ضرغام الدباغ
أبن أبي الربيع
في إطار تقديمنا لمفكرين وعلماء طرقوا الفكر السياسي الاسلامي مبكراً وأبدعوا، بل ومثل العديد منهم مصادراً للفكر السياسي العالمي الحديث
* ابن أبي الربيع :
هو شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع، وقد تناهى إلينا أسم هذا العالم ومؤلفه الوحيد المعروف(وربما له أعمال أخرى مفقودة) من خلال طبعة حجرية وجدت في القاهرة طبعت عام 1286 هج في 152 صفحة من القطع الكبير.
ولا تعوزنا المعلومات عن سيرة وحياة هذا العالم فحسب، بل وكذلك زمن تأليف مصنفه الشهير " سلوك المالك في تدبير الممالك " ونرجح أن لهذا العالم أعمالاً أخرى مفقودة، ويدل على ذلك عمق فكره الفلسفي السياسي وإطلاعه الدقيق على أعمال غيره من العلماء. فقد وجدنا أن تاريخ هذا المصنف كما ورد في صدر الطبعة الحجرية، يعود إلى عصر الخليفة العباسي الثامن (المعتصم) سنة 227 هج/ 842 م ، فيما يرجح مؤرخون آخرون، أنه يعود إلى عهد آخر الخلفاء العباسيين، الثامن والثلاثين، المستعصم المتوفى عام 656 هج/ 1258 م وبين التأريخين هناك 429 سنة، ومن الصعوبة القطع أي من الوقائع هي الأرجح، فقد أنقسم المؤرخون والمستشرقون على أنفسهم بصدد هذه المسألة.
وهذه الواقعة ليست الوحيدة في ثنايا الفكر السياسي العربي الإسلامي، فهناك قضايا مشابهة عديدة أبرزها: المصنف الموسوم " قانون السياسة ودستور الرياسة " حاول محققه وهو باحث نابه، التوصل بشتى الأساليب إلى معرفة هذا المصنف الهام، ولكن مساعيه لم تصادف النجاح، وهكذا صدر الكتاب يحمل عنوانه ولكن لمؤلف مجهول...! بيد أن زمن هذا المصنف واضح على نحو ما، (بين 759 هج/ 763هج)، فقد أهداه مؤلفه إلى السلطان شاه شجاع قائد الدولة المظفرية (وعاصمتها أربيل) التي حكمت بلاد فارس وكرمان وأذربيجان وأصفهان وتبريز من سنة 718 هج/ 795 هج، وهي سلالة عربية الأصل والانحدار التي سكنت خراسان مع بداية الفتح الإسلامي لها، وتعاقب على حكم الإمارة المظفرية، المنظوية تحت لواء الخلافة العباسية، سبعة سلاطين خلال 78 عاماً.(1)
والمصدر الوحيد المتاح لنا من أعمال أبن أبي الربيع وهو مصنفه الشهير: سلوك المال في تدبير الممالك " ومحقق الكتاب وهو أستاذ فلسفة عراقي معروف (د. ناجي التكريتي) يرجح أن الكتاب مقدم إلى الخليفة العباسي الثامن والثلاثين، المستعصم بالله الذي قتل على يد هولاكو عام 1258/ ونهاية الدولة العباسية، لسببين أثنين:
الأول: ينطوي الكتاب على نضج فكري / فلسفي سياسي عميق يستبعد أن يكون قد جاء بعد الكندي والفارابي.
الثاني : أن الاتجاهات السياسية في فكر أبن أبي الربيع، متأثرة بالفلسفة اليونانية التي جرى ترجمتها بشكل واسع النطاق في عهد الرشيد والمأمون، كما أن أسلوب كتابة أبن أبي الربيع متأثر بدرجة كبيرة (ويثبت د. ناجي التكريتي ذلك) بكتاب يحي بن عدي المتوفي سنة 365 هج/ 975 م وقد نقل عنه أبن أبي الربيع أسلوب الجداول والتشجير، كما أن مقاطع عديدة من الكتاب تكاد تكون متماثلة مع مؤلف بن عدي.(2)
ويضم الكتاب أفكار فلسفية / سياسية مهمة، يتفق فيها أبن أبي الربيع مع علماء عصره وغيرهم من العرب المسلمين أو من غير العرب، من أن الإنسان اجتماعي بطبعه، وأنه لا يكفي الواحد منهم بالأشياء كلها. ثم ينتهي إلى حقيقة مهمة في الفلسفة السياسية قائلاً" فقد تبين مما ذكرنا أن الناس مضطرون إلى تدبير وسياسة وأمر ونهي، وإن المتولين لذلك ينبغي أن يكونوا أفاضلهم " وهنا يستحق الإشارة إلى أمرين أثنين:
الأول: أن أبن أبي الربيع يعتبر العمل السياسي هو حتمية لالتقاء واجتماع البشر.
الثاني : أن يتصدى لهذا العمل أفاضل الناس.(3)
ثم يتطرق أبن أبي الربيع إلى موضوعة لا تقل أهمية، إذ يقول : أن أركان الدولة هي أربعة، ويودعها المهام القضائية، والتنفيذية، والأجهزة التي تشكل كيان الدولة فيما يبقى الخليفة والشريعة مصدراً وحيداً للتشريع :(4)
1 . الملك (الرئيس).
2 . الرعية (الشعب).
3 . العدل (مبدأ العدل وأجهزة العدالة).
4 . التدبير (السلطات التنفيذية).
وفي إشارته : إن على الملك (الحاكم) أن يعمل على أشغال رعيته لكي لا يجدوا وقتاً للتفكير في مفسدة (5)، وتوجه فيها أبن أبي الربيع إلى مرتبة فلاسفة السياسة، لما بعد ميكافيلي، فهو يجعل السياسة أداة بيد الحاكم. ولا غرو، فمفكرنا يستشهد بالآيات القرآنية بأسلوبه الخاص، وآثار الفلاسفة الإغريق، أفلاطون وأرسطو تبدو واضحة وكذلك أعمال فلاسفة عرب ومسلمين، بالإضافة إلى الإبداع الذاتي في طرقهم الحثيث لأفاق الفلسفة السياسية. فنحن إذن أمام ثلاثة مصادر رئيسية لمفكر مثل أبن أبي الربيع وربما آخرون غيره من هذا المستوى أو ما يقاربه، وهي :
1/ الشريعة (الكتاب والسنة والاجتهاد). 2/ منجزات الفلسفة. 3/ الإبداع الذاتي.
ثم نقرأ لأبن أبي الربيع ملاحظة واضحة ومهمة تزيد من قيمة مصنفه على المستوى العلمي وبها يكتسب ثقة ومصداقية في إشارته الواضحة إلى اقتباسه من أعمال وكتب علماء آخرين، وتلك لا تنقص من أهمية كتابه، بل تزيد من درجة علميته ورصانته.(6)
ومثله مثل الفارابي تقريباً، يركز أبن أبي الربيع على ضرورة أن يكون الملك أو الرئيس حكيماً عالماً، ويضع ذلك في المرتبة الأولى من صفات الملك، إذ يقول:" أن يكون له قدرة على جودة التخيل " ولكنه من جهة أخرى يؤكد على قدسية مكانة الملك بقوله " إن الله هو ينصب الحكام " ثم يقول في مكان ثالث وبوضوح " أكبر " إن الله جل جلاله لما خص الملوك بكرامته ومكن لهم في بلاده ودخولهم عبادة أوجب على علمائهم تبجيلهم وتعظيمهم وتوقيرهم، كما أوجب عليهم طاعتهم " (7)
فهو إذن يقبل النظام الملكي الوراثي، إذ يشترط في الملك أن يكون من أهل البيت المالك، قريب النسب ممن ملك قبله، وحسب الاتفاق(ولي العهد) ولكن أبن أبي الربيع يبقى السؤال حائراً، ماذا وكيف مع الملك أو السلطان الجائر..؟وأقصى ما يقبله أبن أبي الربيع، هو أن يتجه العلماء إلى الملك بالنصح والإرشاد و " تزين العدل وتقبيح الجور واستهجانه" ولكن على الرعية الطاعة في جميع الأحوال.(8)
وفي إطار الفكر السياسي لأبن أبي الربيع، نجد أهمية كبرى لدور مؤسسات الدولة وتحديداً الوزارة، والمؤسسات التي تعتمد عليها الدولة، القضائية منها والتنفيذية، فهو يؤكد أن أهم المؤسسات والشخصيات في الدولة :
1 . وزير عالم : ويصفه بالشريك في الحكم ويعادل في عصرنا الراهن رئيس الوزراء.
2 . الكاتب : ويعادل في عصرنا الراهن الوزير أو المدير العام.
3 . الحاجب : ويعادل في عصرنا رئيس ديوان الرئاسة.
4 . قاض : ويمثل الجهاز القضائي.
5 . الجند : الجيش.
6 . قائد الشرطة : رمز السلطة التنفيذية.
7 . العامل : المحافظ. (9)
ويضع أبن أبي الربيع مهما التخطيط الاقتصادي وتقدير موارد الدولة(الدخل القومي) وتحديد مصادرها من مصدرين رئيسيين:
1 . الأموال الشرعية، وهي معروفة وثابتة.
2 . الأموال التي تفرضها الدولة لأحكام الضرورة والاجتهاد.
ثم أنه يتقدم باقتراح صائب، هو أن يتكافأ الأنفاق، أي أنه يسعى لأن لا تصاب ميزانية الدولة بالعجز.(10)
وإن شئنا بكلمة ختامية أن نقيم هذا المصنف الهام نقول: إن المشكلة الرئيسية فيه تكمن في عدم التثبت بصورة دقيقة وحاسمة من تاريخ تأليفه. فالباحثون الذين يرون أنه كتب في زمن الخليفة المعتصم لهم حججهم وأسانيدهم، ومن يرى أنه كتب في زمن الخليفة المستعصم (وذلك رأينا أيضاً) ولهم أسانيدهم كذلك، ومن الصعب القطع بصورة تامة بتاريخ تأليفه، ولكن من المؤكد أن للكتاب قيمة فلسفية وسياسية كبيرة وهو يبحث في السياسة والفلسفة والأخلاق والإدارة والشريعة، بل وحتى في تخطيط المدن، وذلك ما دعى بعض العلماء العرب المعاصرين بوصفه " أبن أبي الربيع، رائد الفكر السياسي الإسلامي الأول".(11)
وأي كانت أراء الباحثين، فإن هناك إجماعاً، بأن هذا النص هو من أفضل النصوص الفلسفية العربية الإسلامية وأن مؤلفه من خيرة العلماء الذين أشغلوا في الفلسفة السياسية.(12)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1. لمؤلف مجهول : قانون السياسة ودستور الرئاسة ، ص7
2. التكريتي، د. ناجي : الفلسفة السياسية عند أبن أبي الربيع ، ص 8
3. أبن أبي الربيع : سلوك المالك في تدبير الممالك ، ص175
4. أبن أبي الربيع : سلوك المالك ، ص176 / 192
5. أبن أبي الربيع : سلوك المالك ، ص187
6. أبن أبي الربيع : سلوك المالك ، ص86 / 88
7. أبن أبي الربيع : سلوك المالك ، ص93 / 175 / 174
8. أبن أبي الربيع : سلوك المالك ، 174 / 178
9. أبن أبي الربيع : سلوك المالك ، ص193
10. أبن أبي الربيع : سلوك المالك ، ص191
11. شرف، محمد جلال : الفكر السياسي الإسلامي
12. التكريتي، د. ناجي : الفلسفة السياسية ، ص80
3218 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع