د. جابر ابي جابر
موقف ماركس وإنجلس من الروس
بعد ثورة أكتوبر البلشفية لقي ماركس وإنجلس تبجيلاً لا حد له في الاتحاد السوفيتي وهو الدولة الأولى في العالم، التي استند نظامها رسميا على المبادئ الماركسية. وقد صدرت مؤلفات هذين المفكرين في العهد السوفيتي بأعداد هائلة من النسخ باللغة الروسية ولغات شعوب البلد الأخرى. كما سُميت باسميهما المدن والساحات والشوارع والمصانع والمكتبات ناهيك عن انتشار تماثيلهما في كافة أرجاء هذه الدولة الشيوعية. وإلى جانب ذلك كانت صور مؤسسي الماركسية تعلق في كل مكان وتزين منصات المؤتمرات والاحتفالات الرسمية. وقد كانت أعمالهما تدرّس على نطاق واسع في المدارس والجامعات وأصبحت أساساً لمقررات دراسية مثل مادة "الشيوعية العلمية" و"المادية التاريخية" و"المادية الجدلية". كما دخلت نظرية التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية في صلب العلوم التاريخية السوفيتية. وعلى العموم كان ماركس وإنجلس يعتبران إلى جانب لينين في مصاف الآلهة.
ولكن عقب انهيار الاتحاد السوفيتي أصبح معلوماً لقطاعات واسعة من المواطنين ان بعض أعمال كارل ماركس وفريدريك إنجلس لم تدرج في مجموعة مؤلفاتهما نظراً لحرص السلطات الشيوعية على أن تحجب عن الشعب الحقيقة المريرة بخصوص كراهية مؤسسي الماركسية للروس. لذلك لم يكن أحد من المواطنين في العهد السوفيتي، عدا بعض الباحثين القلائل، يتصور أن ماركس وإنجلس كانا يناصبان العداء الشديد لروسيا والروس وجميع السلاف باستثناء بولندا. والملف للأنظار أن الفكر الماركسي ليس الأمر الوحيد، الذي يجمع بين لينين ومؤسسي الماركسية، فإن مواقف مؤسس الدولة السوفيتية " الروسي" تجاه بلده ومواطنيه لم تكن تتختلف إطلاقاً عن مواقف ماركس وإنجلس، إذ كان لينين معروفاً بكراهيته غير المحدودة للروس واستخفافه بهم ولاسيما أنه لم يكن الدم الروسي يجري في عروقه البتة. وقد كان الزعيم البلشفي حفيد إسرائيل بلانك يشير في العديد من رسائله ومؤلفاته إلى شوفينية الروس" القذرة" والعبودية الروسية الطويلة الأمد واستعبادهم لشعوب الإمبراطورية.
ومن جهة أخرى لم يخطر على بال ماركس نفسه إطىلاقاٌ أن الثورة البروليتارية ممكنة في روسيا. ففي اعتقاده" لا يمكن أن يحدث فيها هذا التمرد أو ذاك ولن تشهد أبداً أية ثورة". ولم يكن يتوقع أن أفكار الثورة الاجتماعية التي يطرحها ستثير مثل هذا الاهتمام النشيط والنابض بالحياة من جانب الجزء الراديكالي من رعايا الإمبراطورية الروسية" المتخلفة". وكان ماركس يندهش بكل صدق عندما يقولون له أنه صار مشهوراً في هذا البلد البربري حيث طُبع العديد من أعماله. وفضلاً عن ذلك كان مؤلف "رأس المال" ينظر باحتراس وحذر إلى الشخصيات الثورية الروسية في أوروبا معتبراً إياهم عملاء للقيصر ألكسندر الثاني. ولم يبدل موقفه هذا من روسيا إلا قبل وفاته بقليل حين وصل إلى مسامعه خبر اغتيال القيصر المذكور فعند ذلك قال" تمثل روسيا الآن فصيلاً طليعياً في الحركة الثورية الأوروبية". والملفت أن ماركس اعتبر حفنة من الإرهابيين طليعة الحركة الثورية في أوروبا.
اهتم ماركس اهتماماً بالغاً بحرب القرم وتنبّأ بانتصار تحالف الأتراك والبريطانيين والفرنسيين على روسيا قبيل ابتداء الأعمال العسكرية هناك. وقد نشر بهذا الصدد يوم 6/3/ 1854 مقالة في صحيفة" زاود أفريكان"( جنوب أفريقيا) بعنوان" الحرب الشرقية ". وفي هذه المقالة يضع ماركس خططه الجيوسياسية حيث يشير إلى أنه"مما لا شك فيه أن الأسطول الأوروبي – التركي قادر على تدمير سيفاستوبل وتحطيم أسطول البحر الأسود الروسي. وفي وسع الحلفاء الاستيلاء على القرم والاحتفاظ به وكذلك احتلال أوديسا، ومحاصرة بحر آزوف، وإطلاق أيدي أهل الجبال في القوقاز. أما بالنسبة بالإجراءات، التي ينبغي اتخاذها في بحر البلطيق. فمن البديهي أنها ستكون مماثلة لما يجب أن يجري في البحر الأسود. وسيتجلى ذلك في العمل بأي شكل من الأشكال للتحالف مع السويد وإضرام نيران الانتفاضة في فنلندا عن طريق إنزال عدد كاف من القطع العسكرية هناك، والتعهد بأن اتفاقية السلام ستتم بشرط إلحاق هذا الإقليم بالسويد. ومن شأن قوات الإنزال في فنلندا أن تهدد بطرسبورغ بينما ستقوم أساطيل الحلفاء بقصف قاعدة كرونشتادت الروسية البحرية. وسيتوقف كل ذلك على قدرة الدول البحرية الأوروبية في التصرف بحزم ونشاط" (مجموعة المؤلفات، المجلد10،ص. 18، الطبعة الروسية).
ويعرب المؤلف عن أسفه لأن نابليون بونابرت لم ينجح في تحقيق هذا الأمر. ويسند ماركس لبريطانيا دوراً خاصاً في الحرب القادمة ويقول" تستطيع إنجلترا إنزال ضربة في الموضع الأكثر إيلاماً وهو سانت بطرسبورغ، كما بوسعها إقناع السويديين باحتلال فنلندا من جديد فضلاً عن جعل بطرسبورغ وأوديسا مكشوفين أمام أسطولها... فبدون هذين المينائين ستكون روسيا عملاقاً بلا ذراعين وبدون عينين...". ولكن الهدف النهائي لماركس يبدو هنا أكثر شمولاً حيث يرى أنه" لا بد من إزاحة روسيا نحو الحدود مع القارة الآسيوية" ( مقالة نيكولاي أندرييف في صحيفة " روسكايا غازيتا"، العدد 95، 4 / 5/ 2018).
وهكذا فإن تعليق ماركس على حرب القرم كان مؤشراً هاماً على موقفه من روسيا حيث حيث أعرب عن تأييده لبريطانيا وفرنسا على أكمل وجه. ومن جهة أخرى فإن ماركس في كتابه" الكشف عن التاريخ الدبلوماسي في القرن 18" (الدبلوماسية السرية في القرن 18) الصادر عام 1857 يوجه سهام انتقاداته إلى إنجلترا ، التي ساعدت بطرس الأكبر في صراعه ضد السويديين مما أدى، في نهاية المطاف، إلى حصول روسيا"البربرية" على مخرج لبحر البلطيق.
ويعتقد ماركس أن وصول الروس إلى ساحل بحر البلطيق ليس نهاية تطلعاتهم نحو التوسع العدواني وإنما دليل على أن ذلك سيتبعه سلسلة احتلالات عديدة في إطار العدوان العالمي وأكد على أن بطرسبورغ هي النافذة، التي من علوها يمكن للروس السيطرة على أوروبا.
وكان مؤلف "رأس المال" يفكر كثيراً في العقوبات ، التي يمكن أن تؤثر على روسيا بحيث تصبح سهلة الانقياد. وبهذا الصدد أشار إلى "أن روسيا إذا قُطعت عنها السوق الإنجليزية ستشهد بعد بضعة شهور هزات عنيفة.... وعليه فإنها بعد ذلك لن تثير الرعب لدى الكثيرين ولن تبقى خطيرة إلى هذا الحد".
في نهاية الربع الأخير من كتابه المذكور آنفاً أكد ماركس على "أن بلاد المسكوب ترعرعت وتربت في مدرسة العبودية المنغولية الفظيعة والمثيرة للاشمئزاز. ولم يشتد ساعدها إلا عندما أصبحت بارعة في فن الاستعباد. وحتى بعد تحررها استمرت هذه الإمارة الكبيرة في لعب دورها التقليدي كالعبد الذي تحول إلى سيد. وفي المحصلة جمع بطرس الأكبر الفن السياسي للعبد المنغولي مع الطموح الكبريائي للحاكم المنغولي، الذي أوصاه جنكيز خان بتحقيق حكمه في السيطرة على العالم". ويحتج معظم الباحثين الروس على أقوال ماركس بخصوص بطرس الأكبر ويرون أن هذا محض افتراء على المصلح الروسي، إذ لم يكن المصلح الكبير، وفق اعتقادهم، يخطط للسيطرة على العالم، كما لا يمكن لأحد أن يعتبره عبداً إلا إذا كان لديه خيال خصب للغاية.
وإلى جانب ذلك أعرب مؤسس الماركسية عن تأييده لنظرية المؤرخ البولندي فرانتسيسك دوخينسكي المنافية للعلم والتي تذهب إلى أن الروس ليسوا من السلاف. وقد اعلن ماركس في رسالته إلى إنجلس المؤرخة في 24 حزيران/يونيو عام 1865 " أن الموسكوبيين الحقيقيين أي السكان التابعين لإمارة المسكوب هم بمعظمهم منغوليون أو فنلنديون... لقد اغتصبوا تسمية"روس". ولهذا فإنهم ليسوا من الشعوب السلافية وعموماً لا ينتمون إلى العرق الهندي الأوروبي أي إنهم دخلاء ينبغي طردهم وراء نهر الدنيبر" ورغم اعترافه فيما بعد بأن هذه النظرية خاطئة أعرب ماركس في رسالته إلى الثوري البولندي لودفيغ كوغيلمان عن أمنيته في أن يكون دوخينسكي محقاً لكي تسود هذه النظرية المذكورة في أوساط السلاف.
ويبدو أن عداء ماركس وإنجلس للشعوب السلافية يعود إلى أنها تسعى إلى التقرب من روسيا. وبهذا الصدد وضعا في العامين 1848-1849 مفهوم "الشعوب التقدمية" و"الشعوب الرجعية". وحسب اعتقادهما فإن الألمان والمجريين والبولنديين ينتمون إلى المجموعة الأولى وأن البولنديين هم الشعب السلافي الوحيد الذي يتمتع بهذا الشرف. كما طرحا أيضاً موضوعة الجوهر البرجوازي الرجعي للفلاحين والطبع الرجعي لدى السلاف عدا البولنديين.
وتضم المجموعة الثانية الروس والتشيك والكرواتيين. أما بالنسبة للصرب والبلغار فلم يتطرقا إليهم. وخلال الحرب، التي خاضتها روسيا ضد الأتراك (1877-1878) من أجل تحرير شعوب البلقان السلافية كان مؤسسا الماركسية يبتهجان للانتصارات القليلة التي حققها السلاح التركي. والمعروف أن التشيك والكرواتيين وقفوا أثناء الثورات الأوروبية في العامين 1848-1849 ضد الثورة المجرية ودعوا إلى الحفاظ على النظام الملكي لأسرة هابسبورغ النمساوية. وقد عزا ماركس وإنجلس ذلك إلى دسائس روسيا التي اختلقت نظرية الرابطة السلافية وهي تكمن وفق اعتقادهما في السعي" إلى إخضاع الغرب المتمدن للشرق البربري، والمدينة إلى القرية، والتجارة ومعها الصناعة والثقافة إلى الزراعة البدائية لدى السلاف الأقنان".
وقد نشر إنجلس يوم 13 كانون2/ يناير عام 1849 في صحيفة الراين الجديدة مقالته" الصراع في المجر" على خلفية ثورات عامي 1848-1849 في أوروبا حيث قال أنه" في الحرب العالمية القريبة ستختفي من على وجه الأرض ليس فقط الطبقات الرجعية والسلالات الحاكمة وإنما أيضاً الشعوب الرجعية. وسيكون لذلك مفعول تقدمي" ( ف. إنجلس. مجموعة المؤلفات، المجلد 6، ص. 186، الطبعة الروسية). وفيما بعد نشر إنجلس مقالته" الرابطة السلافية الديمقراطية" التي توجه فيها إلى الروس الثوريين. وقد جاء في المقالة" .... إن كراهية الألمان للروس كانت ولا تزال الشغف الثوري الأول عندهم.... وليس بوسعنا العمل مع المجريين والبولنديين من أجل إبعاد الثورة عن المخاطر المحدقة بها إلا عن طريق ممارسة الإرهاب الحاسم ضد الشعوب السلافية.... فهذه الشعوب غير مؤهلة للتواجد القومي المستقل وإن نصيبها الحتمي يكمن في اندماجها ضمن جارة أقوى ( المصدر السابق)".
خلال حديثه عن البلقان يشير ماركس إلى" إن هذه الأراضي الرائعة يقطنها، لسوء حظها، خليط من الأعراق والقوميات التي يصعب على المرء أن يذكر أي منها قادر على التقدم والتحضر". وحيث أنه يعتبر السلاف" معادين للثورة" فإن آفاقهم، من وجهة نظره، كانت قاتمة للغاية.
وفي هذا السياق كتب إنجلس في صحيفة" نيو أودير " (1855) : "تحولت الرابطة السلافية من دستور الإيمان إلى برنامج سياسي تدعمه 800 ألف بندقية وضعت أوروبا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الخضوع لنير السلاف أو تحطيم مركز هذه القوة العدائية المتمثلة في روسيا إلى الأبد".
وكان ماركس يخيف الأوروبيين بقوله أن وراء هذه نظرية الرابطة السلافية "السخيفة" تقف الإمبراطورية الروسية، التي يظهر في كل خطوة من خطواتها السعي إلى اعتبار أوروبا برمتها ملكاً للعرق السلافي وخاصة الجزء الوحيد النشيط منه أي الروس. وقد كان ماركس يعتبر روسيا بلداً بربرياً بعيدا كل البعد عن الحضارة والتمدن ولا يستحق إلا الاحتقار. فهو، حسب اعتقاده، حصن الرجعية العالمية وخطر على الإنسان الحر والسبب الوحيد في وجود النزعة العسكرية بأوروبا، والاحتياطي الأخير والعمود الفقري للاستبداد الأوروبي الموحد. وقد أكد على أنه "لا يمكن الوثوق بروسيا، إذ يستحيل علينا أن نشعر بالأمان ما دامت في جوارنا. ولا يوجد أي مخرج آخر من هذا الوضع سوى إعلان الحرب عليها ومحيها من حلبة التاريخ أو إرغامها على خدمة الدول التقدمية".
وقد أعرب ماركس عن امتعاضه من أن حكومات الدول الغربية لا تعي، على الوجه الأكمل، الخطر الآتي من روسيا. فهي، في اعتقاده، قد تبدل أساليبها ولكن النجم الهادي لهذه السياسة يبقى على حاله وهو السيطرة العالمية. وأشار في هذا الصدد إلى" ان الاستحسان الوقح والتعاطف المصطنع واللامبالاة الغبية التي تنظر بها الطبقات العليا في أوروبا إلى استعلاء روسيا على الفلاحين الجبليين في القوقاز وتنكيلها بشعب بولندا البطل يتطلب من الطبقة العاملة أن تحوز بنفسها على أسرار السياسة الدولية وأن تتبع النشاط الدبلوماسي لحكوماتها وأن تواجها، في حال الضروة، بشتى الوسائل المتوفرة لديها (ك. ماركس، المجلد 16، ص. 160، الطبعة الروسية).
ويبدو أن ثمة شيئاً شخصيا غريباً في مواقف ماركس ذات الحساسية الشديدة ليس فقط إزاء روسيا كحكومة ونظام سياسي فحسب، بل وتجاه الناس، الذين يقطنون هذا البلد. فعندما دُعي الكاتب والمعارض اللدود للقيصرية ألكسندر غيرتسن للتحدث في اجتماع حاشد بلندن مكرس للحركة العمالية العالمية عارض ماركس بشدة مشاركة هذه الشخصية الروسية في الاجتماع وهدد بالانسحاب منه إن لم يتم إلغاء الدعوة الموجهة إلى غيرتسن. وقد علق غيرتسن عل هذا التصرف قائلاً" إنه لا يعرفني شخصياً ولكنه يكتفي بأنني روسي. أما اللجنة التنظيمية فإنها لم تطردني ولم يضطر ماركس إلى الانسحاب...". وقد وصف ماركس هذا العدو اللدود للنظام القيصري، الذي نشر في صحيفته بلندن "كولوكول" (الناقوس) الترجمة الروسية للبيان الشيوعي، بأنه" مسكوبي حقير ذو الدم الروسي – الكالميكي الكريه....". والجدير بالذكر أن ماركس ورفيقه إنجلس امتنعا آنذاك عن التحدث في هذا الاجتماع. وقد وقف الجمهور الإنجليزي بحماس إلى جانب غيرتسن، الذي أعلن في خطابه، موجها كلماته إلى ماركس، أن البعض يلومه على حبه للسلاف وإيمانه بعظمة مستقبلهم. وقبل الآن لم يكن الناس يطلبون من شخص مبعد عن وطنه وأهله أن يكره قومه ومواطني بلده. وقد قوطعت كلمة غيرتسن مراراً بالتصفيق الحار. ولهذا أثار الموقف انفجاراً جديداً للكراهية عند ماركس وإنجلس مما دفع ماركس إلى قطع علاقاته مع شخصيات الحركة العمالية البريطانية، الذين وقفوا مع غيرتسن. وفي هذا السياق غدا موقفهما السلبي من غيرتسن قاعدة ثابتة تنسحب على جميع الروس مما جعل كل ثوري روسي يتعلم من ماركس ثم يبتعد عنه.
وقد كان لابد لهذه المواقف العدوانية تجاه الروس والسلاف عموماً أن تثير لدى بعض الثوريين الروس ردود فعل معينة. فعلى سبيل المثال كان منظر الحركة الأناركية العالمية ميخائيل باكونين يعتزم، حسب قوله، توجيه صفعة قوية إلى ماركس إذا التقى به وجهاً لوجه وذلك احتجاجاً على إهانته للجيش الروسي. وكان ماركس يسعى دائماً للابتعاد عنه. كما دعا باكونين مؤلف" رأس المال" إلى المبارزة لاتهامه بأنه جاسوس روسي. ولكن ماركس تجاهل هذه الدعوة،. وقد فسر تصرفه الجبان لأصدقائه بأنه لا ينوي الرد على هذا التحدي من جانب سلافي حقير. وقد طرح باكونين في أعماله الموضوعة القائلة بأن الشوفينية تعكس الميول العنصرية لدى الرأسمالية الغربية. فالاشتراكية والشيوعية وكافة هذه الأفكار والمثل النيرة للتقدم الرفيع المقبل لا تظهر، حسب رأيه، إلا حينما يدعو إليها الأوروبيون، ولكن عندما تطرح هذه المثل في أوساط"المتوحشين" نرى على الفور أنها تعتبر مجرد تجلي للهمجية البدائية".
وقد نشر الشعبوي البارز بيوتر تكاتشوف رسالة مفتوحة إلى إنجلس وجه فيها إليه انتقادات لاذعة معتبراً إياه جاهلاً في القضايا الروسية ومشيراً إلى أنه يهين المبادئ الأساسية لبرنامج الحركة العمالية الأممية. كما لفت تكاتشوف الأنظار إلى أن إنجلس يحكم على برنامج الروس من وجهة نظر الألمان أي من منظار الظروف الاجتماعية للشعب الألماني، ولهذا فإن نصائحه وإرشاداته لا تنسجم مطلقاً مع الظروف الروسية بل وتلحق الضرر بمصالح الحركة العمالية والاشتراكية في روسيا. وتأكيداً على اختلاف ظروف الجانبين لفت تكاتشوف الانتباه إلى أن الثوريين الروس، خلافاً لرفاقهم الالمان، ليس لديهم طبقة بروليتارية ولا صحافة حرة، فضلاً عن عدم إمكانية توحيد جماهير الشغيلة المذعورة والمحطمة والجاهلة.
في رده على مقالة باكونين " نداء إلى السلاف"، الذي أكد على أن تحالف الشعوب الثورية ضد الشعوب المعادية للثورة لا يتم تحقيقه على الورق، وإنما في ساحة الوغى وأعرب عن أمله في أن تتحرر الشعوب السلافية من خلال نضالها المستميت وتحصل على استقلالها وتبني مستقبلاً باهراً، كتب إنجلس " إذا أخذ ممثلو الرابطة السلافية الثورية هذا الكلام على محمل الجد فإننا سنعرف كيف نتصرف. فعندئذ سنخوض نضالاً مستميتاً ضد السلاف الذين خانوا قضية الثورة. إنه نضال من أجل الإبادة وإرهاب لا يرحم وهذا ليس في مصلحة ألمانيا وإنما في مصلحة الثورة"(صحيفة الراين الجديدة. 14-16/2/1849).
في رسالته إلى المؤرخ والخبير الاقتصادي الألماني كارل كاوتسكي (10 شباط/فبراير عام1882) كتب إنجلس "...قد تسألني هل حقاً ليس لدي اي تعاطف مع الشعب السلافية الصغيرة؟ في الحقيقة قليل جداً، إذ لا يمكننا الدفاع عنهم إلا بعد أن تنهار القيصرية وعندما تتخلص هذه الشعوب القزمة من نزعة الرابطة السلافية....".
بقيت روسيا والشعوب السلافية فكرة متسلطة لدى ماركس وإنجلس خلال حياتهما الطويلة. وكان موقفهما سلبياً على الدوام. ومن الأمور الطبيعية أن يكون العداء هذا مرتبطاً بالسلطة القيصرية الاستبدادية المعادية للثورات الأوروبية. غير أن السلطة شيء والشعب شيء آخر، بينما نجد أن ماركس وإنجلس ينقلان العداء والكراهية من النظام السياسي للدولة إلى مواطنيها. وبهذا الصدد يشير المؤرخين الروس وخاصة القوميون منهم إلى أنه ليس مقبولاً على الإطلاق أقوال ماركس الشوفينية حول الروس مثل " كانت كراهية الروس ولا تزال لدى الألمان شغفهم الثوري الأول" و" إن الحرب ضد روسيا فقط هي حرب ألمانيا الثورية" أو " إن الثورة يمكن أن تقصد الإنقاذ عندما ينبغي إنقاذ أوروبا الغربية أو تعني الإهلاك حينما يدور الحديث عن روسيا، إذ من الطبيعي أن تُهلك وتتجزأ. ومن الأفضل إذا أمكن محوها من على وجه الأرض". ويؤكد هؤلاء المؤرخون على أن أقوالاً كهذه لا تليق ابداً بباحثين قديرين وفيلسوفين شهيرين. وهم يعتبرون أن كل ما يقوله ماركس ورفيقه إنجلس عن روسيا والروس يمثل نية ممنهجة ومدروسة ومتعمدة لإهانة هذه الدولة الكبرى وشعبها وتاريخها وحضارتها.
ومن جهة أخرى يرى رئيس تحرير صحيفة"سوليدارنست" (التضامن) ألكسندر شرشوكوف أن مؤسسي الماركسية يمثلان، في واقع الأمر، الإمبريالية الألمانية الصاعدة حيث يشار إلى أن مصالح البروليتاريا تكمن في تعزيز قوة وجبروت الدولة الألمانية أو إذا توخينا الدقة "لا ينبغي على العمال مجرد الذود عن الدولة الألمانية الموحدة وغير القابلة للتجزئة فحسب ، بل يجب السعي لبلوغ أقصى درجات تركيز القوى في يدي السلطة الحكومية (المجلد 7، ص. 265-266). وبخصوص المهام الأساسية الخارجية للدولة الألمانية يعلن رسولا الشيوعية "أن الأمم الأوروبية الكبرى القادرة على الحياة تُتاح لها أكثر فأكثر إمكانية العودة إلى حدودها الطبيعية" (المجلد 13، ص.281). ويؤكد الباحث على أنه بينما تحفل كتابات ماركس وإنجلس بالتحامل والتهجم على روسيا نجدهما( وخاصة ماركس) يمجدان الفكرة البروسية رغم بعض الانتقادات بخصوص الرواسب الإقطاعية وتشرزم الدولة(مجلة كومرسانت، 3 آذار/ مارس، 1998).
ويشير شرشوف، في الوقت نفسه، إلى أنه ظهر في منتصف القرن 19 تقليدان "مجيدان" في أوروبا: الأول- معاداة السامية والثاني -كراهية السلاف من قبل ماركس وإنجلس وإنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى اندمج هذان التقليدان "المجيدان" معاً في إيديولوجيا واحدة (إيديولوجيا الحزب النازي). ولكن تم تحطيمها في عام 1945 (المصدر السابق).
من الملفت للنظر أن ماركس كان ينشر العديد من أعماله الموجهة ضد الروس في صحيفة " فري بريس" اللندنية، التي كان يملكها المغامر البريطاني والصحفي اليميني المختص في السياسة الخارجية والمؤيد لتركيا ديفيد أوركهارت. وهو معروف بآرائه المعادية للديمقراطية. وهذا يدل على ان مؤلف"رأس المال" كان مستعداً من أجل النضال ضد روسياً أن يتعاون مع نقيضه السياسي المكشوف.
يرى المؤرخ أنطون باومغارتين أن ماركس تربى على التقليد الأوروبي القوي المعادي لروسيا المفعم بالنزعة العدوانية والرعب تجاه بلد "بربري" ضخم يقع في الشرق. وقد أحدث ذلك عقدة نفسية ثابتة لدى الأوساط الاجتماعية الأوروبية والطبقة السياسية. ومن جهة أخرى يؤكد العديد من المثقفين والمؤرخين من ذوي النزعة القومية الروسية أن انتماء ماركس القومي كان بمثابة الوقود المحرك لكراهيته غير المحدودة لروسيا والشعب الروسي حيث من المعروف أنه كان على اطلاع واسع بخصوص أوضاع اليهود في الإمبراطورية الروسية وأعمال النهب والسلب والاعتداءات التي يتعرض لها اليهود هناك من قبل الأهالي في ظل تقاعس السلطات عن حمايتهم على النحو اللازم. على كل حال من الصعب أن نجد أحداً من السياسيين المعاصرين لماركس يتحدث عن الروس بمثل هذه الكراهية العميقة والحقد الدفين.
في آخر سنوات حياته بدل ماركس، إلى حد معلوم، مواقفه من روسيا حيث اهتم بدراسة آفاق النظام المشاعي في الزراعة السائد هناك والتقى مراراً بمجموعة كبيرة من الروس الماركسيين أو نشطاء الحركة الشعوبية مثل جرمان لوباتين وبيوتر لافروف ونيكولاي موروزوف وليف غارتمان. كما أجرى مراسلات مع مترجم"رأس المال" إلى اللغة الروسية دانيلسون وفيرا زاسوليتش.
عندما طرحت في عام 1924 فكرة نقل رفات ماركس إلى الاتحاد السوفيتي رفض أحفاده ذلك رفضاً قاطعاً معلنين أن البلاشفة لا يمتون بأية صلة إلى ماركس الحقيقي.
3463 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع