د.جابر أبي جابر
اليهود في الحرب الأهلية الروسية (١٩١٨-١٩٢٢)
عانى اليهود في العهد القيصري، وخاصة عقب اغتيال القيصر الكسندر الثاني، من ممارسات عدوانية مختلفة نظراً لمشاركة عدد منهم في هذه العملية. وقد قامت بالأعمال المذكورة حركات قومية متطرفة كانت تتمتع بدعم غير مباشر من قبل السلطات وبعض رجالات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. والمعرف أنه فُرضت على اليهود الإقامة في مناطق محددة من الإمبراطورية الروسية (النطاق أو المعزل اليهودي) باستثناء بعض الحالات الخاصة. كما حظر عليهم الخدمة في الدوائر والمؤسسات الحكومية ومزاولة بعض المهن الحرة. أما في الجيش فلم يكن بوسع اليهودي دخول سلك الضباط. ومنذ عام 1890 حرموا من حق الاقتراع والترشيح في الانتخابات المحلية. ولكن المسألة الأكثر حساسية بالنسبة لهم تجلت في التعليم المتوسط والجامعي حيث كانت نسبة القبول 10% ضمن نطاق إقامتهم الإلزامية و5% خارج نطاق الإقامة و3 % في بطرسبورغ وموسكو مما دفع الكثيرين من اليهود إلى الذهاب للدراسة في الخارج. وبالإضافة لذلك كانت الأجهزة البيروقراطية والشرطة القيصرية متساهلة تجاه القائمين بالاعتداءات وأعمال النهب (البوغرومات)، التي كان يتعرض لها اليهود في العهد القيصري. وعلى خلفية هذه الممارسات كان يقبع في نفوسهم حقد دفين على الحكم القيصري والكنيسة الأرثوذكسية والروس عموماً. وقد دفع ذلك الشبيبة اليهودية إلى الانضمام لصفوف الحركة الثورية و"النضال من أجل تحقيق العدالة" حسبما كانوا يفهمونها. وعلى هذه الخلفية انتسب العديد من هؤلاء إلى التنظيمات اليهودية مثل حزبي البوند و"عمال صهيون" أو إلى الأحزاب الروسية غير العلنية كالمناشفة والبلاشفة وحزب الاشتراكيين الثوريين والمجموعات الأناركية. ويعود ذلك كله إلى أن المعسكر اليساري الثوري طرح مسألة التضامن الأممي وقدم الوعود بإحلال المساواة التامة بين كافة القوميات ووقف ضد الحركات اللاسامية. ومن هنا قد لا يكون مستغرباً أن تكون نسبة اليهود ضمن الثوريين كبيرة جداً. فخلال لقائه عام 1903 بزعيم المنظمة الصهيونية العالمية تيودور هرتزل أعلن وزير المالية الروسي سيرغي فيته لضيفه أن اليهود في روسيا يشكلون نصف أعضاء الأحزاب الثورية. وقد جاء هرزل إلى روسيا لإجراء مباحثات مع السلطات الروسية العليا حيث اقترح على الروس مساندة مشروعه القاضي بإنشاء دولة لليهود في فلسطين. ولإقناع الروس بفكرته أشار هرتزل إلى أن دعم الدولة الروسية للحركة الصهيونية سيخفف من انشغاف اليهود بالاشتراكية. وأضاف بأن روسيا ستحصل في الشرق الأوسط على حليف في صراعها مع الدولة العثمانية. ومقابل ذلك طلب من الجانب الروسي توسيع حدود "النطاق اليهودي" بعض الشيء وإيقاف الاعتداءات على اليهود. ويبدو أن المطالب بالذات أثار نفور الروس من المشروع الصهيوني. أما القيصر نفسه فإنه لم يظهر أي اهتمام بهذه المسألة. ويعتقد بعض المؤرخين ومنهم المؤرخ السوفيتي المعروف ميخائيل بوكروفسكي أن نسبة اليهود في الأحزاب والتنظيمات المذكورة كانت تتراوح بين ربع وثلث الأعضاء. وبهذا الخصوص يشير الباحث فلاديمير بويارينتسيف إلى أن "نطاق الإقامة " كان بؤرة للإرهاب، فإن البوند، على سبيل المثال، كان يشجع على الاغتيالات السياسية، كما أن زعماء الحزب لجأوا إلى تقديس الديناميت والمسدسات وأسبغوا على الإرهابي هالة البطولية. وفي المحصلة اكتسب العنف قوة جذابة لدى الشبيبة اليهودية، التي شكلت الجزء الأكبر من المنظمات الأناركية ("نطاق الإقامة" والثورة الروسية. دار نشر"الغوريتم"، موسكو،عام 2017).
وقد أدرك رجل الدولة والمصلح الكبير بيوتر ستوليبين خطورة هذا الوضع على أمن الدولة الروسية فقدم بوصفه رئيساً للحكومة مشروع قانون في تشرين 1/أكتوبر عام 1906 إلى القيصر للتوقيع عليه. وهو ينص على إعادة النظر بالأحكام والقوانين المقيدة لحقوق اليهود ومساواتهم بسكان الإمبراطورية الآخرين. وقد كان ستاليبين يأمل، على هذا النحو، "تهدئة خواطر اليهود" وتخليص التشريعات الروسية من التراكمات المسببة لحالات التعسف العديدة. ولكن نيكولاي الثاني رفض المصادقة على هذا المشروع بذريعة أن هاتفاً داخلياً يوحي له بعدم أخذ ذلك الأمر على عاتقه. هكذا صرح فيما بعد لرئيس حكومته. ومع ذلك فقد طرح مشروع القانون بموافقة القيصر على الدوما الثالثة، ولكن نواب الدوما الثالثة والرابعة لم يجدوا الوقت لبحثه على الأقل ولم يتخذوا بشأنه أي قرار.
وعند انطلاقة ثورة فبراير رحب اليهود بها أشد الترحيب واعتبروها منقذاً من القيود العديدة، التي فرضتها الحكومة القيصرية عليهم في غضون فترة تاريخية طويلة. وفي هذا الصدد يشير الكسندر سولجنتسين في كتابه عن تاريخ اليهود بروسيا " 200 عاما معاً" إلى أنه خلال الأسابيع الأولى بعد ثورة فبراير عاد من الولايات المتحدة لروسيا مئات المهاجرين والثوريين وآلاف المتخلفين عن الالتحاق بالجيش من اليهود. وأضاف أنه" بناء على تعليمات كيرنسكي كانت السفارة الروسية في الولايات المتحدة تمنح جوازات السفر الروسية لكل شخص يأتي إليها مع اثنين من الشهود. وكان أنصار تروتسكي يتلقون هناك معاملة خاصة. ولكن تروتسكي، الذي جرى احتجازه في كندا عند عودته من الولايات المتحدة إلى روسيا، لم يكن في حوزته جواز سفر روسي ضعيف وإنما كان رغم إقامته القصيرة هناك يحمل جواز سفر أمريكي ومبلغاً كبيراً من المال بالنسبة لذلك الوقت (10 آلاف دولار)...
وبعد الثورة سرعان ما شغل مرافقو تروتسكي القادمين من الولايات المتحدة مناصب رفيعة في الدولة السوفيتية حيث أصبح الصائغ ملنيتشانسكي والمحاسب فريمان ومنضد المطبعة منكين- منسون ضمن قادة النقابات السوفيتية ورئاسة تحرير البرافدا وهيئة السندات والأوراق المالية على التوالي. كما صار الدهان سيرغي زورين (الاسم الحقيقي - الكسندر غومبار) رئيساً للمحكمة العسكرية الثورية في بتروغراد".(الكسندر سولجنتسين. مئتا عام معاً. موسكو، دار نشر"روسكي بوت"، 2001. الجزء الثاني ص.11).
وفي أواخر تموز/يوليو شهدت منطقة وايت شابل بلندن اجتماعاً حاشداً أعلن خلاله 10 ألاف يهودي عن رغبتهم في التوجه إلى روسيا للنضال من أجل بناء نظام ديمقراطي في البلد. كما أنه تسهيلاً لأحوال"المهاجرين السياسيين" العائدين من أمريكا قررت الحكومة المؤقتة منحهم حسومات على أسعار بطاقات السفر بالقطارات من فلاديفستوك إلى موسكو وبتروغراد.
وقد قامت هذه الحكومة في الأيام الأولى لعملها بإلغاء القوانين والقيود الأخرى بحق اليهود الصادرة في العهد القيصري. وهذا الوضع المريح أتاح تفجير طاقات السكان اليهود إذ بدأ ازدهارعاصف غير مسبوق للثقافة اليهودية فظهرت دور طباعة ونشر جديدة، وصدرت كذلك عشرات الصحف والمجلات، وافتتحت مدارس ورياض أطفال باللغتين اليديشية والعبرية. كما نشأت فرق غنائية وستوديوهات للرسامين.
وفي الوقت نفسه انتسب 2600 شاب يهودي إلى المدارس والكليات العسكرية الروسية، وتشكلت في المدن والبلدات العديدة اتحادات نسائية وطلابية ونواد رياضية وجمعيات مختلفة. وفضلاً عن ذلك كانت تلقى محاضرات حول تاريخ اليهود. وآنذاك التحق العديد من رجال الدين اليهود بالجيش الروسي، أسوة برجال الدين المسيحي والإسلامي، حيث كانوا يقيمون بزيارة الجرحى في المستشفيات وتنظيم الطعام الحلال (الكوشر) في مطابخ الجيش للعسكريين اليهود، فضلاً عن إنشاء معابد ميدانية ومساعدة الأسرى اليهود من الجيشين النمساوي والألماني. وفي تلك الأثناء جددت المنظمات السياسية اليهودية نشاطاتها وعززت مواقعها بعد الركود الذي أصابها من جراء إخفاق ثورة 1905-1907.
وبعد ثورة أكتوبر انتقل القسم الأعظم من أعضاء الأحزاب الاشتراكية القومية اليهودية – البوند و"عمال صهيون" و"الاشتراكيون الصهاينة" إلى صفوف البلاشفة. وكان البوند قد انشق في عام 1920 إلى جناح يميني وجناح يساري. وقد اتجه اليمينيون نحو الهجرة من البلد بينما انتسب اليساريون وهم الأغلبية إلى الحزب البلشفي. وجرى الأمر نفسه بالنسبة للكثيرين من اليهود الأعضاء في الأحزاب الاشتراكية الروسية مثل المناشفة و الاشتراكيين الثوريين والأناركيين، الذين انضموا بعد الثورة إلى حزب البلاشفة.
ومنذ بداية الحرب الأهلية تعرض اليهود إلى تهديدات مستمرة من جانب الجماعات المعادية للسامية شملت روسيا بأكملها، ولكنها تركزت بالدرجة الأولى في مناطق الأعمال القتالية، فاضطروا إلى البحث عن الحماية لدى السلطة السوفيتية، التي أكدت رسمياً رفضها القاطع لمعاداة السامية، واعتبرت ذلك خارج القانون. وكان هذا أمراً متوقعاً حيث أن جزءاً كبيراً من قادة هذه السلطة من اليهود أصلاً، زد على ذلك أن الإيديولوجية الشيوعية تدعو إلى التضامن الأممي وتنبذ النزعات القومية.
ولهذا سارع الكثيرون منهم إلى الالتحاق بالجيش الأحمر وأجهزة التشيكا تحت شعار النضال من أجل سلطة العمال وضد المعادين للسامية والقساوسة والكولاك وحركة البيض. وقد أعلن حزب"عمال صهيون" الاشتراكي الديمقراطي حالة التجنيد العام لأعضائه في صفوف الجيش الأحمر. كما أن حزب البوند حذا حذو" عمال صهيون" وقرر بدوره التجنيد العام لأعضائه في الجيش البلشفي. وفي المحصلة ظهرت وحدات عسكرية بكاملها مؤلفة من اليهود، مثل الفوج رقم 117، وكتيبة الرماة المعروفة بقيادة يوسف فورمان. وقد بلغ عدد اليهود المقاتلين في صفوف الجيش الأحمر خلال سنوات الحرب الأهلية حوالي 20 ألف أي 6-7 بالمئة من قوامه العام. ولكن هذه النسبة كانت أكبر بكثير ضمن الضباط والقادة العسكريين، ناهيك عن المفوضين السياسيين. وخصيصاً لهؤلاء المقاتلين كانت تصدر بلغة الايديش صحيفة" روتييه آرميه" وذلك من قبل الشعبة العسكرية لحزب" عمال صهيون". وكان معظم معاوني مؤسس الجيش الأحمر وزير الحربية ليون تروتسكي من اليهود مثل ايفرايم سكليانسكي وأركادي روزنفولتس وسيرغي غوسيف، وأعضاء هيئة الدفاع الثوري ياكوف سفيردلوف (يانكيل ميرايموفتش) وموشيه فولودارسكي(غولدشتين) وكذلك ياكوب فيشمان (عن الاشتراكييين الثوريين اليساريين) وغيرهم.
وفي أيار/ مايو عام 1918 استحدث بروسيا السوفيتية 11 دائرة عسكرية. وقد عين ايميليان ياروسلافسكي (مينيه إسرائيلوفتش غوبلمان) مفوضاً عسكرياً عن دائرة موسكو وسيمون ناخيمسون عن دائرة ياروسلاف. وكان غريغوري سوكولنيكوف (غيرش ينكيلوفتش بريلانت) قائداً لجبهة تركستان (آسيا الوسطى وكازاخستان). وشغل ميخائيل لاشيفتش (غاسكوفيتش) منصب قائد جيش الجبهة الشرقية.
وقد خشي تروتسكي من أن التمثيل غير المتناسب لليهود في المناصب العليا بالجيش والتشيكا والمؤسسات الحكومية السوفيتية قد يؤجج مشاعر العداء الشعبي لليهود ويساعد على تأكيد مصداقية دعاية البيض المعادية للثورة البلشفية. وبهذا الصدد بعث رسالة إلى لينين من أجل استدراك الوضع. وأخذت قيادة الحزب ملاحظات تروتسكي بعين الاعتبار وكلفته بإعادة توزيع الكوادر. ومع ذلك لم تحدث أي تغييرات تذكر في هذا الشأن.
أما بالنسبة لمعسكر البيض فقد كان يخدم في صفوف القوات المعادية للبلاشفة عشرات الضباط وعدد غير قليل من اليهود. بيد أنهم كانوا يتعرضون لمضايقات ومواقف عدائية من جانب رفاقهم في السلاح مما دفعهم إلى الانسحاب من الخدمة في هذه القوات.
والجدير بالذكر أن المعاهد والمؤسسات الأرثوذكسية في المناطق غير الخاضعة للسلطة السوفيتية وكذلك "وكالة المعلومات" التابعة لجيش دينيكين اعتبرت يهود روسيا بلاشفة برمتهم ودعت إلى حملة صليبية ضدهم. وقد رفعت صحيفة "نحو موسكو" الشعار التالي: "قم واطرد إلى فلسطين هؤلاء اليهود المتباهين". وكان ازدراء الغرباء أمراً سائداً في أوساط الشرائح العليا للمجتمع الروسي، وانتقل ذلك إلى القوى المناوئة للبلاشفة. ورغم كل شيء فإن الميول المعادية لليهود كانت أكثر انتشاراً في الأوساط الشعبية والفئات الهامشية وخاصة بأوكرانيا.
على كل حال لا يمكن إنكار ظهور ميول معادية لليهود في صفوف رجال الدين الأرثوذكس بروسيا القيصرية، غير أن ذلك إذ كان موجوداً فلم يكن ناجماً عن أسباب دينية محضة، وإنما كان يرجع إلى اعتبارات سياسية، حيث لم يعمل هؤلاء الكهنة على شجب اليهود "، الذين صلبوا المسيح"، بقدر ما كانوا يدينون أعمال الثوريين الملحدين، الذين كانت نسبة اليهود بينهم كبيرة. أما الموقف الرسمي للكنيسة فقد كان ضد أعمال القتل والنهب المرتكبة بحق رعايا البلد بصرف النظر عن انتمائهم القومي والديني. وقد جسد المجمع الكنسي المقدس (السينودس) هذا الموقف في بيان أصدره بصدد أحداث كيشينيوف، التي تجلت في أعمال شغب معادية لليهود في عام 1903.
وحتى أواخر عام 1918 كانت الأحزاب ذات التوجه الديمقراطي تسيطر على حكومات المناطق، التي انتفضت ضد السلطة البلشفية مثل منطقة حوض الفولغا والأورال وسيبيريا وغيرها. وكانت هذه القوى تلعب دوراً كابحاً للأعمال المعادية لليهود. ولكن بعد أن حلت محل الكاديت والاشتراكيين الثوريين حكومات من أوساط العسكريين وأقيمت هناك دكتاتوريات ذات صبغة عسكرية (الأميرال كولتشاك والجنرال ميللر) جاء إلى السلطة ضباط متأثرين بنزعة كراهية الأجانب واللاسامية.
ومن جهة أخرى كان قادة الحمر يعاملون السكان الروس كأناس غرباء تماماً بالنسبة لهم نظراً للحقد المتراكم في نفوسهم على السلطة القيصرية، التي كانت لعهود طويلة تنغص حياتهم بشتى المحظورات، ولا تردع الأعمال العدوانية لمعادي السامية. وعلى العموم كانت معارضة اليهود للنظام القيصري أمراً طبيعياً ومفهوماً. ولكن موقفهم من الأحزاب لم يكن مع ذلك واضحاً. فالأحزاب البرجوازية الديمقراطية مثل الكاديت وحزب التقدميين وغيرهما كانت تطالب بمنح اليهود وغيرهم من شعوب الإمبراطورية الروسية المساواة ووفت بوعدها فور وصولها إلى السلطة. فقد أصدرت الحكومة المؤقتة في 20 آذار/مارس عام 1917 مرسوماً يقضي بإلغاء كافة القيود الدينية والقومية، التي فرضتها القيصرية على اليهود. كما أن البرنامج الديمقراطي البرجوازي كان يستجيب تماماً للمصالح الطبقية لليهود الروس، الذي لم يكن بينهم إلا القليل من البروليتاريا. أما وجودهم بين الفلاحين فقد كان معدوما. وهكذا فإنه من الناحية المنطقية كان متوقعاً أن تكون ميولهم بعيدة عن الداعين إلى إقامة "دولة العمال والفلاحين" و"دكتاتورية البروليتاريا" و"حل المسألة الزراعية".
وقد كان الزعيم الأناركي الروسي ميخائيل باكونين يدلي في بعض الاحيان بأقوال معادية لليهود. ففي عام 1871 كتب ما يلي : " ... يتكون مجمل العالم اليهودي من عصابة واحدة للمستغلِين والطفيليين، الذين يعيشون في بحبوحة على حساب الآخرين دون أن يقيموا وزناً لحدود الدول....وهم اليوم إما تحت تصرف ماركس من جهة، أو في أحضان روتشيلد، من جهة أخرى".
ومما لا شك فيه أن الأحزاب الليبرالية كانت تتمتع بتأييد معين في الأوساط اليهودية البرجوازية والمثقفة. وقد كان معظم النواب اليهود في مجلس الدوما أعضاء في حزب الكاديت كما أنهم كانوا يلعبون الدور الأول في الصحافة الديمقراطية البرجوازية. وعلى سبيل المثال عمل في صحيفة "روسكيه فيدوموستي" اليمينية فلاديمير جابوتينسكي، الذي أسس فيما بعد بفلسطين "الحركة التصحيحية الصهيونية".
أما بالنسبة للأحزاب اليسارية فإننا نجد صورة مغايرة تماماً حيث أينما أجال المرء نظره سواء نحو الاشتراكيين الثوريين اليمينيين أو اليساريين أم نحو المناشفة المؤيدين للحرب أم المناشفة الأمميين المعادين للحرب أو البلاشفة أو الأناركيين فإنه يلقى في كل مكان أسماء يهودية. والسؤال المطروح هنا لماذا وجد العديد من اليهود النشطاء سياسياً أنفسهم أكثر راديكالية مما كانت تقتضيه المصالح القومية لليهودية الروسية؟ فهل يعود الأمر يا تُرى إلى أن اليهود عموماً من أصول فقيرة ولهذا انطلقوا من مصالحهم الطبقية دون النظر إلى الاعتبارات القومية! غير أن ذلك لا يتطابق مع الواقع التاريخي. فمن المعروف أن تروتسكي انحدر من عائلة غنية، وكان كامنيف ابن مهندس، وكان زينوفييف ينتمي إلى أسرة صاحب مزرعة ألبان. أما أوريتسكي فكان ابناً لتاجر. وثمة لوحة متشابهة نراها لدى زعماء الأحزاب اليسارية الأخرى حيث أن المنشفي مارتوف نشأ وترعرع في كنف أسرة موظف ميسور الحال عمل بشركة الملاحة الروسية. وفي ضوء ذلك يتعذر على ما يبدو تفسير هذا الخيار بالكراهية الطبقية.
ويرى المؤرخ دافيد شوب أن تروتسكي وغيره من الشخصيات البلشفية البارزة لم تكن تربطهم أية صلة بالجماهير اليهودية، ولم ينضموا إلى أي تنظيم سياسي يهودي، إذ كانوا أعداء لدودين للحركة القومية والثقافية اليهودية. وقد كان كل واحد منهم يؤكد باستمرار على أنه ليس يهودياً وإنما هو"أممي". ولم يكن لدى هؤلاء جميعاً أي شيء مشترك مع الشعب اليهودي، باستثناء منشأهم العائلي. فقد كان اليهود الثوريون بمعظمهم يؤمنون حقاً في حل المسألة اليهودية عن طريق الاندماج. ولكن في ضوء استنتاج هرتزل بأن اليهود محكوم عليهم أن يبقوا غرباء حتى في أكثر المجتمعات ليبراليةً أدرك البلاشفة اليهود، على ما يبدو، أن العالم القديم لا يريد منهم أن يصبحوا متساويين مع الآخرين ولهذا قرروا تحطيمه تماماً وبناء عالم جديد بدون رواسب طبقية وطائفية والأهم من ذلك أنه لن يكون فيه يهود وأغيار.(دافيد شوب. الشخصيات السياسية في روسيا(1850-1920)، دار نشر"نوفي جورنال"، نيويورك 1969- موقع"خرونوس" الإلكتروني الروسي).
4826 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع