقع قرب موسكو. (تقرير الخبراء المقدم إلى المحكمة الدستورية لروسيا الاتحادية في 26 أيار/مايو عام 1992، موسكو.1992.ص. 15).
وفي أيار/ مايو عام 1953 طلب بيريا من القيادة الحزبية التخلي عن سياسة الترويس القسري، والعمل إعادة النظر في السياسة القومية للدولة، وتعيين المسؤولين الحزبيين في الجمهوريات الاتحادية من سكان الجمهورية الأصليين. كما اقترح بيريا منح الكولخوزيين بطاقات هوية شخصية (التي كانت ولا تزال تُسمى باسبورات) أسوة ببقية المواطنين السوفيت، ولكن السلطات تجاهلت هذا الاقتراح ولم يتم تحقيق ذلك إلا بعد مصادقة مجلس الوزراء السوفيتي على "قانون البطاقات الشخصية في الاتحاد السوفيتي" الجديد يوم 29 آب/ أغسطس عام 1974.
أما على الصعيد الخارجي فقد أجرى بيريا بعض الخطوات في ميدان تطوير العلاقات الدولية للاتحاد السوفيتي وسعى إلى حل النزاع مع القيادة اليوغسلافية وتطبيع العلاقات بين الدولتين الاشتراكيتين. كما ارتأى أنه من الضروري الموافقة على توحيد ألمانيا أي "التضحية" بألمانيا الشرقية من أجل إنهاء الحرب الباردة. وقد أكد ذلك خلال جلسة المكتب السياسي على أنه لا يهم الاتحاد السوفيتي أبداً بناء وترسيخ الاشتراكية في ألمانيا الشرقية، وأشار إلى أنه من مصلحة السوفيت وحلفائهم قيام دولة ألمانيا موحدة مسالمة وحيادية. وفي الوقت نفسه كان يتطلع إلى وقف الحرب الكورية بأسرع وقت ممكن.
وعلى العموم حصر بيريا في يديه سلطات كبيرة عبر إشرافه المباشر على أجهزة الأمن. وكان يحتفظ بملف لكل واحد من الزعماء السوفيت يتضمن وثائق تدين صاحبه بأعمال وممارسات شائنة في عهد ستالين. وحسب تقدير المؤرخ الروسي رودولف بيخويا لم تكن المنطلقات الأخلاقية لبيريا تختلف كثيراً عن منطلقات بقية زملائه في القيادة السوفيتية آنذاك لكنه تميز عنهم بممارسته شخصياً لأعمال التعذيب والقتل والاغتصاب مع تفضيله للفتيات المراهقات كما أشار بولغانين (رودولف بيخويا. الاتحاد السوفيتي. تاريخ السلطة .1941-1991. نوفوسيبيرسك. دار نشر"سيبيرسكي خرونوغراف"، 2000).
وبعد وفاة ستالين دوت أصوات كثيرة داخل الحلقات العليا والمتوسطة في الحزب الشيوعي السوفيتي تعرب عن خشيتها من عودة نظام التسلط الفردي، وتدعو إلى إنشاء منظومة قيادة جماعية للدولة تتمثل في هيئة رئاسة اللجنة المركزية (المكتب السياسي) والحكومة السوفيتية. ولكن على الرغم من الالتزام بالجوانب الشكلية للقيادة الجماعية واجتماعاتها المنتظمة فضلاً عن جلسات الحكومة احتدم الصراع السري في النسق العليا للسلطة على الزعامة السياسية الفردية. وبرز في هذا الصراع ثلاثة متنافسين وهم بيريا ومالنكوف وخروشوف. وكان هؤلاء جميعهم من أنشط المشاركين في الاضطهادات الستالينية. وقد استند كلّ منهم على المؤسسات التي يتزعمها. فبيريا اعتمد على أجهزة الأمن، بينما استند مالنكوف على الحكومة. أما خروشوف فقد استخدم الجهاز الحزبي. ومع ذلك برز في البداية بيريا ضمن هذه المجموعة.
أما الحليفان بيريا ومالنكوف فلم يجد أي منهما في خروشوف منافساً جدياً وكانت أفكارهما موجهة نحو الاستحواز على السلطة الحكومية، لكنهما ارتكبا خطأً فادحاً باعتمادهما التام على منصب رئاسة الحكومة وأجهزة الأمن حيث لم يقدرا حق تقدير مسألة إحكام قبضة السلطة على الجهاز الحزبي. وفيما يتعلق بخروشوف فإن مالنكوف لوحده لم يكن يشكل خطراً عليه إلا في حال تحالفه مع بيريا والأمر نفسه بالنسبة لبيريا.
والمعروف أن خروشوف كان ضليعاً في أمور العمل الحزبي ومطلعاً - بحكم علاقاته الواسعة مع شتى المستويات الحزبية-على أمزجة أمناء فروع الحزب في المقاطعات وهم أصبحوا السلطة الفعلية هناك. وقد كان هؤلاء يتوقون إلى التخلص من الخوف ومن مراقبة رؤساء الأجهزة الأمنية. وقد بقوا، في الوقت نفسه، أوفياء للقيادة الحزبية، ولكنهم كانوا يسعون إلى نيل حيز أكبر من الاستقلالية في حل القضايا المحلية وتلقي ضمانات لسلامتهم الشخصية. وفي تلك الأثناء تسنى لخروشوف تحقيق الفصل بين السلطة الحزبية والسلطة الحكومية. وحيث أن مالنكوف أُعفي من مهام سكرتير اللجنة المركزية للحزب بناء على طلبه ليتفرغ لشؤون الحكومة فقد بات خروشوف عملياً السكرتير الأول للحزب.
وكان الكثيرون في الاتحاد السوفيتي يخشون من بطش بيريا ويبغضونه للغاية وخاصة أمناء فروع ومنظمات الحزب والعسكريون وبشكل خاص المارشال جوكوف الذي كان يكرهه جداً. وقد أفزع نشاطه المحموم بعد رحيل ستالين زملاءه في الحزب والدولة وبالأخص خروشوف ومالنكوف ومولوتوف حيث نشأت لديهم مخاوف كبيرة من ظهور دكتاتور جديد في شخص بيريا ولاسيما لكونه يمسك بجهاز وزارة الداخلية الضخم. وقد قرر هؤلاء أنه لا يمكن بعد الآن السماح بأن تعمل آلة القمع الفظيعة"خارج رقابة الحزب" أي بأن تصبح أداة لشخص واحد وتشكل خطراً على القيادة السياسية العليا للبلد.
أما بالنسبة لخروشوف فقد قام في نهاية الأمر بإعداد خطة خطة سرية دقيقة ومحكمة للتخلص من بيريا بالتنسيق مع بقية أعضاء المكتب السياسي وبمساعدة المارشال جوكوف ورفاقه من جنرالات الجيش. ومن ضمن التدابير التي سبقت الاعتقال توقيت التدريبات العسكرية لفرقتي كانتميروف وتامانسكي بموسكو وضواحيها في اليوم المحدد لاستدعاء بيريا إلى الكرملين مع تأمين إسناد من الجو. كما نقل من منصبه على جناح السرعة قائد حامية موسكو العسكرية الفريق أول بافيل أرتيوموف المعروف بولائه لبيريا وعيّن بدلاً منه الجنرال كيريل موسكالينكو المقرب من مجموعة المتآمرين. وعلى هذا النحو جرى أيضاً بسرعة استبدال النائب العام غريغوري سافونوف برومان رودينكو الجاهز لإضفاء الشرعية على المؤامرة المعادية لبيريا.
انتهزت القيادة الحزبية السوفيتية فرصة ذهاب بيريا إلى ألمانيا عقب الاضطرابات العمالية في برلين الشرقية، لتشكيل جبهة واحدة ضده وعزله من كافة مناصبه الحزبية والحكومية. ولدى عودته من هناك في 26 حزيران/ يونيو جرى اعتقاله. فبعد حصوله على تأييد معظم أعضاء القيادة الحزبية البارزين والاتفاق مع المارشال جوكوف حول هذه العملية دعا خروشوف إلى عقد اجتماع لمجلس رئاسة اللجنة المركزية (المكتب السياسي) في الكرملين واستُدعي بيريا بالطبع لحضور هذاالاجتماع. وطرح خروشوف فيه للتو مسألة ملائمة بيريا للمناصب التي يشغلها، وطلب عزله منها متهماً إياه بالتحريفية والتوجه المعادي للاشتراكية، الذي وتر الأوضاع في ألمانيا الشرقية، وكذلك بالتجسس لصالح بريطانيا في العشرينات. وقد حاول بيريا أن يبرهن أن صلاحية البت في أمر عزله تعود حصراً للاجتماع الموسع للجنة المركزية. ولكن في هذه اللحظة وبإشارة خاصة متفق عليها مسبقاً دخل جوكوف مع مجموعة من الجنرالات ومنهم ليونيد بريجنيف وألقوا القبض عليه. وفيما بعد اتُّهم بيريا خلال المحاكمة بالتجسس لصالح بريطانيا وبلدان أخرى والسعي لإلغاء نظام العمال والفلاحين وترميم الرأسمالية وإعادة سيطرة البرجوازية وكذلك التفسخ الأخلاقي، وسوء استعمال السلطة، وتلفيق آلاف القضايا الجنائية في جورجيا وبقية مناطق ماوراء القوقاز، وتنظيم أعمال القمع والتنكيل غير المشروعة وذلك تحقيقاً لغايات الجهات المعادية للاتحاد السوفيتي. وفي كانون 1/ ديسمبر عام 1953 أعدم بيريا بعد إدانته بالخيانة العظمى (التجسس لصالح بريطانيا وبلدان أخرى) وارتكاب أعمال إرهابية واغتصاب أكثر من 200 امرأة إلى جانب محاولة الاتصال مع هتلر عن طريق السفير البلغاري في موسكو والاستعداد لتقديم تنازلات عديدة للألمان من أجل وقف الحرب. كما اتهم بيريا بتجربة السموم على المعتقلين في السجون والمعسكرات. وهنالك تفسيرات عديدة للأسباب، التي دفعت رفاقه في القيادة السوفيتية إلى التخلص منه. وضمن هذه التفسيرات عزم بيريا بدعم من الغرب على ضم ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، وإعادة النظام الرأسمالي في الاتحاد السوفيتي، والحصول من خلال ذلك على شعبية حقيقية في أوساط المواطنين.
وهكذا فقد لعب خروشوف دوراً رئيسياً في عزل ببيريا بمساعدة المارشال جوكوف، الذي أشرف على عملية الاعتقال المحفوفة بالخطر. ولا يزال الغموض حتى الآن يكتنف قضية اعتقال وإعدام بيريا. فثمة روايات مختلفة لما حدث آنذاك. ففي كتاب" بيريا آخر فرسان ستالين" تذهب الباحثة ايلينا برودنيكوفا، استناداً إلى تحليل المصادر الخطية ومذكرات المعاصرين، إلى أن بيريا لم يُقدّم إلى المحاكمة وإنما قُتل على الفور بُعيد اعتقاله أثناء مشاركته في اجتماع القيادة الحزبية بالكرملين. وأوضحت بأن المحاكمة لم تكن سوى عملية تمثيلية استهدفت إخفاء حقيقة الأمر عن الشعب. ويؤكد هذه الرواية ابنه سيرغي والباحثان نيكولاي زينكوفتش وستانيسلاف غريبانوف، اللذان عكفا على جمع الوثائق المتعلقة بمصير بيريا بعد اعتقاله.(ايلينا برودنيكوفا. بيريا- آخر فرسان ستالين. موسكو، دار نشر"أولما ميديا غروب"، 2007).
وفي خضم النقاشات الدائرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ظهرت لدى المؤرخين والباحثين مواقف متعارضة لما هو متعارف عليه لدى أجيال عديدة من المواطنين السوفيت حول شخصية بيريا وتقييم دوره ونشاطه خلال مختلف مراحل حياته العملية والمناصب العديدة التي شغلها. فإن أصحاب الموقف الجديد يرون فيه شخصية حزبية وحكومية هامة لعبت دوراً إيجابياً كبيراً في تطوير الصناعة السوفيتية ولاسيما التصنيع العسكري أيام الحرب وكذلك إنتاج أول قنبلة ذرية سوفيتية من خلال مساهمته في إخلاء سبيل كوكبة كبيرة من العلماء السوفيت المعتقلين وإشراكهم في المشروع النووي السوفيتي، والحصول عبر عملاء الاستخبارات السوفيتية ،التي كان يترأسها، على رسومات ومخططات القنبلة الذرية الأمريكية. وحسب اعتقاده ممثلي الموقف المذكور فإنه لو لم يتم تصفية بيريا لكان قد أصبح دينغ شياو بينغ السوفيتي.
وعقب اعتقال بيريا جرى إلقاء القبض على عدد من كبار مسؤولي أجهزة الداخلية والأمن السياسي المتعاونين معه مثل وزير الرقابة الحكومية فسيفولود ميركولوف ووزير داخلية جمهورية جورجيا فلاديمير ديكانوزوف ونائب وزير أمن الدولة سيرغي غوغليدزه وغيرهم. وفي الأشهر والسنوات اللاحقة تمت محاكمة وإعدام وسجن مجموعة أخرى من المسؤولين الأمنيين المحسوبين على بيريا ومنهم السكرتير الأول للحزب الشيوعي في أذربيجان مير جعفر باغيروف ووزير أمن الدولة للاتحاد السوفيتي فكتور آباكوموف ونائبه ميخائيل ريومين ونائب وزير الداخلية في أوكرانيا سلمون ميلشتين ووزير داخلية جمهورية داغستان ذاتية الحكم روبين ماركريان وغيرهم. وبالإضافة إلى ذلك سُرح ما لا يقل عن 100 جنرال وعقيد وجردوا من رتبهم نظراً لأنهم "شوهوا سمعتهم خلال عملهم في أجهزة الأمن...". كما جرى اعتقال زوجة بيريا وابنه سيرغي مع زوجته وولديه. وفيما بعد نفي سيرغي مع والدته إلى مقاطعة سفيردلوف (إقليم الأورال).
كان بيريا أول من استخدم المعلومات المتعلقة بجرائم ستالين كأداة أو سلاح للضغط على زملائه في القيادة الحزبية العليا، الذين كانوا يخشون، قبل كل شيء، قيامه بكشف الأسرار الخاصة بتلفيق القضايا بحق المعتقلين. وكان هؤلاء الزملاء يعرفون تمام المعرفة أنه يحتفظ في صندوقه الحديدي بمواد ووثائق كـ "مستمسكات" تدل على تورطهم المباشر في فظائع ستالين. ولذلك ليس من المستغرب أن يكونوا قد تخلصوا من كافة الوثائق الموجودة في صندوقه الحديدي فور إعدامه.
ويتحدث خروشوف في مذكراته عن أسباب الاعتماد على مساعدة مجموعة من كبار العسكريين لتنفيذ هذه الخطة فيقول : "لقد كنا نخشى من أنه إذا اعتقلنا بيريا فبوسعه استدعاء قادة الأجهزة الأمنية المقربين منه، الذين سيعمدون بدورهم إلى القبض علينا. فقد كان في الكرملين فصيل كبير من الحراس التابعين له. ولهذا قررنا إشراك العسكريين في هذه العملية".
381 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع