عائلة شيت خطّاب - الجزء الثاني

                                                  

        الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

          

عائلة شيت خطّاب - الجزء الثاني

القائد محمود شيت خطّاب:

يُعد اللواء الركن محمود شيت خطّاب من مفاخر العسكرية العراقية، وكان أحد قادة الجيش العراقي الباسل وأبطاله، حيث نُقشت بطولاته على الصخور في مدينة جنين الفلسطينية بعد ما استردت قواته المدينة عام ١٩٤٨م، وقد شهد له الجميع بالكفاءة والشجاعة.

يقول الدكتور سعد سالم أنه أكمل دراسته للدكتوراه في بيروت، وكان موضوعها (محمود شيت خطّاب واثره على الفكر العسكري)، حيث دخل في صميم فكر خطّاب من ناحية عسكرية الذي كان فكرا نموذجيا.

 

محمود شيت خطّاب والقضية الفلسطينية:
لقد تعرَّف محمود شيت خطّاب في شبابه على العقيد صلاح الدين الصبّاغ (1894-1945م) والذي كان من نوابغ العسكريين، وكان أبوه مصري الأصل من أهل صيدا، وأمه موصلية عراقية. كما تعرَّف خطّاب على العقيد الركن محمد فهمي سعيد (1898-1942).

لقد تحدث محمود شيت خطّاب عن علاقة بالفلسطينيين قبل أن يكمل عامه العشرين؛ فيقول: "كنتُ أعرف قسماً من الفلسطينيين قبل عام 1948، فقد كنتُ على اتصال وثيق بالمجاهدين الفلسطينيين منذ عام 1938، حين كان الشهيدان البطلان: العقيد الركن صلاح الدين الصبّاغ والعقيد الركن محمد فهمي سعيد يمدَّان الثورة الفلسطينية بالسلاح والعتاد سرًّا، وكنت يومها أسلمُ السِّلاح والعتادَ لهؤلاء المجاهدين الفلسطينيين في منطقة (أبي غريب) من ضواحي بغداد".

ويضيف خطّاب قائلا: كنتُ طالباً في كلية الأركان، فلمَّا تخرَّجت عام 1948م، قدَّمتُ طلباً إلى وزارة الدفاع العراقية لكي أتطوعَ للجهاد في فلسطينَ، فأُرسلتُ إليها ضابط ركن، للواء الرابع في مدينة جنين الفلسطينية، وبقيتُ هناك قدر عامٍ، حتى عدت مع الجيش العراقي.

معركة جنين عام 1948:
عندما أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب عام 1948، بدأ اليهود يستعدون للاستيلاء على المدن والقرى الفلسطينية. وأخذ أبناء فلسطين يشترون السلاح من الأردن وسورية ومصر والعراق للدفاع عن أنفسهم وبلدهم لترتيب أمر الدفاع عنها.

وعلى أثرها تطوع عدد كبير للجهاد وقاموا بتشكيل فصائل ومجموعات من المقاتلين للمشاركة في الدفاع عن المنطقة ريثما تدخل الجيوش العربية إلى فلسطين.

وقبل بدء انسحاب القوات البريطانية، بدء الصهاينة يستولون على طرق المواصلات، ويغيرون على المدن والقرى ويشردون أهلها.

تتميز مدينة جنين بموقع استراتيجي هام، فهي تقع على الطريق الداخلي الوحيد الذي يربط شمال فلسطين بجنوبها، وهي مركز تجمع لطرق المواصلات، ولذا فقد بدأ اليهود بالاستعداد للزحف على جنين، وأخذت طائراتهم تشن غاراتها يومياً، وقاموا بمهاجمة القرى الواقعة شمالها واحتلوها.

لقد حشد اليهود قوات كبيرة شمال جنين، زادت على خمسة آلاف مقاتل، فكانت أربع فرق كل فرقة تضم (1250) مقاتل. وقد انطلقت هذه القوات واحتلت عدد من القرى وتقدمت صوب مدينة جنين في اتجاهات ثلاثة وتوقفت عند جسر (خروبة).

لقد بدأ القتال عندما حاولت كتيبة صهيونية الاستيلاء على جسر (خروبة)، فصمد حراس الجسر من العراقيين، واستطاعت الحامية العراقية بقيادة الرئيس (النقيب) نوح عبد الله التي كانت قد وصلت جنين في 28 أيار/ مايو وعدد أفرادها 180، واتخذت من (القلعة) مركزاً لقيادتها من تأخير الزحف أكثر من ساعة، وقد استشهد خلالها تسعة عشر جندياً منهم، وانسحب الباقون إلى القلعة.

وانطلقت الكتيبة الصهيونية إلى قلب المدينة تحتل منازلها وتركز هجومها على القلعة. وكان كثير من اليهود يرتدون الأزياء والملابس العربية: العسكرية منها والمدنية، لتضليل أهل القرى والقيادة العسكرية العراقية. وقد استمر القتال من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وحتى السادسة صباحاً، وقد احتل اليهود معظم أحياء المدينة.

لقد كانت خطة الرئيس نوح داخل القلعة: الدفاع عن المركز وصد الهجوم المتواصل، والمحافظة على أرواح الأهالي الذين لجأوا إلى المركز، وقد طلب النجدات من القيادة العراقية في نابلس.

ولما امتدت ساعات القتال، وأخذت الذخيرة تنفذ، ألح في طلب النجدة حتى تحرك فوج عراقي نحو جنين. وانهمك سكان القرى باستنفار النجدات من جميع القرى. فشاغلت قوات العدو ساعتين، وأرغمتها على تخفيف ضغطها عن المركز.

وفي الوقت الذي توالت فيه النجدات لليهود، وصل الفوج العراقي يقوده العقيد صالح زكي والمُقدّم عمر علي على بعد ثلاثة كيلومترات من جنين، وكان محمود شيت خطّاب مساعدا للمُقدّم عمر علي.

لقد جرت معاركُ طاحنةٌ بين الجيش العراقي والجيش الإسرائيلي؛ لاستعادة قرية عارة وقرية عرعرة وقرية صندلة، وهي من قرى جنين. وقد تمكن الجيش العراقي بمساعدة المتطوعين الفلسطينيين من الانتصار على القوات الإسرائيلية وإعادة هذه القرى وغيرها إلى العرب.

وقام العراقيون يقصفون المواقع اليهودية بنيران مدافعهم، التي أخذت تمهد لعمليات الزحف. وتقدمت القوات العراقية نحو المرتفعات الشرقية والغربية، وارتفعت معنويات المتطوعين، واحتل العراقيون سفوح جبال برقون، واشتبكوا بالسلاح الأبيض مع اليهود.

وفي الساعة الثالثة والنصف من صباح الجمعة الرابع من حزيران/ يونيو بدأ اليهود ينسحبون، وأخذ العراقيون والمجاهدون يطهرون المدينة بيتاً بيتاً من العدو، وقبل صلاة الجمعة كانت مدينة جنبن كلها قد تطُهرت.

لقد كان لمعركة جنين نتائج هامة ترتبت عليها آثار امتدت إلى ما بعد القتال، وأهمها أنها انتهت بنصر مبين للعرب، وأرغم اليهود على مغادرة جنين، وكان قتلاهم في المعركة كثيرون. وقد ذكر اليهود أن عدد القتلى والمفقودين بلغ في معركة جنين (1241) فرد من بينهم ابنة دافيد بن غوريون (1886- 1973) أوّل رئيس وزراء لإسرائيل. وقد أحصى المُقدّم عمر علي من لم يسحبوهم من القتلى فوجد أنهم ثلاثمائة وخمسين بينهم قائد الحملة.

وأما شهداء العرب فكانوا خمسين من العراقيين والمتطوعين دفنوا في مقبرة الشهداء، وقد غنم العرب في المعركة كمية كبيرة من الأسلحة والعتاد. وكانت جنين المدينة الوحيدة التي احتلها اليهود ثم تم تحريرها بالقوة.

محمود شيت خطّاب من أبطال معركة جنين:
يقول اللواء الركن محمود شيت خطّاب: " كان أهل جنين منسجمين إلى أبعد الحدود مع الجيش العراقي؛ لأن هذا الجيش أعاد جنين إلى العرب في ذلك الوقت، وانتصر فوجٌ واحدٌ، بلغ تعداده (822) ضابطاً وجندياً على عشرة آلاف مقاتل صهيوني، وكانت خسائرهم في تلك المعركة أكثر من تعداد الجنود العراقيين، بينما خسائر العراقيين 30 شهيداً، مع أن المعركة (تصادفية)، ولم يكن أيٌّ من المنتسبين إلى الجيش العراقي قد سمع بـ (جنين)، أو يعرف حتى مكانها! ولا توجد لديهم خرائط؛ بل إن الهجوم كان ليلاً، ومع ذلك انتصر العراقيون".

ويضيف خطّاب: "كانت هناك تعليماتٌ بعدم التعرُّض للعدو الصهيوني، إلا بأوامر صريحة، ولكنني استطعتُ أن أتَّفق مع اثني عشر فلسطينياً، منهم المرحوم فوزي الجرَّار، ونتواعد تحت القنطرة ليلاً؛ لنهاجم إحدى القرى ..".

علاقته بأهل جنين:
لقد كانت علاقة محمود شيت خطّاب بأهل جنين من أقوى العلاقات، فبعد سنة قضاها هناك؛ صار كأنه من أهل البلد، وتربطه بهم أواصر المحبة والصداقة. يقول خطّاب: "لم أكن غريباً عن أهل فلسطين عندما قدمتها مع الجيش العراقي الذي استقر في المثلث العربي: (نابلس – طولكرم – جنين)؛ ولكنني بعد مكوثي فيها سنةً كاملةً؛ ازددت علماً بها، فربطتني بأهلها روابط من الصداقة والثقة المتبادلة والحب الصادق، تلك الروابط التي لا تزداد مع الأيام إلا قوةً ومتانةً. فكنتُ أتَّصلُ بهم بالرسائل، وأرعى أولادهم من التلاميذ والطلاب، الذين يدرسون في مدارس العراق ومعاهده وجامعاته".

ويضيف خطّاب قائلا: "كانت رسائلهم تردني تباعاً قبل نكبة 5 حزيران (يونيو) 1967، وكان أكثرهم يحلُّ ضيفاً بداري ببغداد كلما زاروا العراق، وكان أولادهم ولا يزالون أولادي، يزوروني وأزورهم، ويعرضون عليَّ مشاكلهم كلما حزبهم أمرٌ من الأمور، فإذا غابوا عني مدة من الزمن، فتَّشت عنهم في مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم؛ أسألهم عن دروسهم، وأتسقَّط أخبار أهلهم، فأفرح لفرحهم، وأحزن لحزنهم، وما أكثر أحزانهم وأقل أفراحهم اليوم"!.

وقال أيضا عن أهل جنين: "أذكرُ أنني كنت أتناول الطعام في منازلهم أكثر مما كنت أتناوله في مطعم الضباط، وقد تدخلوا حتى في أيسر شؤوني الإدارية، وكنت إذا مرضتُ عادوني، وإذا غبتُ عنهم سألوا عني. لقد كانوا أهلي، وكانت جنين بلدي، ولا أزال حتى اليوم أتحسَّر على تلك الأيام التي قضيتها بين أهلي - أهل جنين - وفي بلدي جنين. وما يُقال عني، يُقال عن العراقيين الآخرين".

ويقول خطّاب في موضعٍ آخر: "بلغت علاقتي بهم حدًّا أنَّ الذي كان يريد أن يتزوج فتاة من فتيات آل جنين؛ يسألني أن أذهب لأبيها، ولم يحدث أن أحدًا من الآباء ردَّني خائبًا، والسرُّ في ذلك أن علاقتي بهؤلاء المقربين نشأت في المسجد، فصداقة المسجد لها نكهةٌ خاصةٌ، ووفاء خاصّ، وثقةٌ بغير حدود، وما زلتُ إلى اليوم تصلني رسائل من أولاد جنين المقيمين في فرنسا وإسبانيا، يطلبون العون، فلا أتأخر عنهم أبدًا".

    

مهرجان تأبين الشهداء:
قبل انسحاب الجيش العراقي من جنين أقام بالتعاون مع بلدية جنين نصباً تذكارياً وسط المدينة، تذكاراً لشهداء جنين وقُراها. وتم الاحتفال بإزاحة الستار الحرير المقصب والموشح بآيات الله عن النصب التذكاري الرخامي بتاريخ 26 آذار 1949 من قبل العقيد العراقي صالح زكي توفيق وسط حشد جماهيري.

لقد ألقى القائد عمر علي خطّابا حماسيا في ذلك الحفل الكبير والذي كان عريف الحفل الشاعر برهان الدين العبوشي (1911-1995)، فقام بتقديم الخطباء مستهلاً بكلمة مؤثره من شعره الوطني منها:
عبق الشهادة ريحهُ أزكانـــــــا ... طوبى لكم فردوسكم وجنـــانا

ثم توالى الخطباء، ثم قدَّم الرئيس أول الحاج محمود شيث خطّاب الذي ألقى قصيدة عصماء بعنوان (معركة جنين الخالدة) من ثمانية عشر بيتا، ومن ما جاء فيها:

دعـنـي أخـي لا تُحـرجـوا الإنسـانــــــا ... إنّا بذلنـا للعـلا أثـمـانـــــــــــــــــا

هـذي قبـور الخـالـديـن فقــــــــدْ قَضَوا ... شهداءَ حتى أنقذوا الأوطـانـــــــــا

قـد جـالـدوا الأعــــــداء حتى استُشهدوا ... مـاتـوا بسـاحـات الـوغى شجعـانـــا

الـمخلصـون تسـربـلـوا بقبـورهـــــــــم ... والخـائنـون تسلّمـوا الـبنـيـانــــــــا

أجِنـيـنُ إنكِ قـد شهدتِ جهـادَنـــــــــــا ... وعـلـمتِ كـيف تسـاقطتْ قتلانــــــــــــا

ورأيـتِ معـركةً يفـوز بنصرهـــــــــا ... جـيشُ العـراق وتُهـزم (الهـاجـانــــا)

أجنـيـنُ لا أنسـى الـبطـولةَ حـــــــيّةً ... لـبنـيكِ حتى أرتدي الأكفـانــــــــــــا

إنـي لأشهد أن أهلكِ كـافحـــــــــــــوا ... غَزْوَ الـيـهـود وصـارعـوا العـدوانــــــا

فإذا نُكِبتِ فلستِ أوَّلَ صــــــــــــــــارمٍ ... بـهظته أعبـاء الجهـاد فَلانــــــــــــا

أجنـيـنُ يـا بـلــــــــــدَ الكرام تجلّدي ... مـا مـات ثأرٌ ضرَّجته دِمـانــــــــــــــا

لا تعذلـوا جـيش العـــــــــــراق وأهله ... بـلـواكـمُ لـيست سـوى بـلـوانــــــــــا

إن السِّنـان يكـون عــــــــــــــند مكبَّلٍ ... بـالقـيـد فـي رجلـيـه لـيس سنـانــــــا

مَرْجُ ابنِ عـامـرَ ضرَّجته دمـاؤنـــــــــــا ... أيكـون مُلكًا للـيـهـود مُهـانـــــــــــا

الـمسجـدُ الأقصى يـنـــــــــــــادي أمّةً ... تـركتْه أضعف مـا يكـون مكـانـــــــــــا

إنـي لأعـلـم أن ديـــــــــــــــن مُحَمَّدٍ ... لا يرتضـي للـمسلـمـيـن هَوانـــــــــــا

إن الخلـودَ لـمـن يـمـوت مـجــــــــاهدًا ... لـيس الخلـود لـمـن يعـيش جـبـانـــــــا

https://www.youtube.com/watch?v=HGe5chZ0jIM

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

516 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع