المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
الخير بين زمنين
كثيرا ما يردد البعض عند الحديث عن الزمن الذي مضى في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي فيصفونه بزمن الخير والذي يستند على قناعة الإنسان وبساطته في العيش ومتانة العلاقات الاجتماعية بين افراد العائلة الواحدة والاقارب والجيران التي أصبحت نفتقدها في الوقت الحالي وجاء هذا الوباء الغدار الخبيث الكورونا يقضي على ما تبقى من اواصر هذه العلاقات في الدعوة الى التباعد الاجتماعي، والحديث عن الخير المعنوي في الزمن الماضي والخير المادي في الزمن الحاضر يقودني الى سرد بعض ما علق في ذهني عن تصور العيش البسيط في ذلك الزمن وأخص الحديث عن جهاز التلفزيون.
من المعلوم في كون العراق أول دولة في الشرق الأوسط تأسست فيه محطة للبث التلفزيوني في عام 1956 في زمن النظام الملكي وكان البث بالابيض والاسود ويقتصر على العاصمة بغداد. كنا نسكن في محلة كمب سارة خاتون والتي كانت تقع في حدود معسكر الرشيد كنت في الصف الخامس الابتدائي في عام 1959 وكان المرحوم والدي قد استأجر لنا غرفة في دار الحاج سعدي ابو امير وكان من عائلة ثرية حيث كان والده تاجراً في سوق الشورجة وعند وفاته ترك لورثته العديد من العقارات في هذا السوق، ابتلى ابو امير بحب امرأة وتزوجها بالرغم من ممانعة اهله واقربائه وحصلت من جراء ذلك جفوة وقطيعة معه، لقد كانت أم أمير امرأة حديدية سيطرت على إرادة زوجها ومكنت نفسها من تسيير أمور العائلة كما تشاء وكانت صرافة و مبذرة بشكل عجيب، زوجها كان يعمل موظفاً صحياً في مستشفى الشرطة ولكنه كان يستلم نصيبه الذكوري (للذكر مثل حظ الأنثيين) عند بيع أي عقار من أملاك والده التي تركها بعد وفاته وكانت تباع بأثمان عالية وحصته من ثمن البيع كحصة الأسد باعتباره الولد الوحيد للعائلة مع ثلاثة شقيقات، المهم كانت ام امير تستلم حصة زوجها كاملة غير منقوصة وتبدا كالعادة ببيع جميع اثاث دارها بثمن بخس وتشتري اثاث جديد بالرغم من صلاحية الأثاث القديم وعدم وجود ما يستوجب استبداله بالإضافة الى توجهها الى شارع النهر لغرض شراء الملابس والأقمشة الفاخرة بالإضافة الى شراء الذهب للتعويض وبطريقها لا تنسى التوجه إلى محلات الصاغة الذين تعرفهم وتتعامل معهم عند شراء وبيع الذهب عند شراء الذهب بثمن اغلى من سعره وبيعه عند الحاجه بثمن اقل من سعره بكثير.
وكان زوجها عندما يرى هذه التصرفات من زوجته المسببة للخسارة والضرر يكتفي بترديد عبارة (لا حول ولا قوة الا بالله) وينتقم منها من خلال الإضرار بصحته حيث لا يترك أي مجال زمني في تدخين سيجارة واخرى.
المهم كان اثاث دار ام امير متكامل من جميع اللوازم الكهربائية و حسب ما موجود في ذلك الزمن ومن جميع اللوازم الخشبية والفرش الايراني والكهربائيات المتوفرة في حينه (ثلاجة، راديو، مكواة، مروحة، وتلفزيون) والذي يهمنا من كل هذا الأثاث هو جهاز التلفزيون حيث كانت محطة تلفزيون بغداد تبدأ ببث برامجها في الساعة السادسة مساءً بآيات من الذكر الحكيم ويعقب ذلك افلام كرتون الكلبة لاسي وكان أطفال الجيران يتجمعون أمام شاشة التلفزيون لمشاهدة هذه الأفلام أما النساء فكن يحضرن لمشاهدة المسلسلات و فيلم السهرة و كانت ام امير تهيء مستلزمات الجلسة من فواكه وكرزات وحلويات حباً بالظهور والتمييز على أقرانها من نساء شارعنا وكانت جارتنا صبيحة وهي بنت تركها قطار العمر و غير متزوجة تجلس وتشاهد برامج التلفزيون دون أن تترك العباءة السوداء وعندما كنت اطلب منها ان تترك العباءة ترد علي (وي مو عيب محي) كانت صبيحة تعشق المطرب ناظم الغزالي وتقول (عيني محي اموت على ناظم نيالها اللي تتزوجه).
المطرب العراقي (ناظم الغزالي)
وكانت تتوسل بي ان اهرع اليها عندما يظهر ناظم في التلفزيون وفعلا كنت اطرق بابهم و اصرخ بأعلى صوتي (صبيحة طلع ناظم) فتفتح الباب خارجة منه والعباءة على رأسها وتركض مسرعة لكي لا يفوتها مشاهدة ناظم وهو يغني إحدى اغنياته.
في نهاية عام 1961 حصلنا على دار من الدور التي تم بناؤها من قبل حكومة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في مدينة الثورة وكان عددها 911 دار وكان دارنا يحمل الرقم 903 السعر المقرر لكــــل دار هــو960 ديناراً تدفــع بشكل أقساط شهرية قيمة كـل قسط ثلاثة دنانير.
تجمع الناس في المقاهي لمشاهدة التلفاز
بعد احداث انقلاب 8 شباط 1963 وبروز الصراعات الحزبية بين الحزب الشيوعي من جهة وحزب البعث والتيار القومي العربي من جهة أخرى والصراع بين اجنحة حزب البعث نفسه خلقت حالة من عدم الاستقرار في البلد دفعت المرحوم والدي على إحالة نفسه على التقاعد والانصراف الى العمل الحر حيث فتح محلاً للخياطة العسكرية وكان بارعاً في صناعة غطاء الرأس (السدارة) التي كانت تستعمل من قبل منتسبي الجيش والشرطة في ذلك الوقت، لم نكن نملك جهاز تلفزيون شأننا شأن غالبية الشعب العراقي وفي يوم خريفي من ذلك العام عاد والدي وهو يحمل كيساً ورقياً يحتوي على مكافأة نهاية الخدمة التي استلمها من دائرته وتبلغ (330) ديناراً، بعد ان اخذ والدي قسطاً من الراحة وتحت إلحاحنا وتوسلاتنا أنا وأشقائي لإقناعه للذهاب الى السوق لشراء جهاز تلفزيون في نفس هذا اليوم وفعلاً رافقته وذهبنا الى شارع السعدون ومن احد محلاتها اشترينا الجهاز وبمبلغ سبعة وستون ديناراً وكان من ماركة (كروندك) حيث لا يمكن ان انسى هذه الماركة المعروفة في وقتها ولأول تلفزيون اشتريناه، وعدنا به الى البيت وكان جميع افراد عائلتي في استقبالنا او بالأحرى في استقبال التلفزيون هذا الزائر الذي يحسب له الف حساب في ذلك الزمن وبعد ان ادخلناه الدار واجهتنا مشكلة عدم وجود منضدة لوضعه عليها، على كل حال تدبرنا قطعة من الأثاث لهذا الغرض لحين معالجة الموقف، هرع شقيقي الأصغر مني المرحوم (نجم الدين) الى (أبو حيدر) الساكن في محلتنا والمختص في نصب أجهزة التلفزيون ورافقناه الى سطح الدار ونحن فرحين لأمرين أولهما لتشغيل الجهاز وثانيهما للتباهي امام الجيران ومستطرقي الشارع في كوننا نملك جهاز تلفزيون.
كانت فرحتنا لا توصف ونحن نشاهد (أبو حيدر) يقوم بنصب الشبكة على سطح الدار وتنظيم توجيهها نحو المحطة وربط السلك مع الجهاز، عندما ضغط على زر التشغيل ما هي الا لحظات وسطعت الصورة من الشاشة وكانت صورة العلامة المرحوم (مصطفى جواد) وهو يقدم برنامجه المشهور في ذلك الوقت (قل ولا تقل)٠
قد يتبادر الى ذه القارئ العزيزسؤال مهم عن اسباب عدم اعتبار فترة الثمانينات من القرن الماضي ضمن فترة الخير حيث اوعز (صدام حسين) الى الرئيس العراقي (احمد حسن البكر) ويقال اجبره على تقديم استقالته في ١٦ تموز ١٩٧٩ ونصب نفسه رئيساً لجمهورية العراق ومجلس قيادة الثورة بالرغم من كونه كان يمارس ويشارك رئيس البلاد جميع صلاحياته فعلاً وله حصة الاسد وتمهيداً لهذه الخطوة قام المذكور بتصفية العديد من القيادات السياسية والعسكرية لحزب البعث فيما يسمى بمؤامرة (محمد عايش) وجماعته وبعدها تفرغ للتخطيط والاعداد للحروب مع دول الجوار إيران ثم الكويت وتداعيات ذلك على الاقتصاد العراقي وانهياره تدريجياً وبهذه المناسبة يحق لنا أن نتسائل من محبي ذلك النظام ورئيسه عن قيمة الدينار العراقي عند استلام حزب البعث للسلطة في العراق عام ١٩٦٨ مقابل الدولار الامريكي واين وصلت قيمته في نهاية ذلك النظام في غام ٢٠٠٣ ومواصلة نفس النهج بل اكثر سوءً وفحشاً من النظام الذي أعقبه في الفساد والاستغلال ونهب ثروات الدولة وتحضرني في هذه المناسبة حكاية مروري قبل ثلاثة اشهر قليلة في احد ازقة مدينة اربيل وتكليفي لسائقي بانجاز عمل ومن ثم العودة وعندما تركني لاحظت مطعماً صغيراً لبيع الفلافل حيث كنا قد توقفنا امامه وكان الاقبال عليه شديداً من قبل الزبائن مما دفعني ان اترك السيارة واشتري لفة فلافل حارة وكان سعرها (٧٥٠) سبعمائة وخمسون ديناراً وبعد ان عدت الى السيارة باشرت التهام اللفة والتي كانت بحق وحقيقة لذيذة جداً وتخيلت سعر لفة الفلافل وسعر السيارة التي اشتريتها في عام ١٩٧٣ من نوع فوكسهول بريطانية موديل ١٩٦٢وبنفس سعر لفة الفلافل (٧٥٠) سبعمائة وخمسون دينار٠
يا للعجب ماذا فعلوا بالدينار العراقي حيث اهانوه بعد ان كان سعر صرفه ثلاثة أمثال الدولار الامريكي وهل يعلم القارئ الكريم بان تكلفة بناء ملعب الشعب الدولي في بغداد وكافة ملحقاته والذي بني في عام ١٩٦٦ هو مليون ومائتي الف دينار عراقي وماذا يساوي هذا المبلغ في الوقت الحاضر وماذا يمكننا البناء به.
4792 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع