حاتم جعفر
أسُعادٌ أنت أم قطر الندى!!(فصل من رواية، في طريقها الى النشر)
بعد أن أصدرت إدارة المحافظة قرارا يقضي بنقل كل دوائر الدولة التي يضمها مبنى السراي القديم الى مكان آخر، كانت قد جرت تهيئته مسبقا. بالمقابل سيتم تحويل المبنى الى قسم داخلي للطالبات بعد إجراء بعض التعديلات والإضافات الضرورية، ليستقبل أولئك اللواتي يسكنَّ خارج المدينة. وإنسجاما مع مناسبة إفتتاحه وترحيبا بالطالبات القادمات، فقد أقامت مديرية التربية حفلا خاصا، دعت الى حضوره عدد من موظفي هذه الدائرة وعوائل الطالبات، فضلا عن فتح أبوابه أمام العامة من الناس. وأكثر مَن تداعى الى حضور هذا الحفل هم سكان المنطقة التي يضمها مبنى السراي. وعن هذا الحفل فقد إقتطعنا جزءا منه، متوقفين عند بعض اﻷحاديث التي جرت بين عدد من ضيوفه، والتي جاءت على النحو التالي:
كان أبو وعد النادي قد سبق صديقه اﻷستاذ عبدالهادي في الحضور الى باحة بناية السراي. إقترب اﻷخير منه وحيّاه الاّ أنه لم يتلق رداً مرضيا كما اعتاد عليه. إستغرب تصرفه هذا ولم يهدأ له بال حتى إنجلاء اﻷمر. فمن بين كل الواقفين والواقفات، كانت عيناه قدسقطتا على إحداهن حتى أشغلته عن سواها من البنات. إنها تشبه سعاد بل تكاد أن تكون هي أو توأمها، قالها لصاحبه الذي يقف بجانبه. حَسَدَ أبو وعد النادي نفسهُ على ذاكرته، وشعر بزهو على تمييزها من بين عشرات الصبايا اللائي تجمهرن في الباحة.
إنضم اليهما شخصا ثالثا، كان متأبطاً ديوان شعر، يعود لصاحب إحدى المعلقات العشرة على أكثر الظن، فما بان من عنوانه يشير الى ذلك. كان هو اﻵخر يعرف سعاد مذ كانت صغيرة، فهي إبنة حارته وكانت صديقة إبنته الوسطى، وقد طاب له ما رأى، لذا تجده سخياً في وصفها: انها تشبه أمها حقا، فقد حباهما الله بنعمتي الجمال والخُلُق الرفيع، هذا ما تنبئ به محياهما. ثم أضاف، موجها كلامه همسا لصاحبيه، ألا ترونها كيف جدلت شعرها بظفيرتين، عقصتهما بشريطين أحمرين، ليأخذا شكل فراشتين، أوشكت أن تطير بهما فرحا !!.
وأيضاً عن شعرها راح مزيدا: يكاد أن يكون بلون عينيها العسليتين اللامعتين كأغلب أهل السواد. ثم واصل مستغرقا في وصفه: في جيدها عقد مُرَصَّعٌ بحبيبات صغيرة، لونها كلون اللجَين. وﻷنها رقيقة الحاشية ناعمة، فقد خشيت الفتاة كما يبدو من إنفراط حباته من كثرة التدافع، لذا ما برحت تتحسسه بين حين وحين. وﻷننا في شهر أيلول وشمسه الهادئة، فقد بدت حانية عليها، حيث لامست وجهها بِرفقٍ، ولامست عقدها كذلك، فراحا يتلألآن.
أبو وعد النادي لا زال مندهش الخطب، بل راح أبعد، وها هو يعود بذاكرته الى تلك الأيام والى تلك الأزقة المتداخلة، والى ما كان يتخللها من مشاكسات، مصدرها بعض من فتية الحي. مستعيدا تلك العيون الهائمة، التي تاهت دلالاتها وتداخلت بين الفضول والعفوية والعشق الغير معلن. محاولة (العيون) ما استطاعت، إختلاس نظرة عابرة، بعد أن نجحت في التسلل عبر ستائر، كان البرد والشمس قد أنهكاها حتى فقدت لونها. جرى تعليقها بغير هدى على ما كان يسمى بوابات بيوت، وها هي اﻷخرى متعبة، لقِدمها وضِيقها ولتدافع الصغار حين ولوجها وما كانوا يعبثون.
تذكَّر كذلك، كيف وبَّخَ جاره ولده الأصغر على فعلة حاول في البدء إنكارها، يوم غرِّرَ به لنقل رسائل عشق لا يعرف كنهها. مكتوبة على عجل وبحسن نية وبراءة طفل، لم يزل بعد يحبو في لغة العشق، ومن حبيب لحبيبته، مما تسبب لهما في أن ترميهما أنظار الحي بالفاحشة، وإتهامهما بإرتكاب الرذيلة وما هو أبعد وأكثر نذالة.
ثم أضاف: لم تكن وقتذاك سوى نزوة عابرة، كان لها أن تمر سريعا، أسوة بسيرة وتجربة أي فتى أو فتاة، لا زالا غضي العود والعمر، يحلمان بألوان الطيف وبسعادة، يتأملانها أن تأتي. هذا ما قاله في حينها بعض من أبناء الحي المنصفين والمتعاطفين معهما، ولكن لم يلتفت ولم يَستجب لدعواتهم ورغباتهم أحدا. أنا هنا يقول أبو وعد، لست بموقع الدفاع عنهما رغم إنحيازي لهما، بل هكذا كان الأمر بين أي عاشِقَين إثنين، وهذه هي حقيقته.
وعن ذات الموضوع، فقد كان للأستاذ عبدالهادي ما يقوله، فشرع بدوره، متذكرا ما جرى في تلك اﻷيام: حالٌُ كهذا، لم يَرُقْ للبعض الآخر، لذا تجد ألسنتهم وقد راحت معلنة عن وقاحتها وبصلافة، لتزيد من ثقل الواقعة على ولي أمر سعاد ولتضيف على همَّه همّا، فأختير لها أشد الخيارات قسوة وظلما. وسترمى كما ترمى النطيحة لأي كلب سائب ضال، سيدقُّ بابها. سيتمنن عليها في بادئ اﻷمر، وسيَرتضي بها زوجة إن أراد، لـ(يستر عورة أبيها قبل أن يستر عورتها)، فكان مصيرها أن تكون ثالثة الزيجات على رجل له من العمر ما يزيد على عمر أبيها، و لتسكن سعاد قرية نائية، لا تصلها عيون أحبتها. وسوف لن تستطيع زيارة أهلها الاّ بعد إكتمال الحول، حسب الشرط الأول الذي وضعه زوجها. وإذا ما (نجح) وبنى فيها، فعليها إنتظار مَقْدَم ولي عهده، وبعد ذلك سيكون لكل حادث حديث، وكان هذا شرطه الثاني.
أمّا عن ليلة الوطر والقول لا زال للأستاذ عبدالهادي، فقد كانت سعاد وبحسب ما تسرب من أخبار، كانت قد دارت فصوله بين بضعة من نساء الحي، فخوررة بعفتها وأكثر حياءاً وخجلا من سابقتيها، وهذا ما شَكَّلَ حافزا قويا ومدعاة للتشبث بها من قبل مَنْ بات يسمى زوحها، رغم ولادتها بنتاً على ثلاثة أخريات من زوجتيه السابقتين ومن أول نطفة. بكرها، لم تكن كأي بنت، بل هي كالقمر، إن لم تكن القمر بعينه. انها نسخة طبق الأصل من والدتها سعاد، فأسموها قطر الندى. إسم نادر كندرة جمالها.
بالمناسبة وبينما كان الرجال الثلاثة يتناوبون على وصف سعاد وإبنتها ومدحهما، فقد تأكد لهم إسم البنت من خلال تلك النداءات التي كان مصدرها بضعة بنات، كن ينادين عليها بين وقت وآخر وهن معتليات الطابق الثاني من المبنى، إثناء نثرهن باقات الورد على الحاضرين، المتجمعين، المحتفين في باحة السراي.
أبو وعد النادي وعلى الرغم من انه بات يعرف إسمها، لكنه أوشك أن يناديها من جديد بإسم اُُمها، ربما لِما تَحمله من مكانة متميزة في ذاكرة الرجل. أو لشديد الشبه بين الإثنتين، حتى بدتا وكأنهما تقاسمتا وانفلقتا من بذرة واحدة، غير انه إستدرك وتدارك، ليتنبه الى الفارق الكبير والبيّن بين عمريهما. عجيب أمر هذه الصبية، فهي تحملُ ذات الملامح والطباع، .. وتحمل أيضاً ذات الحضور، وذات الجاذبية المُلفتة والنظرة الحانية. هذا ما قاله الرجل حين عاد به الرجع.
غاص أبو وعد النادي عميقاً في ذاكرته وراح مستعيدا في داخله تلك الواقعة، وبأبرز فصولها: بعد مرور بضعة سنين على تلك الخطيئة، أدرك والد سعاد وبعد فوات الأوان ما أقترفت يداه وما إرتكب ضميره من ذنب بحقها، فراح فاتحا باب قلبه وباب بيته على مصراعيهما لزهرة الإقحوان، عسى أن تدخل المغفرة وتدخل معها إبنته (سعاد) بيت أبيها واُمها. غير انَّ جرحها لا زال طرياً، غائرا. وبعد تردد، إستغرق بعض من الوقت، قررت أن تدخل بيتها الذي كان، وبين يديها طفلة من جمال أخّاذ. وأول ماقامت به أن توجهت الى غرفتها الواقعة في أقصى الدار، والى تلك النافذة التي تطل على درب المشاة والعابرين، عسى أن يمر من هناك حبيبها، لتبادله ذات البراءة والشوق، كما اعتادت عليه في خاليات اﻷيام.
لا أحد هناك ولا أحد يمر بالشرفة والزمن لن يعود. هذا ما نُُقلََ عنها وعلى لسان إحدى صديقاتها المقربات. لذا والكلام لا زال عمّا نُقِلَ عنها، ما كان أمام سعاد من خيار سوى إستعادة بضع صفحات من الماضي، لتشم عطره وتغفو على أبيات شعر كانت قد دونتها على ورق، حال لونه مع مرور الزمن. وما هي الاّ بضعة دقائق حتى وجدت نفسها قد عادت الى ذلك الجرح، وكيف أرغِمَتْ على الإقتران برجل فاقد للرجولة ولأسباب كثيرة، لم يكن مناسبا الكشف عنها، لطبيعة الظرف الحرج الذي تمر به، فالتزمت الصمت مجبرة، واستعانت بالصبر حتى تحين ساعة البوح والمكاشفة، لكنها في ذات الوقت كانت قد عقدت العزم على أن تضع حداً لتلك المهزلة، مقررة الإفتراق وبأي ثمن، عن ذلك الذي أسموه زوجها، ويمضي كل منهما الى حال سبيله، وهذا ما تحقق فعلا فيما بعد.
وبالعودة الى ما جرى فجر ذلك اليوم النحس، فيقول أبو وعد عنه وبأدق التفاصيل، وبدا وكإنَّ ما يرويه قد حدثَ قبل دقائق من الآن: الناس لا زالوا نياماً والنجوم كذلك. إعتبر والدها انَّ الوقت قد حان وبات مناسبا للتستر وإخفاء ما يعتقده عاراً، سيظل يلاحقه أبد الدهر، إن لم ينهِ الأمر بسرعة ويُسكتُ كل الأصوات والألسن التي فقدت الرحمة. كيف لي أن أنسى ذلك اليوم يقول أبو وعد، حين فُرِضَ على سعاد التسلل من بين عيون ربما كانت تتلصص عليها أو كانت كذلك، لتتم عملية تهريبها بصحبة ولي أمرها وصحبة مَن سيكون زوجا لها كما يُفترض، وقبل إنبلاج ضوء الصباح وإفتضاح ما يعتبره البعض سرِّا وعارا.
في حينها ما كان لسعاد من خيار غير أن تُسرع وتحث الخطى وبما يستجيب وسرعة وعقلية مَن كان معها، ولأسباب لا زالت غير مُقنعة لها ولا لغيرها ممن تعاطف معها. فسعاد لم تكن لتعي أو تدرك حجم ما يحصل من حولها وطبيعته، فهي لا تزال صغيرة، طرية، وستمسي طوع مَنْ لا قلب له. لم يسمعها أحد حين كانت تإن وتصرخ. لماذا لفقوا لها تهماً وألصقوا بها ذنوباً لم ترتكبها؟. ما العيب في أن تكون عاشقة بريئة! ما الحرام في العشق؟ لم يرد عليها أحدٌ فكان الثمن باهضاً، دفعته هي قبل أبيها وامها.
أخذ أبو وعد النادي يستغرق أكثر في رجعه، ليعود الى ما كان يدور من كلام في حينها عن مفهوم الشرف، وكيف راح البعض يلوك ما يطيب له ذبحاً بتلك الفتاة، والتي لم تكد بعد قد بلغت الخامسة عشرة من عمرها، وحليب اُمها ما زال ساخناً في فمها، حين اُنتهكت بألسنة نذلة وبأبشع الأساليب وأرخصها. ما هو الشرف ما معناه؟ مَنْ أشرف مِن مَنْ، في معادلة خَلَتْ من منطق العدل والمساواة والرحمة والرؤية الواحدة، بين سعاد من جهة ومن هي بحكمها، وبين من أساء لها أو من صادر حياتها حاضراً ومستقبلاً من جهة آخرى؟ .… . أسئلة كانت ولم تزل مُعلقة ورهن الإجابة عليها.
سعاد وقصتها لم تقتصر عليها، أو هي حالة نادرة أو إستثنائية، غير إنَّ ما كان يميزها عن مثيلاتها، هو انتشارها الواسع وسرعة تداولها بين الناس، ووصل صيتها مستوى لا يستحق كل ذلك التهويل والمبالغة، فكثيرة هي الأخبار والحوادث التي تشابهها، وكثيرة هي الفضائح المماثلة، إن سُميت فضائح، والأكثر منها ما كان يزكم اُنوفاً ويكسر اُخرى، الاّ إنها لم يجرِ تبنيها من أحد، ولم يجرِ الترويج لها أصلا، وكانت سعاد هي الضحية والذبيحة.
بعد إنتهاء الحفل بدقائق معدودات وبينما كان الزحام على أشده، تقدمت إبنة سعاد أو لنقل قطر الندى من بين المتجمهرين، وهي حاملة ما تبقى لديها من باقات الورد، لتهديها وبشكل عفوي الى أبو وعد النادي والى الإستاذ عبدالهادي وَمَنْ كان معهما. يا له من تصرف رائع ومصادفة جميلة، لا تليق الاّ بسعاد وإبنتها، قالها ثلاثتهم.
حاتم جعفر
السويد ــ مالمو
923 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع